* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثامن: "الأبعاد الإنسانية والوطنية والقانونية في قضية الإمام الصدر"
قِمّة روحية... قامة وطنية... قيمة إنسانية هو...
والقامات الشامخات تطلُّ عليك من علُ، ولا يبصرها إلاّ الذين تشرئبّ رؤوسهم إلى فوق.
إنّهُ الحضور الصارخ في زمن الغياب الصامت...
وهو الصوت الشاخص في رحاب الوطن المغيّب، يجوِّبُ الصدى استحضاراً لما عَبَرَ، وعبرة للمنتظر.
نتذكره في غيابه الحاضر، ونتجاهل حضورنا الغائب.
هذا الذي وطئتْ خطاه الأرض فرَسَمَ للجغرافيا معالم...
وهو الذي سما فيه الفكر فرسم للتاريخ تعاليم...
أين شعوذتنا من وطنيته، وثرثرتنا من موعظته، وطائفيتنا من إيمانه، وصغائرنا من تساميه، وهمجيتنا من إنسانيته.
وتسألون بَعْد، عن البُعْد الإنساني في قضية الإمام الصدر...؟ كأنكم تتساءلون عن البعد الاستشهادي في قضية الإمام علي، وعن البعد الكربلائي في قضية الإمام الحسين.
إن في استشهادية الإمام الأول انهياراً للخط الرسالي والجهادي والخلافي.
وإن في كربلائية الإمام الثاني استهدافاً للثقلين معاً: "إني تارك فيكم ثقلين: كتاب الله وأهل بيتي إنهما لن يفترقا.." (1)
وإن في تغييب الإمام الثالث تغييباً وحشياً لأسمى المعاني الإنسانية في الشريعتين: شريعة الأرض وشريعة السماء.
البعد الإنساني في قضية الإمام الصدر، وهو الكلّي المطلق الذي يختصر غاية وجود الإنسان في مجتمع وبيئة ووطن.
لأن كل حركة للنشاط البشري إن لم يكن هدفها بعداً إنسانياً فقد تصبح خطراً قاتلاً للعقل، أو حركة مكبلّة بالإعاقة.
وإن أي نشاط في المجال الروحي والقومي والوطني والسياسي والاجتماعي، إنْ لم يتجنّد في خدمة الإنسان، أو إذا انْحرَفَ عن الجوهر الإنساني يصبح نشاطاً غوغائياً يصطدم بمسلمات القيم ومبررات الوجود الكوني.
إن ثمة تلازماً بين المبادىء الإنسانية وخصائص الشرائع والرسالات التي تعتبر الإنسان المحور الجوهري في الوجود، وكائناً تاريخياً من روح الله وعلى صورته، هكذا يراه القرآن: "ونفخت فيه من روحي..."(2) مثلما الإنسان في التوراة روحٌ من الله، وهو الكلمة الإلهية عند المسيحيين.
من وحي هذه الحقائق الدينية والزمنية، تكرّسَتْ طاقات الإمام الصدر حَدْباً على المحور الإلهي في الأرض الذي هو الإنسان، ملتزماً خدمته على أنها جزءٌ من إيمانه الروحي فيقول:
"إن عمل رجل الدين لخدمة المعذبين والمحرومين هو من صميم التراث الديني"(3)... "وإن مجرد الإيمان بالله مع تجاهل حقوق المعذبين ليس إيمانا(4)... و"الإيمان بالله لا ينفصل عن الجهد في سبيل خدمة الناس وتخفيف الآمهم"(5)...
لقد عاش الإمام الصدر الحركة الإلهية روحياً، ومارسها قرآنيا في أعرق مفاهيمها الإنسانية التي ميّزت أئمة أهل البيت في فقْهِ أبعاد الرسالة وخصائصها، ومن يتحلّى بالخصائص الرسالية، تصفو عنده الذات بشفافية مطهّرة من أرجاس النفس، فيدنو إلى الصفات الإنسانية الكاملة، ما دنا إلى جوهر ذات الله، ومن قرب من ذات الله أدرك معنى إنسانية الإنسان.
والصفات الإنسانية الكاملة تؤدي حسب أفلاطون إلى أنْ يحاكي الإنسان الله، ويرى أرسطو الإنسان فيها إلهاً صغيراً، وتعتبرها الصوفية الإسلامية سبيلاً إلى اتحاد المخلوق بالخالق.
بل هي سنّةُ الأنبياء والمصطفين، والأئمة المصلحين، فالإمام هو الإنسان الكامل، هو آدم الحقيقي كما يقول هنري كربان في كتابه الإسلام في إيران...(6) وهو النور المحمدي، أو الحقيقة المحمدية كما يطرح رينولد نيكلسون في دائرة المعارف الإسلامية...(7) فالنبي أول الأئمة، وإمام الرعية أمير المؤمنين، والقرآن إمام المتعبدين، والإمام رئيس المدينة الفاضلة... وهي صفاتٌ خصّها الله بالتعظيم... "إني جاعلٌ في الارض خليفة"...(8).
