تغييب الإمام موسى الصدر: البعد الانساني

calendar icon 11 كانون الأول 2003 الكاتب:سليمان تقي الدين

* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثامن: "الأبعاد الإنسانية والوطنية والقانونية في قضية الإمام الصدر"



في العام 1960 استقر الإمام موسى الصدر في لبنان مستأنفاً وصل ما انقطع بتراثه العائلي السابق. ومنذ اللحظة الأولى استشعر مشكلات الفقر والاهمال والحرمان، فوضع نصب عينيه ان يبدل في وظيفة رجل الدين من الوعظ إلى العمل. فأسس وانخرط في جميعات اجتماعية اهلية لمساعدة المحتاجين. لكنه رأى ان ثمة حاجة لتنظيم شامل لهذا العمل فجعل من انشاء المجلس الشيعي الأعلى هدفاً اساسياً ظل يلح عليه حتى حققه عام 1967 رغم معارضة واضحة من الاقطاب التقليديين في الطائفة الشيعية آنذاك.

لكن الإمام الوافد إلى لبنان سرعان ما تحول إلى محط انظار جميع اللبنانيين واعجابهم وليس الشيعية فحسب. فقد كان مثقفاً مستنيراً مقتدراً على الحوار مع جميع الاتجاهات الثقافية الاخرى. فأول ما تعرف إليه اللبنانيون من طريق محاضرة القاها في الندوة اللبنانية في 6/4/1964 بعنوان اضواء وتأملات. وقد كانت الندوة اللبنانية آنذاك المنبر الأكثر تأثيراً على ثقافة ذاك الزمن. في هذه المحاضرة بذر الإمام فكرتين رئيسيتين الأولى تتعلق بالوحدة الإسلامية، والثانية تتعلق بالحوار الإسلامي المسيحي والاعتراف بالآخر.

ثم كانت له في العام التالي (24/5/1965) محاضرة ثانية على منبر الندوة اللبنانية ذاتها، فظهر بقامته الفكرية الفارعة مثيراً عاصفة من الاسئلة عن رجل الدين المسلم الذي يستطيع ان يحاضر في موضوع صعب هو "الإسلام وثقافة القرن العشرين". وفي هذه المحاضرة برز الإمام كمفكر مسلم مجدد ناقد للنظرة الغربية إلى الإسلام الذي تصوره ديناً مغلقاً على ثقافة العصر، وللنظرة الإسلامية التقليدية نفسها التي ترفض التجديد والتجدد.

لقد رفض ان يكون الإسلام حركة عفوية تلقائية فطرية عاجزة عن اتيان افعال التحليل والتركيب، وهذا حكم غربي يستخف بقدرة الإسلام على ان يكون ديناً معاصراً. وساجل في نفس الوقت مع المسلمين الذين رأوا في كل ثقافة خارج الإسلام بدعة ودخيلاً واظهر الإمام من خلال قراءته للثقافة الإسلامية وتطورها عبر التاريخ قدرتها على الاكتساب من الآخر وتطوير هذه المكتسبات، طارحاً على الفكر الإسلامي تحدي تجديد نفسه من خلال التفاعل مع ثقافة القرن العشرين. ولعل هذه المحاضرة تبقى من عيون الفكر الإسلامي الحديث، والتي يجب على الجيل الشاب المسلم ان يقرأها بامعان.

وفي لحظة ثانية يطل الإمام من على منبر فكري آخر في تقديمه لكتاب الفيلسوف الكبير هنري كوربان، (تاريخ الفلسفة الإسلامية – 1966) فاذا نحن امام مفكر مسلم يخوض غمار الفلسفة دون تعقيد. ويظهر ان الجهد العقلي الذي تقتضيه الفلسفة لا يتناقض مع الإيمان الديني، فالمسلم يجب ان يكون موحداً ومؤمناً ومن اهل البرهان فلا ينحّي العقل عن سدة الإيمان.

