مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الخامس: "المقاومة والمجتمع المقاوم"
(كلمات الجلسة الأولى)
الكتابة عن الإمام موسى الصدر في أي مجال من مجالات حركته وفكره ليست كتابة عن مرحلة تاريخية مضت، ليتوقف الباحث عندها معيداً تركيب الأحداث، وتحليلها واستنتاج خلاصات منهجية أو معرفية، بل هي كتابة عن واقع معاش متصل وملتصق بدور الإمام الصدر.
بصماته وتأثيره حاضران في كل مسارات التحولات الجارية على مستوى الوطن أو على مستوى امتداد الساحة التي شغلها بحركته وجهاده وفكره.
وصعوبة الحديث على من عاصر هذا القائد الفذ، تصل إلى حد استحالة وضع حاجز بين عاطفة متدفقة وتقدير كبير، وبين الحرص على كتابة مستندة إلى مصادر البحث وعلمية المنهج.
وكيف يقدر من يشعر بأنه مدين لفكر الإمام ونهضته وإسهامه في تفتح آفاق وعيه وبلورة معارفه وشخصيته، كيف يقدر أن يفصل بين حبه واحترامه لهذا الإنسان وبين الحديث المجرد العلمي.
عسى الله أن يوفقني للإسهام ولو ببعضٍ من وفاء، لإبراز دور هذا الإمام الجليل سليل آل بيت النبي، المرتبط بعمق منهجهم وفكرهم ودورهم الرسالي والإنساني في الحياة، من نشأة وتأسيس أهم ظاهرة عرفها تاريخ لبنان الحديث، بل تاريخ المنطقة العربية بأسرها، ظاهرة المقاومة اللبنانية التي تغذت من فكره نهجاً وثقافة ورعاية حتى صلب عودها وأينعت ثمارها، وحققت ما بشر به دائماً:
"ان إسرائيل قوية ولكنها ليست إلهاً أو أسطورة"
فكان الاندحار والهزيمة المذلة للعدو، وكان التحرير والانتصار للبنان وشعبه ومقاومته.
1- الشخصية القيادية:
ما يميز الشخصية القيادية هو تمتعها بصفات ذاتية تجسد التزامها وذوبانها في اقتناعاتها الفكرية والاعتقادية إلى حد التطابق التام بين قولها وفعلها، وموقفها وعملها، وكذلك سعيها الدؤوب، وإيمانها الراسخ بقدرة شعبها وأمتها على مواجهة الأخطار والتحديات، وتحقيق تطلعاتهم وطموحاتهم في التطور والتقدم والتحرر.
ويتجلى دور القيادة في استنهاض الطاقات والقدرات ومعرفتها وتحريكها نحو مشروع تغييري إصلاحي رغم صعوبة الواقع وتعقيداته، وتأثيره في إحباط الهمم وإضعاف النفوس.
يبرز دور القائد في تفاعله المبدع مع حركة الواقع وقدرته الهائلة على استشراف آفاق المستقبل ورسم مساراته وبناء ركائزه وفق رؤية صائبة واضحة الأهداف ووسائل لا تحيد عنها.
الشخصية القيادية يميزها تجردها عن الذات ومصالحها، الأمر الذي يمكّنها من إدراك الحقائق وإزالة الحجب عنها، فتتجاوز أقوالها وأفعالها حدود الحاضر المعاش، لتستمر مع حركة الزمن مشعل هداية، وترسم للأجيال صورة المستقبل وتنير لهم دروبه.
والإمام الصدر واحد من أبرز هذه النماذج القيادية في تاريخنا المعاصر، تقرأ في كتابه فيبهرك سعة أفقه وقدرته على فهم حركة الواقع وأسبابها ودقة تنبوئه وتوقعاته، مثله ليس كمثل أولئك المتأملين المتنبئين والحالمين، بل كمثل أصحاب الرسالات الساعين إلى التغيير والإصلاح ونشر رسالاتهم وأفكارهم، مدركين الظروف والأوضاع المحيطة بهم، بالتصدي والتفاعل والانفتاح بكل الوسائل والسبل المتلائمة مع الغاية والمبدأ. بالكلمة الناصحة الهادية والموجهة، بالحركة الدؤوبة المتصلة والملتصقة بهموم الناس وقضاياهم، بالانفتاح على مجريات الزمن وتحولاته والأحداث والقوى والتيارات والمذاهب المؤثرة، بالتفاعل المنتج الذي يحرك قوى الخير ويحدد وجهة المسير.
ويقترن كل ذلك مع حضور دائم ووعي متحرك وثبات على المبدأ واستعداد لا حدود له لتحمّل تبعات الموقف والحركة.
مثل هذا النموذج من القيادات - ليس سياسياً بالمعنى المألوف لكلمة سياسة المرادف للمصالح الآنيّة أو الفئوية أو الذاتية، والمتمثلة بطموح أو صراع غايته التسلط طلباً لنفوذ أو وجاهة أو منفعة، أو لها جميعها. هو نموذج من المصلحين، الذين يطلقون حركة التغيير ويؤسسونها ويهبونها كل ما لديهم وفيهم من طاقات وقدرة، فيتركون للأجيال عصارة فكر متجدد، ولقوى التغيير خلاصة منهج قدوة.
"نحن لسنا قادة سياسيين وإنما خبراء بشؤون الدين نهتم بالقضايا الاجتماعية إلى جانب واجباتنا الدينية"(1).
"لا أقبل أن يحدد الزعماء العرب مسؤولياتنا الدينية من خلال ما يرتأون من حلول سياسية، وليست هذه أول مرة تصطدم فيها الايديولوجية أو العقيدة مع الأساليب السياسية ومع تصرفات المسؤولين"(2).
2- ظروف نهضة الإمام الصدر:
إن الحكم على أي تجربة إنسانية، فردية كانت أم جماعية، وكذلك تقييم دور مسيرة أو حركة أو قيادة لا بد أن يأتي بعد معرفة وافية للظروف والأوضاع التي أحاطت بهذه التجربة أو المسيرة أو القيادة، من دون ذلك تتوه الأحكام في منزلقات الهوى والرغبة ونوازع الذات والتأثر بالعصبيات أو المصالح أو الإعلام الموجَّه والمؤثر على الأفكار والأفهام، والذي يحركه أصحاب السلطة أو النفوذ ممن تعارضت مصالحهم ومواقفهم مع حركة التغيير وأهدافها وقيادة مسيرتها وتجربتها.