لقد تجلّى التسامي الإنساني في الإمامية الصدرية عبر المختبر العالمي الفريد في لبنان. لبنان العيش المشترك، والصيغة الإنسانية المثلى. فرأى فيها الإمام بُعْداً إنسانيا حضارياً ينزِّهُ إله القرآن والإنجيل عن التشويهات التي ابتدعتها الهرطقة المادية لينطلق من لبنان "إلهاً واحداً ضابط الكل"، وحقيقة حضارية للعالمين.
هل سمعناه وهو يخاطب الوطن النموذجي بقوله...؟ "هذا الوطن الفريد من نوعه، هذه الأرض التي تعكس السماء... امتدت إلى العالم كله فتبلوَرَ العالم فيها"(9).
لقد نبّه الإمام الصدر إلى خطر المساس بصيعة العيش اللبناني على أنها تسفّهُ أيضاً الصيغة الإسرائيلية العنصرية، ودعا إلى الحوار الذي "يهدف في الدين الإسلامي وسائر الرسالات إلى إشاعة السلام..."(10).
وإنْ أطلق حرب الجهاد المسلحة في مواجهة العدو الصهيوني، إلا انه انتفض "على السلاح وهو يستعمله المواطن بصورة وحشية ضد مواطنه، فكان الاعتصام عبادة، لخنق صفحة العنف، وصياماً عن الأسلحة التي تعرض الوطن والأمة للإنفجار؟(11).
لقد أدرك الإمام الصدر قيمة البعد الإنساني العالمي في صيغة لبنان التي تشكل الأنموذج الأرقى لتلاقي الإنسان بالإنسان والإنسان بالله، في ظل ما يحكي عن تصارع الحضارات، أو تسخير رسالة السماء لنزوة حقارات الأرض، فاعتبر "أن التعاون الإسلامي ـ المسيحي يؤدي إلى خير الإنسان في العالم، وأن التعايش هو أمانة العرب بل أمانة العالم والتاريخ في عنق اللبنانيين...؟(12).
البعد الإنساني في قضية الإمام الصدر، هو بُعد الإمام الصدر عن معالجة كل ما تفاقم بعده من مشكلات وطنية وسياسية واجتماعية وإنسانية وروحية وقومية وخلقية. وكل ما انطوى عليه واقعنا من جشع ودنس. وحرمان...
هذا الحرمان وصفه الإمام ذات يوم بأنه "لم يعد وقفاً على الناس. فالوطن أصبح اليوم بوجوده وبإنسانه وبسمعته وتراثه محروماً، يشكو أبناءه الذين أعطاهم كل شيء فحرموه من كل شيء... والدين يُرى اليوم محبوساً في كهوف الطائفية وقد فرّ منه الإنسان ليعيش فيه الوحش..."(13).
نحن بعد تغييب الإمام نعيش مستقبلاً بلا أفق، يطاردنا شبح الوحش بشهوة الذات وجموح الغريزة، وليس من يصون عهداً ويستشعر رحمة، ويرحم ضعيفاً، وينصف محقاً، وينصر مظلوماً، ويغيث ملهوفاً، ويحتضن محتاجاً، ولا يتخطى نزوة ذاته المحمومة إلى حرمة إنسان ووطن.
إن البعد الإنساني الصاعق في قضية الإمام الصدر هو هذا الانهيار الخلقي والمناقبي، في زمن عاصف بالوثنية والجور والجهل حيث التوتر، والإضراب، والعنف، والاحتلال، والإرهاب، عناوينُ أصولية تلتهم الحضارة بقوة غاشمة.
ومع تغييب الإمام الصدر وغياب القادة التاريخيين يبرز هذا الانحدار العمودي بمستوى الرجال إلى منخفض يدعو إلى الهلع... أين هم الرجال الذين كانوا من قبل يصنعون الزمن... أين هم من تقهقهر حالنا اليوم في زمن، أصبح الرجال فيه مصنوعين.
فتعالوا إذاً، أيها الهائمون في المكابرة والغَيِّ نستلهم خطى الميامين الرجال ونرتشف بعضاً من مناهل الإمام الصدر في بعده الوطني والإنساني لعلنا نصبح بنعمة الله لبنانيين، في مستوى طموح لبنان، ورسالة الإنسان... والسلام.
(1) ـ من أحاديث الرسول في أهل البيت.
(2) ـ سورة الأنبياء: 91.
(3) ـ مجلة صوت المحرومين: 23/9/1976.
(4) ـ جريدة المدينة المنورة: 9/12/1977.
(5) ـ القبس الكويتية: 11/2/1977.
(6) ـ هنري كربان EN Islam Iranienج2.
(7) ـ رينولد نيكلسون: دائرة المعارف الإسلامية: النسخة العربية ج3.
(8) ـ سورة البقرة: 30.
(9) ـ من ندائه إلى العقل اللبناني: 7/1/1976.
(10) ـ مقابلة تلفزيونية في ساحل العاج: آذار 1978.
(11) ـ مجلة الحوادث: 11/7/1975.
(12) ـ جريدة الأخبار المصرية: 10/9/1976.
(13) ـ من بيان صحافي: 11/9/1975.