وفي العام 1967 يحقق الإمام انجازه الكبير في انشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ليس بصفته تنظيماً طائفياً جديداً، بل بصفته تجسيداً لتيار ثقافي جديد قديم. وبالفعل كان ذلك للمرة الأولى الذي يتم الاعتراف بها بالشيعة كتيار ثقافي اسلامي أو كمذهب رسمي من مذاهب الاسلام له خصوصياته. وقد حرص الإمام ان يحيط هذا الانجاز بروح توحيدي إسلامي رافعاً عنه شبهة العصبية والتعصب والتفرقة بين المسلمين. فقد كان هذا المجلس حاجة مشروعة وملحة لتنظيم امور المسلمين الشيعة في بلد يقوم نظامه على الطائفية.

ومنذ ترأس هذا المجلس عام 1969 طرح برنامجاً يقوم على توجهات وطنية اساسية منها عدم التفرقة بين المسلمين، والتعاون مع الطوائف اللبنانية، وحفظ كيان لبنان، والقيام بالمسؤوليات الوطنية والقومية، ومحاربة الجهل والفقر والتخلف والظلم الاجتماعي، والفساد الخلقي، ودعم حقوق الشعب الفلسطيني ومشاركة العرب في قضية التحرير.

ولعله كان في طليعة المبادرين إلى الحوار الإسلامي – المسيحي تحت عنوان تعزيز القيم الروحية المشتركة فوقع مع نخبة من هؤلاء الرواد في هذا الميدان بياناً تأسيسياً للحوار في 8 تموز 1965.

هكذا بدأت شخصية الإمام الفكرية تكتمل صورتها وابعادها، بصفتها شخصية منفتحة مستنيرة حوارية مجددة. شخصية فكرية اسلامية مجددة ومنفتحة على الهموم الانسانية الكبرى في هذا العصر. لذا كان الإمام يشدد على ان الشيعة اصحاب فقه واجتهاد يظهرون من خلاله الحيوية العقلية في التفكير الإسلامي.

وبالفعل تعامل الإمام مع الحوار الإسلامي المسيحي من منظور الحاجات الوطنية اللبنانية لصيانة صيغة العيش اللبناني المشترك، ومن منظور صورة تلاقي الاديان على هدف واحد للمشاركة في الحضارة المعاصرة واضفاء الغايات السامية الاخلاقية على منجزات هذه الحضارة واخضاعها لهذه الغايات بدلاً من الانفلات المريع للروح المادية غير الاخلاقية.

هذا المشروع الفكري الضخم الذي اندرج فيه الإمام تلاقى مع نهضة في التفكير الديني المسيحي عبر عنه المجمع الفاتيكاني الثاني في وثائقه عام 1968، لكنه لم يكتمل فصولاً في لبنان بسبب الازمات السياسية التي بدأت تعصف في هذا البلد بعد حرب حزيران 1967.

منذ العام 1968 بدأت اسرائيل تضيف إلى حرمان الجنوبيين تحديات امنية فكانت تمارس اعتداءاتها المتواصلة على الجنوب حتى بلغت ذروتها عام 1970 بفرض تهجير أكثر من مئة وخمسين الفاً من الجنوبيين. هنا تصدى الإمام لمهمة تحصين الجنوب والمطالبة بدعم الجنوبيين للصمود في ارضهم، وبدأت معركته مع الاهمال والحرمان والتخاذل الوطني، فأسس "الهيئة الوطنية لنصرة الجنوب" وانطلق في مسيرة العمل لتأسيس المقاومة الوطنية بالمعنى المدني. لكن الدولة احبطت هذه المحاولات وقطعت مع هذه الامال فتخلت عن قضية الجنوب ودخلت البلاد في دوامة الحرب الاهلية جراء انقسام اللبنانيين حول الوجود الفلسطيني وموجبات الرد على التحديات الاسرائيلية. فانتقلت هموم الإمام كما هموم جميع اللبنانيين لمعالجة هذه التحديات وبدأنا نخسر مشروعنا الوطني اللبناني الخاص مشروع بناء وطن مزدهر ديمقراطي يغتني بتعدد ثقافاته وبالعيش المشترك الإسلامي – المسيحي.

وكانت سنوات 1968 حتى 1978 قد استنزفت طاقات العمل الفكري فتحول الإمام إلى الخطاب السياسي الوطني وكان لنا من تراثه في هذا المجال الكتابات اللذان جمعهما مركز الإمام الصدر للابحاث والدراسات تحت عنوانين هامين هما: تأسيساً لمجتمع مقاوم، والوحدة والتحرير. بالفعل كانت هذه المفاصل الاساسية لفكره في تلك الفترة.