كما أن معرفة أهداف التحرك شرط لازم لتقويم الدور والأداء وقياس مستوى نجاحه في الاقتراب من الأهداف المرسومة، ومدى إسهامه في تطور الأحداث ونتائجها.
معرفة الظروف تتيح تحديد الوسائل الممكنة والمتاحة، وتسمح بالحكم على ما تم استخدامه منها وما ابتكر، وتساعد على تقويم التجربة ونهج قيادتها سلباً أو إيجاباً، تأييداً أو معارضة.
وكذلك، فإن معرفة الأهداف تمكّن من إصدار الحكم بالنجاح أو الفشل وفق معادلة بين طبيعة الحكم ودرجته، تتناسب طرداً مع الاقتراب من الأهداف أو الابتعاد عنها.
تعرّف الإمام الصدر على مشكلات الوطن والتفاوت الاجتماعي والفجوات الإنمائية بين المواطنين والمناطق اللبنانية، بعد فترة من نشاط دائم وطويل منذ قدومه إلى لبنان في أواخر سنة 1959 وإقامته في مدينة صور في منزل الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين وبطلب منه وتأييد من المراجع الفقهية في النجف وقمّ.
استطاع الإمام الصدر، وهو العالم الديني الواسع الثقافة، والمنفتح على الحضارة الحديثة وتغيرات الأزمنة، أن يحدد بوضوح مكامن الخطر، وأن يستشعر ما يهدد سلامة الوطن ومصيره ومستقبل أجياله:
الحرمان الذي يدفع الناس للهجرة خارج أرض الوطن أو الانتقال الى أحزمة البؤس حول عاصمته طلباً للرزق وسعياً لنيل فرص عمل تمكّن من تلبية حاجات الأسر في العيش والتعلم في ظروف معيشية وسكنية بائسة، بعدما فقدت إمكانية العمل في قراها والأرياف ولم تجد لأبنائها مكاناً للتعلم والدراسة.
الظلم الاجتماعي، والغبن اللاحق بحق شرائح واسعة من المواطنين في الوظائف والإدارات الرسمية وخدمات الدولة. يضاف اليه تهجير قسري ناجم عن افتقاد الأمن في منطقة الجنوب جراء العدوان الإسرائيلي وتهديداته الدائمة.
يقابل ذلك بالإهمال واللامبالاة من أهل السلطة، وبالتقاعس عن الدفاع عن سيادة الوطن وأمن المواطن، ويُكتفى بالتفرج على جرائم الصهاينة وقصفهم وتنكيلهم واستباحتهم لسيادته الوطنية وحرمات القرى والمنازل وأمن أهلها.
ووسط ذلك كله تنتشر أفكار، ويروَّج لإيديولوجيات تستغل معاناة الناس وبؤسهم، لتمس قيمهم وثقافتهم وتهز عقائدهم، وتوظَّف في مشاريع سياسية ومصالح وطموحات يتباين أصحابها في وعيهم وإخلاصهم وصدقهم وقدرتهم على تغيير أو تحسين الأوضاع القائمة.
ويحصل تداخل بين المسألة الاجتماعية - السياسية داخلياً، ونمو ظاهرة المقاومة الفلسطينية التي وجد فيها الناس تعويضاً عن مرارات الهزائم العربية، وخصوصاً بعد هزيمة حزيران عام 1967 وإخراج المقاومة من الأردن.
فيمتزج تعاطف الناس وحبهم للمقاومة وعداؤهم للصهاينة مع رفض الفئات المحرومة لسياسة الإهمال والتمييز بين المواطنين والتخاذل أمام العدوان الصهيوني.
ويكتفي معظم علماء الدين بدورٍ تقليدي بعيداً عن قضايا المجتمع وهموم الناس، وبعيداً عن وعي التطورات الجارية وأبعادها ونتائجها واستهدافاتها، لا عن تقصير في التحرك والمطالبة في الحقوق فحسب، بل عن جمود في الفكر وتخلّف في الوعي والمفاهيم، الأمر الذي أوجد فجوة عميقة بين جيل الشباب وعلماء الدين والثقافة الدينية، انعكست ابتعاداً وغربة، وأحياناً عداءً لأحكام الدين وقيمه وتصوراته عند الشباب.
أما أهل السياسة، ممن يحسبون ممثلين للطوائف والمناطق المحرومة، فقد كانوا بعيدين في أبراج معزولة، لا يشعرون فيها مدى المعاناة، ولا يبدون تحركاً فاعلاً وجهداً مفيداً يخفف من المأساة، ويدفع مؤسسات الدولة إلى تغيير السياسات.
أدرك الإمام الصدر بحركته الدؤوبة ونشاطه الشامل على امتداد مساحة الوطن، وتواصله الدائم مع الناس والقرى والبلدات، أدرك عمق الأزمة الاجتماعية وخطورة مضاعفاتها وانعكاساتها الأمنية والسياسية والثقافية على استقرار الوطن وأمنه وتطوره، كما على مستقبل المقاومة وعلاقاتها مع المجتمع ودورها في مواجهة المشروع الصهيوني واسترداد الحق المغتصب.
3- المشروع والنهج والوسيلة:
لا ينفصل مشروع الإمام الصدر ونهجه ووسائل حركته وعمله عن ثقافته والتزامه ومسؤولياته الدينية وإيمانه الحقيقي بالله، لا الإيمان التجريدي.
"والحقيقة إن الإيمان بالإنسان هو البعد الأرضي للإيمان بالله، بعدٌ لا يمكن فصله عن البعد السماوي"(3).
والإيمان بحسب مفهوم الإمام الصدر هو الذي يحدد شخصية الانسان ويرسم قواعد التعامل والسلوك الإنساني وعلى أساسه يحدد مواقفه من قوى المجتمع.
"إن اليسار إذا وصفناه بقوى التغيير فإنني أعتبر نفسي أحد أركانه، ولكنني لا أثق بمن لا يؤمن بالله، فالإيمان في رأيي ليس تجريدياً، بل يحدد معالم شخصية الانسان وسلوكه مرحلياً واستراتيجياً"(4).
والمستقرئ لنهج الإمام الصدر ووسائله يجد منهجاً حركياً جديداً في العمل الديني وتجدداً وانفتاحاً في مفاهيمه، هو نهج مماثل لنهج الإمام الخميني (قدس سره) في نظـرته إلى العالِم الديني وواجباته ودور الناس في مشروع الإصلاح والتغيير ومواجهة الفساد والظلم والانحراف، مع اختلاف في الظروف وطبيعة ساحة العمل وجهل الكثيرين في تلك الفترة لحركة الإمام الخميني.
الحركات الإسلامية - الشيعية منها خاصة - قبل حركة الإمام الصدر وأثناءها حتى مرحلة ما قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، كان منهجها في العمل يرتكز على الوسائل والأنشطة التربوية والثقافية، وترى ذلك ضرورة لإعداد المجتمع وفق مراحل (تحاول فيها تقليد مراحل الدعوة في عصر رسول الله (ص) لا حدود زمنية لها قبل التصدي للشأن العام السياسي الاجتماعي، لم تؤمن بالحركة الجماهيرية ولم تحمل مشروعاً اصلاحياً شاملاً بل كان جهدها منصبّاً على انتقاء أفراد وتربيتهم سلوكياً وتأهيلهم ثقافياً بعيداً عن هموم وقضايا المجتمع، والتصدي السياسي لمعالجة مشكلاته. فانزوت بنفسها وأتباعها دون تأثير في الأوضاع والتطورات السياسية، واكتفت بترداد شعارات جاهزة عاجزة عن تقديم الحلول ورسم أهداف ووسائل لتحرك شعبي قادر على التأثير في الشأن السياسي العام، ووجدان الناس وعقولهم.
واستندت في ذلك إلى تبريرات وتفسيرات تعبر عن قناعات وأفهام خاصة بها حول نظرة الدين ونهجه في التحرك ومفهومه للانسان والأوطان والمجتمعات.
في ضوء هذا النهج التجديدي والفهم الديني للإسلام، "إسلام موسى الصدر"(5) حدد الإمام مواقفه وأسباب تحركه ومنطلقات حركته وأهدافها وعلاقاتها مع الآخرين.
4- الوطن في فكر الإمام الصدر:
لم يكن مفهوم الوطن ملتبساً في فكر الإمام الصدر والحاجة إليه ليست ترفاً فكرياً، كما أن الانتماء إليه ليس قيداً يحدّ حرية الفكر ويمنع التطلع إلى علاقات منفتحة مع سائر أجزاء وأوطان الأمة الواحدة. والأمم المختلفة تعبّر عن إرادة المواطنين وتاريخهم وانتمائهم الحضاري والثقافي ومصالحهم الآنية والبعيدة.
"إن الحاجة إلى الأوطان ليست ترفاً فكرياً، أو رغبة في اتساع رقعة المسكن، أو اتفاقية مكتوبة تربط بين المناطق المتعددة، بل هي حقيقة التطور والنمو التدريجي في المنافع والأخطار والمصالح والأضرار، وهي أيضاً المشاركة الحقة في الآلام والآمال· وبقاء الأوطان وخلودها أيضاً ليس أنشودة ولا حلماً، ولا التزامات وطنية أو دولية، بل هو الوحدة الحقيقية في الاتجاه من المبدأ المتكوّن مع الآلام والمنافع، وفي المنتهى المتجسد بالآمال والطموح"(6).
ما يضمن تماسك الأوطان هو وحدة المواطنين وارتباطهم بثوابت تعبّر عن طموحاتهم وأفكارهم وثقافتهم وانتمائهم الحضاري وتنظم علاقاتهم ومؤسساتهم.
والأوطان لا تبنى على الظلم والسيطرة والغلبة، ولا تستقر إلا بالعدل والمساواة وحرية الإنسان وكرامته.
لبنان في رؤية الإمام الصدر " ضرورة حضارية ودينية" (7)، وتعدد طوائفه هو بمثابة نوافذ مفتوحة على التطور الحضاري الفاعل فيما بينها لتقدم نموذجاً في العلاقات الانسانية قائماً على التسامح والتنوع والتقاء القيم الالهية ووحدتها، لتشكل مساحة ضوء تجمع أفضل ما لدى الحضارات الانسانية من نتاج معرفي وثقافي تسخره لخدمة الانسان ومصالحه وخيره، وتوجهه لدفع الشر ومساوئه وأضراره.
"لبنان هذا لا يمكن إلا أن يكون كبيراً أو لا يكون"(8)، ولا يتحقق هذا الدور "برجال صغار يحكمونه، يحددون مواطنه العملاق ليكون بمستوى تقزمهم". بل لا بد أن يحكم هذا البلد الكبير رجال بمستوى دوره وإمكانات مواطنيه.
ومن أسباب ما مر به لبنان من أزمات برأي الإمام الصدر:
- غياب العدالة وانتشار الحرمان·"الذي يخلق في النفس شعوراً غاضباً، ويجرح كرامة الانسان ويؤثر في الولاء للوطن وفي احترام القوانين المتبعة".
- عدم الاتفاق على المبادئ الوطنية الأساسية وتجنب البحث فيها خوفاً من الانقسام.
- الممارسة السياسية القاسية، واستغلال بعض السياسيين للجو الديمقراطي، فيجندون لنجاحهم ما يجوز وما لا يجوز.
- ابتلاء لبنان بعدوّ خبير في الحرب وأنواعها، ولا سيما في الحرب النفسية والاعلامية والدبلوماسية.
- نكبة فلسطين، وسكن أهلها في المخيمات وعيشهم في ظروف حياتية قاسية، وادراكهم العجز العربي عن تحرير أرضهم بعد هزيمة حزيران العام سبعة وستين، وحملهم السلاح وانطلاقهم من لبنان، واعتراض بعض اللبنانيين وتصادمهم معهم (9).
نظرة الإمام الصدر إلى اسرائيل:
إسرائيل كيان عنصري توسعي يستند إلى عقيدة مزيفة وادعاءات باطلة تبيح السيطرة والتوسع وتعطي معتنقيها الحق بالاستعلاء على بني البشر من غير اليهود، وهي بسبب هذا الاعتقاد جرثومة فساد.
وهي وجود غير شرعي في تكوينها، وممارساتها لا تحترم الاتفاقيات المعمول بها في العالم ولا قرارات مجلس الأمن، ولا قرارات لجنة حقوق الانسان.
هذا الوجود تجسيد للشر المطلق، ويشكل تهديداً دائماً للعرب والفلسطينيين واللبنانيين، وهو نقيض القيم الانسانية المتمثلة بالعدل والخير وكرامة الانسان ولا يمكن من الموقع الديني قبول بقاء الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين.
" إنني كمسلم لا يمكن أن أقبل ببقاء الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، فكيف بالقدس، وكعالم دين يجب علي أن أعلن ذلك"(10) .
ومحاربة هذا الكيان ليست محاربة للانسان بسبب دينه إنما محاربة للظلم والفساد والانحراف، ولفكرة التفريق العنصري التي يصفها القرآن الكريم في تحدّيه لهذا الاستعلاء اليهودي { إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} (11).
وليست محاربة لأهل ايمان، أو أهل كتاب، بل هي محاربة لمن لم يحمل الكتاب ولم يعمل به· {مثل الذين حُمّلوا التوراة ثم لم يحملوها} (12) .
وتفسير الإمام الصدر للآية القرآنية الكريمة التي تؤكد {ضربت عليهم الذلة والمسكنة} (13). إنما هي إنشاء وأمر وطلب، وليست إخباراً وحكاية ومؤداها إلقاء واجب علينا وتحملنا المسؤولية، وإلا فسوف نضرب نحن بالذلة والمسكنة.
هذه الرؤية المبدئية العقائدية المرتكزة إلى فهم طبيعة المشروع الصهيوني وأسسه العقائدية وممارساته وأساليبه هي التي أملت مواقف الإمام الصدر من الكيان الصهيوني، وحددت وسائل التعامل مع وجوده غير الشرعي ودفعته إلى تأييد ودعم المقاومة الفلسطينية واعتبارها "الخير المطلق" طالما تقاوم "الشر المطلق".
والمقاومة في منظور الإمام الصدر جزء أساسي في استراتيجية الصراع مع الاحتلال الصهيوني، وهي تمثل سبب إضعافه وإنهاكه، ولذا ينبغي المحافظة عليها والحرص على سلامتها.
" من صميم الاستعداد لهذه المعركة المحتومة إضعاف الخصم بأي صورة وفي أي حقل، وكلّنا نعرف أن من أفضل وسائل تحقيق هذه الغاية وجود المقاومة الفلسطينية ونموها" (14) . ولا يتعارض دعم المقاومة الفلسطينية مع المصلحة الوطنية، بل ينبغي فهم الصراع مع المشروع الصهيوني" انه متعدد الوجوه والجهات، والمعركة معه معركة مصير لا تحسم في أيام وأسابيع وسنين، بل يقتضي الصراع استعداداً لعشرات السنين وعلى جميع الجبهات وبكل المستويات ومع جميع الطاقات". وهذا يعني أن دعمنا للمقاومة ومشاركتنا في تصعيدها، وحرصنا على سلامتها، هذه المساعي هي جزء من استعدادنا لمجابهة العدو، ولذلك فهي تنطلق من نفس المبدأ الذي ينطلق منه السعي للمحافظة على الوطن والدفاع عنه ولا تتناقض معه اطلاقاً· إن معركتنا هذه ذات وجوه كثيرة: فهي معركة حضارية طويلة الأمد متعددة الجهات، وطنية، قومية، دينية، إنها معركة الماضي والمستقبل، معركة المصير"(15).
والمعركة مع "اسرائيل" متعددة الأبعاد والوجوه، والبعد الوطني لهذه المعركة يفرضه الخطر الصهيوني على لبنان الذي يبدو جلياً في سعي قادة الحركة الصهيونية المبكر لضم أجزاء من لبنان إلى خارطة كيانه الموعود، ليتسنى لها عندما تحين ظروف الالتزام الاستعماري لتنفيذ وعد بلفور، أن تضع يدها على المياه اللبنانية وأجزاء من الجنوب.
" إننا نملك مواثيق تؤكد أن أسرائيل تطمع في جنوب لبنان، وذلك حسب الخرائط المطبوعة من قبل السلطات الإسرائيلية، وحسب تصريحات المسؤولين، وبموجب تصرفات الإسرائيليين"(16).
ولا يقتصر الخطر الصهيوني على المياه والأرض، بل يشمل أيضاً تهديداً للصيغة اللبنانية الحضارية المتنوعة القائمة على التسامح والعيش المشترك بين مختلف الطوائف والمذاهب. لأن هذه الصيغة نقيض حضاري للكيان الصهيوني العنصري المنشأ بالقهر والقوة والدعم الاستعماري بعد ارتكاب المجازر بحق أبناء فلسطين وطردهم من أرضهم.
" إن وجود لبنان كدولة تشمل مذاهب مختلفة وعناصر متنوعة تعيش في نظام ديمقراطي مسالم لا يروق لدولة تقوم على أساس عنصري مذهبي"(17) .
المقاومة اللبنانية ومراحل التأسيس:
في ضوء فهمه لدور لبنان وموقعه في ساحة الصراع والمواجهة ومقارنته بالممارسات السياسية والإنمائية التي رأى فيها احتقاراً للمواطن وتقزيماً لدور الوطن، رسم الإمام الصدر نهجه في التحرك وحدد واجباته المنبثقة عن مسؤوليته الدينية وفق مشروع يتكامل فيه البعد السياسي والاجتماعي المتعلق بحقوق المحرومين والمناطق المتخلفة إنمائياً والبعد الوطني- والقومي المتمثل في مؤازرة المقاومة الفلسطينية ودعمها ومواجهة الخطر الصهيوني.
وتدرجت وسائل التحرك من المطالبة الشعبية والاحتجاج - إلى المسيرات والمهرجانات، إلى التهديد بالعصيان المدني من أجل دفع المسؤولين إلى تغيير السياسات وإنصاف المناطق المحرومة، حرصاً على العدالة الاجتماعية التي هي ركيزة الاستقرار، وعامل أساسي في قوة ولاء المواطن لدولته، وضرورة لصمود الجنوبيين وتحملهم أعباء المواجهة. وحرص الإمام على ممارسة حق التعبير السلمي البعيد عن استخدام السلاح واللجوء إلى القوة لفرض التغيير الداخلي وتحقيق المطالب السياسية والاجتماعية.
والتحرك في هذا المجال لم يكن طائفياً، وإن كانت الشريحة الكبرى المحرومة هي من الطائفة الشيعية، بل كان الدافع إليه الحرص على التوازن واستقرار النظام وتمكين أبناء هذه الطائفة من القيام بواجبهم في معركة المصير مع العدو الاسرائيلي.
"لكنني أعتقد أن محنة فلسطين، وانعكاساتها على العالم الاسلامي بصورة عامة وعلى الشيعة بصورة خاصة، بالإضافة إلى بعض ملابسات أخرى، إقليمية أو محلية، قد تكون منعطفاً في مواقف هذه الطائفة إلى سلوك سنجدهم من خلاله في طليعة المناضلين لأجل الحق والعدل والكرامة بإذن الله "(18).
ما يهمنا في الإشارة إلى تحركه المطلبي، أن نبين أمرين:
أولاً: رفضه استخدام السلاح في الدعوة للتغيير والمطالبة بإنصاف المناطق المحرومة، رغم جهده الدؤوب ومطالبته بالتدرب وحمل السلاح، وتأكيده المتكرر أن دعوته لحمل السلاح هي فقط من أجل الدفاع عن الجنوب وصد الانتهاكات الاسرائيلية وحفظ المقاومة الفلسطينية، ثم تطورت مواقفه بعد تطور الأحداث إثر اندلاع الحرب الداخلية ليجعل للسلاح دوراً داخلياً محدداً في محاربة مشروع التقسيم من أجل "وحدة لبنان ومنع قيام إسرائيل أخرى أو اسرائيليات تدعم اسرائيل الأم" (19) .
"أما الاصلاحات الاجتماعية والسياسية فإننا نرى ضرورة النضال الديمقراطي المستمر لأجلها، حيث إن النضال المسلح في مثل هذه الظروف يعرّض الأهداف الكبرى للخطر"(20).
والدعوة إلى التدرب وحمل السلاح إنما بدأها بعدما فشلت نداءاته ومطالبته المتكررة في حمل الدولة على تغيير نظرتها لدور الجيش، وعدم استجابتها لمطلب تقويته وتعزيز دوره في حماية أمن الوطن والمواطن، وتمسّكها بمقولة "قوة لبنان في ضعفه".
"طلبنا في العام 1970 تسليح الجيش وإقرار التجنيد الإجباري، أولئك الذين يريدون إضعاف الجيش لا يريدون له السلاح، يقولون إن قوتنا في ضعف الجيش، ذلك أنهم لا يريدون جيشاً قوياً، إنهم يريدونه للمعارك الداخلية"(21).
والخطر الداخلي المتمثل في الميوعة والفساد والانحلال الخلقي يضعف الصمود الوطني ويستنزف طاقات شبابه بينما الواجب يقتضي قيام مجتمع الجد والحرب والصمود.
والجد بمعنى الابتعاد عن اللهو والترف واللامبالاة، ليتمكن الشباب اللبناني من تحمّل المسؤولية وليتحسس مأساة الجنوب ويعي خطورة ما يجري على أرض الوطن وما يهدد مصيره وأمنه، ومجتمع الحرب والصمود هو مجتمع الدفاع والمقاومة حتى الموت ولو لم يكن بمقدوره الحرب. هذا الخطر أيضاً هو من أسباب دعوة الإمام الصدر لحمل السلاح بعدما بات الخطر الصهيوني واضحاً واعتداءاته لا تتوقف، وبعدما استنفد كل جهد سياسي واعلامي وثقافي.
"وذكر أنه ألقى 60 محاضرة، وأصدر عشرة بيانات، وأجرى أربع مقابلات صحافية و6200 مناقشة،كلها تدور حول الجنوب ولم يتحرك أحد"(22).
وكانت محنة الفلسطينيين حاضرة دائماً في عقله ووجدانه يذكّر بها اللبنانيين حكومة وشعباً، وكذلك الأنظمة والشعوب العربية، ليعوا جميعاً خطورة المصير، وليحثهم على وجوب الدفاع عن الجنوب وتحمّل مسؤولية دعم صموده واعتبار أزمته قضية وطنية وعربية.
ولطالما نبّه إلى خطورة إهمال ما يجري في الجنوب وانعكاسه على كل الوطن.
"لبنان دون الجنوب أسطورة، وإن لبنان مع جنوب ضعيف جسم مشلول، وإن لبنان دون قوة الجنوب مغامرة تاريخية، إن الجنوب القوي سياجٌ للبنان واللبنانيين"(23).
"لقد احتلت اسرائيل قسماً من الأراضي اللبنانية في العديسة، وفي مزارع شبعا، وشردت منها خمسمائة عائلة لبنانية، واحتلت مواضع للطرق التي شقتها داخل الأراضي اللبنانية، وليس هناك من دليل على معالجة هذه الأوضاع"(24) .
[الملفت في هذا القول: تاريخ صدوره عام 1973، فهو دليل على لبنانية مزارع شبعا، ومتابعة الإمام الصدر للانتهاكات الصهيونية والمطالبة بمواجهتها، ولا يمكن أن ينسب موقفه، كما يحصل اليوم، إلى أي غرض سياسي، بل يؤكد صحة الموقفِ المُطالبِ بانسحاب الاحتلال من هذه المزارع]
ثانياً: إن المطالبة بالعدالة الاجتماعية وتنمية المناطق المحرومة ليست منفصلة عن مشروع دعم صمود الجنوبيين ليتمكنوا من مؤازرة المقاومة الفلسطينية وتحمّل عبء القضية القومية، وهي جزء من تفكير الإمام الصدر في بناء مجتمع الجد والصمود:
" نحن نريد الجنوب صخرة تتحطم عليها أحلام اسرائيل وتكون نواة تحرير فلسطين وطليعة المحاربين ضد اسرائيل" (25) .
ويؤكد حقيقة هذين الأمرين مسارعة الصدر إلى إطفاء حريق الحرب الداخلية ومواجهة الفتن الطائفية، من اعتصامه في "مسجد الصفا" في " رأس النبع" إلى اندفاعه ليوقف الاقتتال في منطقة البقاع (شليفا- دير الأحمر- القاع)، بعباءته وعمامته وجهده المتواصل، لوضع حد للحرب الداخلية.
لقد اعتبر البعض في ذلك الوقت أن موقف الإمام الصدر مردّه إلى عدم استعداد الطائفة الشيعية وانتظام أفرادها عسكرياً وخوفه من استغلال أبنائها في قتال يخدم مشاريع سياسية لقوى داخلية لا تخدم مصلحة الطائفة ولا موقع زعامته لها.
وهذا القول، وإن كان يعكس جزءاً من حقيقة الواقع السياسي - العسكري للأزمة اللبنانية في ذلك الوقت، إلا أنه يحمل تجنياً على فكر الإمام الصدر وممارسته السياسية البعيدة عن حسابات الزعامة ومراكز النفوذ.
ويردّ على هذا القول إنه لو أراد الإمام الصدر مجاراة الحرب من اليمين واليسار لتمكن من تحصيل تلك الزعامة المزعومة، أو على الأقل لجنّب نفسه الكثير من الضرر والأذى، وأبعد عن تياره الاضطهاد، ولكان بمقدوره استغلال التحريض والاتهام والتشكيك الطائفي ليكون شريكاً في لعبة الحرب وحسابات المتحاربين، ولما كان بمقدور أحد مجاراته في ذلك، نظراً لقوة تأثيره وحضوره وسط طائفته.
ولكنه بقي مصراً على مبادئه وتوجهاته لإخماد الحرب الداخلية متحملاً الأذى، ورافضاً استخدام السلاح إلا في ثلاثة عناوين :
1- محاربة التقسيم.
2- صدّ الاعتداءات الصهيونية.
3- حفظ المقاومة الفلسطينية.
(بذلت مع رفاقي كل الجهود لوضع حد للمتطرفين والمشاعر المتهيجة متحملين مسؤولياتنا، فاتهمت عندها بالمسايرة وعدم رعاية مصالح الطائفة، ولا أزال أرفض إطلاقاً انتقاماً من أبرياء، ولا أنزلق في مهاوي التشنج حتى لو أدى ذلك إلى عزلي عن طائفتي وإلى تمكين المزايدين من طرح الشعارات وتوجيه الاتهامات).
"قلت، ولا أزال أقول للناس في البقاع والجنوب وفي كل لبنان: إن الفتنة الطائفية ليست معركتكم ولا هي تنسجم مع تاريخكم ومناقبكم، بل إن معركتكم هي معركة منع التقسيم، أو دفع الخطر عن الجنوب المهدد، أو عن المقاومة الفلسطينية"(26) .
ورغم اصطدامه بالمقاومة الفلسطينية وحلفائها بسبب التباين في مواقفهما من المبادرة السورية وما ألحق به هذا الاختلاف من اتهام وملاحقة واضطهاد فإنه بقي حريصاً على حفظ المقاومة، يبذل كل جهده من أجل حسن علاقتها بسوريا "لأن لا قوة لها بدون سوريا ولا تطوير للبنان إلا بالتعاون مع سوريا ولا رسالة لسوريا إلا من خلال وقوفها مع الإرادة الوطنية اللبنانية ومع الثورة الفلسطينية ومع كل قضية عادلة في العالم"(27) ومن أجل انتشال المقاومة من الفتنة الداخلية، وعدم التهائها بأي عمل آخر سوى التحرير لأن في ذلك تعطيلاً لدورها وتأخيراً لمهامها.
وكان رفضه شديداً لفكرة تحويل المقاومة الفلسطينية لتصبح " حركة هدفها قلب الأنظمة العربية وأولها لبنان"(28).
ولم يبعده التجريح والتشكيك والتشهير عن التزام المبادئ الأساسية، بل بقي متمسكاً بها، يحدد الصديق والعدوّ في ضوئها.
"سنبقى في طليعة النضال في سبيل أمتنا ووطننا، نختار الصديق والعدو في ضوء المبادئ لا الممارسات، لسنا أطفالاً ولا قبائلَ بل شموعٌ وكوادرُ وروّاد في مجتمعنا وفي وطننا وأمتنا"(29) .
تدرّج الإمام في ضوء هذا النهج في تأسيس المقاومة اللبنانية من خلال تبيان أهمية المقاومة وضرورتها، وتوضيح محدودية قدرة العدو الصهيوني وأثر الاستشهاد في حسابات موازين القوى العسكرية، مستخدماً كل ما لديه من حضور إعلامي وسياسي وثقافي وديني من أجل تصحيح المفاهيم، وخصوصاً الديني منها، التي كانت تثير التساؤل عن مشروعية القتال، ومن يتحمل مسؤولية الدماء، وتعريض الأنفس للخطر· وكذلك مواجهة الآراء السياسية التي تبالغ في تقدير قوة العدو وترفض اتخاذ قرار المواجهة معه واستبدال دور لبنان القوي بضعفه محمّلاً أصحاب هذه الآراء مسؤولية تقزيم دور لبنان وتهديد مصير جنوبه الذي لا سلام للبنان من دون سلامه.
"إن اسرائيل قوية ولكنها ليست إلهاً أو أسطورة، إذا أردتم أن تكونوا أقوى منها تعلّموا، أمامكم تجربة الفلسطينيين، مأساتهم كانت أكبر من مأساتكم "(30) .
"إن المعادلات التي تدرس في موازين القوى العسكرية وفي حسابات الربح والخسارة تختل جميعاً عندما يدخل عنصر الشهادة في الميدان، إن الشهادة تحوّل الفرد إلى سلاح لا يقهر ، وتجعل الشهيد ينبوعاً متدفقاً يهز الجميع ويحرك الانسان وضميره وطاقاته في كل مكان"(31) .
"إن التدريب على حمل السلاح واجبٌ كتعلمِ الصلاة، واقتناؤه - ولو بعت فراشك- واجبٌ كاقتناء القرآن، والله يشهد أنني تدربت على السلاح وأقتني منه عندي"(32) .
"إن لبنان دولة مواجهة فلا يمكن إلا أن يكون منيعاً يدافع عن شعبه وعن أرضه"
"إن لبنان دولة تحدّ ٍأمام أسرائيل نتيجة لموقعه الجغرافي"
"إن لبنان الخائف، القلق لا يعيش، وإن اللبناني مبادر وشجاع حتى حدود التهور، وإن علاج المحنة في إعادة دوره القومي إليه في مواجهة اسرائيل"(33) .
" لو كان الحسين هنا لحمل سيفه وتحرك ووقف في وجه مطلقي النار على الناس، نحن لا يمكن أن نسكت، وسلوكنا الحسيني يفرض علينا الدفاع عن أرضنا وحمل مسؤولية شعبنا" (34).
وأثناء تثبيت المفاهيم السياسية والدينية وتصحيحها وتوعية الناس على مخاطر الاعتداءات الصهيونية، بدأت مرحلة التدريب التي لم تأخذ حقها من الاعداد السري نتيجة الانفجار الذي أسقط عدداً من الشهداء، الأمر الذي عجّل في الاعلان عن تأسيس أفواج المقاومة اللبنانية "أمل"، ومن ثم انتقل العمل إلى مرحلة استخدام السلاح ووضعه في خدمة الأهداف التي رسمها الإمام الصدر، ومحورها مقاومة الاحتلال الاسرائيلي حتى الاستشهاد.
وكان لمجموعات المقاومة شرف المشاركة في العديد من المواجهات والمرابطة في القرى الأمامية في "الطيبة، وتلة مسعود، وتلة شلعبون"، والاشتباك المباشر مع العدو وتقديم التضحيات جنباً إلى جنب مع المقاومة الفلسطينية، تنفيذاً لنداءات الإمام الصدر في تحويل وجهة السلاح إلى الجنوب.
بعد دخول قوات الردع العربية ونجاح المبادرة السورية في وضع حد لما سمي بحرب السنتين، بقي الجنوب ساحة المواجهة الرئيسية التي تداخلت فيها واستوطنت قضية الصراع العربي الإسرائيلي، مع نتائج الحرب اللبنانية. وبعد نجاح إسرائيل في اختراق تلك المنطقة تحت غطاء المساعدات الإنسانية وإقامة علاقات مع قوى ربطت نفسها ومصالحها بالمشروع الإسرائيلي على حساب مصلحة الوطن وانتمائه القومي.
سارع الإمام الصدر إلى رفض أي علاقة تمكّن إسرائيل من اختراق النسيج الاجتماعي اللبناني وكسر جدار مقاطعتها ورفض التعامل معها، وكان موقفه واضحاً وقاطعاً في رفضه المكر الصهيوني وتجلببه بلباس الحمل الوديع.
"العدوّ تحوّل من ذئب مفترس إلى حمل وديع، يقدم خدمات انسانية ويذرف دموع التماسيح "(35).
" علينا أن نعلم أن كل قطرة من أدوية اسرائيل هي سم زعاف يسمم أجسامنا وأولادنا، إن كل من يذهب إلى مستوصفاتها إنما يذهب إلى وكر الأفاعي والحيات· علينا أن ندرك أن كل خدمة تقدمها لنا اسرائيل، وكل بضاعة نشتريها، وكل رحلة توفرها لنا هي ضربة قاضية على وطننا وتاريخنا وكرامتنا"(36) .
"إن التعامل مع إسرائيل والاستعانة بها بأي صورة وبأي حجم حرام وغدر وخيانة، وإن الصبر على الأذى والمرض والحرمان على رغم إغراءات اسرائيل جهاد في سبيل الله وإنقاذٌ للوطن"(37) .
إن هذه النداءات والمواقف هي بداية التأسيس لمقاومة التطبيع ورفض أي علاقة مع العدو تحت أي ظرف من الظروف.
لا شك أن تأسيس الإمام الصدر للمقاومة اللبنانية يعتبر مشروعاً رائداً في معادلة الصراع مع العدو ودور لبنان في هذه المعادلة، ولا يتعارض ذلك مع مساهمة لبنانيين آخرين في المقاومة الفلسطينية أو تحالف بعض القوى والأحزاب معها، إلا أن أثر ودور المقاومة التي أسسها الإمام الصدر وارتكز فيها على ثقافة الناس وقيمهم يتجاوز بما لا يقاس أثر ودور تلك القوى مع الاحترام والتقدير لتضحياتها، لأن ما زرعه الإمام الصدر كان النبتة القادرة على النمو والاستمرار لأنها تنمو في مناخ ثقافي وإيماني وسياسي ملائم لها، وهذا ما أثبتته تطورات الصراع مع العدو، وقدرة المقاومة التي نهلت من فكر الإمام الصدر وارتوت من فقه الإمام الخميني وخطه وثورته التي كانت القوة الأساس التي تحقق على أيدي مجاهديها كل ما تنبأ به هذان القائدان العظيمان.
فالإمام الصدر كان كمن يقرأ في المستقبل عندما قال:
"إن الاعتداء على لبنان وبخاصة على جنوبه، سيقابل بمعركة تبدأ ولا تنتهي مهما كان تفاوت القوى واختلاف الموازين"(38) .
كما أن مواقف الإمام الصدركانت ضمن حالة الصمود العربي وقبل انهيار جدار مشروع تحرير فلسطين من جهة بعض الأنظمة العربية وتوقيعها صلحاً منفرداً، وكان سعي الإمام الصدر إلى تثبيت دعائم هذا الجدار بهدف تكامل دور المقاومة في الجنوب مع الاستراتيجية العربية للصراع· إلا أن التحولات التي جرت بعد اختطافه أفرزت وضعاً جديداً ومعادلات مختلفة على أثر مؤتمر مدريد وانهيار الاتحاد السوفياتي. ورغم ذلك ومع قراءة مسار التسوية ونتائجها المخيبة للآمال والعاجزة عن إيجاد حل ينهي المشكلة الفلسطينية، ويحرر القدس السليب، ويعيد اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم ويمكّنهم من ممارسة حق تقرير المصير، فإن نهج الإمام الصدر ومشروعه القائم على تحريك طاقات الناس وتعزيز صمودهم وتقوية روح الجهاد والشهادة لديهم، يبقى الأمل في استنهاض الأمة ودحر الصهيوني من فلسطين وسائر الأراضي العربية المحتلة.
وما تجربة المقاومة في لبنان وإنجازها العظيم إلا تأكيد لهذا النهج وتعزيز للأمل وكذلك فإن استمرار الشعب الفلسطيني في انتفاضته ورفضه الخضوع والحلول المذلة ضوءٌ آخر في نفق الأمة المظلم الذي لن ينتهي إلا بسلوك طريق بناء مجتمع الجد والحرب والصمود.
ولو اتبعت المقاومة الفلسطينية منطلقات العمل وقواعده الثلاث التي حددها الإمام الصدر منذ عام 1968 لتغير اتجاه الأحداث ونتائجها.
القاعدة الأولى: الإيمان بالله خالق الملك والحياة ، فالله هنا وهناك إله واحد إله لكم في حياتكم وفي موتكم، والموت لكم حياة جديدة.
وهذا المبدأ، مبدأ الإيمان بالله يعبّر عنه الفدائي الأول علي بن أبي طالب حينما ينصح ابنه محمداً في الحرب فيقول: (يا بني تزول الجبال ولا تزول) ثم ينصحه قائلاً: أعر الله جمجمتك، أعر الله جمجمتك).
القاعدة الثانية: اتباع التخطيط والدقة والاتزان، فالعمل العلمي والعمل السليم المبني على الوعي مع النضال هو العمل الناجح.
القاعدة الثالثة: تحاشي المعارك الجانبية، وبذلك يمكن الاستفادة من كافة الطاقات الخيرة الموجودة عند العرب والمسلمين والمسيحيين في كل مكان والموجودة في كل إنسان يحمل نفساً طيبة (39) .
أليس ذلك هو الخط الذي سلكته المقاومة في جنوب لبنان وصنع الانتصار وجعل لبنان قوياً في مقاومته وتحدّيه للمحتل الصهيوني!؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحواشي
- كل النصوص الواردة في البحث مستقاة من كتاب الإمام السيد موسى الصدر الرجل - الموقف - القضية - مكتبة صادر 1993.
(1) - حديث صحفي، القاهرة، سنة 1970.
(2) - حديث صحفي، الجزائر، سنة 1973.
(3) - بيان بمناسبة إقرار التمديد للمجلس الاسلامي الشيعي بتاريخ29/3/1975.
(4) - حديث صحفي، جريدة القبس الكويتية، 25/10/1976.
(5) - كلمة للإمام الصدر في المؤتمر التأسيسي لحركة أمل أواخر العام 1975 في المؤسسة المهنية - برج الشمالي أثناء نقاش حول تفسير آيات القرآن ومفهومها.
(6) - مؤتمر صحفي 20/11/1996.
(7) - حديث صحفي 30/8/1970.
(8) - عنوان كلمة في ذكرى المجاهد عارف النكدي 26/5/1975.
(9) - من مضمون تقرير إلى المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى 13/9/1975.
(10) - حديث صحفي- الجزائر 1973.
(11) - سورة الجمعة، الآية رقم -6.
(12) - سورة الجمعة، الآية رقم -5.
(13) - سورة الجمعة، الآية رقم -61.
(14) - الجنوب مسؤولية لبنانية وعربية - مؤتمر صحفي 20/11/1969.
(15) - مؤتمر صحفي 19/11/1969.
(16) - مؤتمر صحفي - المانيا 10/8/1970
(17) - مؤتمر صحفي- المانيا 10/8/1970
(18) - حديث صحفي 28/11/1974
(19) - خطاب في بعلبك 23/9/1976.
(20) - خطاب في بعلبك 23/9/1976.
(21) - خطاب في تأبين الشهيد معروف سعد 13/3/1975
(22) - حديث مع طلاب الجامعة الأميريكية في بيروت 26/5/1970
(23) - رسالة إلى النواب اللبنانيين 4/12/1969
(24) - بيان في اجتماع لهيئتي المجلس الأسلامي الشيعي الأعلى 17/12/1973
(25) - في ذكرى المولد النبوي -صيدا 15/4/1974
(26) - مؤتمر صحفي - 17/12/1975
(27) - رسالة عن الصحف 1/7/1976
(28) - احتفال في بعلبك 23/9/1976
(29) - احتفال في بعلبك 23/9/1976
(30) - خطاب في صور في ذكرى المولد النبوي 25/3/1975.
(31) - نداء إلى العقل اللبناني 17/1/1976
(32) - خطاب ( الصرفند- مجدل زون- صور) 26/3/1975
(33) - في ذكرى يوم الشهيد 23/5/1976
(34) - ذكرى أسبوع في بلدة كونين 27/1/1975
(35) - بيان في الصحف 12/9/1976
(36) - نداء بمناسبة انتهاء قمة الرياض 22/10/1976
(37) - نداء بمناسبة انتهاء قمة الرياض 22/10/1976
(38) - نداء في يوم عاشوراء 12/1/1976
(39) - كلمة في احتفال افطار لحركة فتح 16/12/1968