واذا كانت هذه النصوص اقرب إلى النصوص السياسية منها إلى النصوص الفكرية، إلا انها انطوت على موقف فكري واضح ففيها تقرأ موقف الإمام الحاسم من الحرية باعتبارها افضل وسيلة لتنمية طاقات الفرد وانطلاقهاـ وهي اعتراف بكرامة الإنسان.

وفيها تقرأ ان ليس هناك تعارضاً بين الإسلام والعلم والتقدم وان دور الشيعة في الإسلام هو توسيع الفقه والثقافة الإسلامية عامة. فالشيعة رؤية خاصة للإسلام وليست مجرد مذهب خامس. وان وحدة المسلمين ممكنة على قاعدة ان لا إله إلا الله، ومن كفر مسلماً فقد كفر ومن ايقظ الفتنة فهو ملعون. إلى غير ذلك من الافكار المؤسسة لثقافة اسلامية منفتحة، وفي البعد اللبناني كانت للإمام مواقف حاسمة من نظام الحكم، وذلك ان الولاية بالعدل على الناس هي من صلب العقيدة الدينية. فقد رفض النظام الطائفي واعلن انه لا يريد الشيعة دعامة لهذا النظام. فالطائفية كفر بالانسان وبكرامة الانسان. واعتبر انه يمكن النظر بايجابية عالية لدور جميع الطوائف اللبنانية سواء تلك التي اسست الكيان او التي ساهمت في انفتاحه على العرب والغرب وتلك التي تقوم بتصحيح النظام الاجتماعي.

ولان النظام الطائفي بما يرسيه من حرمانات وامتيازات هو شر مطلق فقد دعا الإمام إلى دولة مؤمنة، أي دولة عادلة. ولم تتح للإمام الفرصة، ولا للفكر الإسلامي عامة حتى اليوم على بلورة مضامين هذا المشروع بالمعنى الفقهي الصحيح. لكنها دولة دون شك تتسع للآخر وتفرد له مكاناً مميزاً بالمشاركة وتستلهم القيم الدينية الاساسية دون ان تكون دولة دينية أو دولة علمانية ملحدة. تلك معادلة مهمة يسعى إلى بلورتها الفكر الإسلامي وينبغي عليه ان يبلورها خاصة في لبنان لما لهذا البلد من وقائع وخصوصيات.

في العام 1978 اجتاحت اسرائيل الجنوب وقامت بتأسيس دويلة سعد حداد في الشريط الحدودي. وقامت قيادة المارونية السياسية بالتصدي للحل العربي بقواه السورية آنذاك واعادت دوامة العنف إلى البلد واخذت الامور تتجه إلى تفكك لبنان بل تجزئته وتقسيمه. لذا رأى الإمام ان المهمة الاساسية تكمن في مقاومة هذا الاختراق الصهيوني للوحدة اللبنانية ووجوب العمل على اعادة صياغة الوحدة الوطنية من خلال تسوية تاريخية جديدة.

للاسف تعارض هذا التوجه مع مصالح القيادات العليا في الثورة الفلسطينية ومع خطط واستراتيجيات بعض الدول العربية، وهذا شأن كان قائماً في مراحل مختلفة من الصراعات اللبنانية العربية. وكان يمكن لهذه التعارضات ان تحل في اطار الحوار، وعبر جدلية الصراع نفسه. فليس من احد يملك الحقيقة المطلقة، او يحتكر الحرص على المصالح القومية والوطنية، ولكنه للأسف دفع لبنان الكثير الكثير جراء تدخل الدول العربية في شؤونه ومحاولة فرض رأيها على قادته الوطنين ولو بالقوة وبالقتل احياناً. فبعد ان تم تغييب القائد الوطني كمال جنبلاط، جاء دور الإمام الصدر فتم تغييبه اثناء رحلة قام بها إلى ليبيا بحثاً عن حل عربي لازمة لبنان وللتحديات الصهيونية.

فهل كان الإمام وما يمثل خطراً على المصلحة الوطنية او القومية ليصار إلى تغييبه؟ لقد اجاب التاريخ اجابة حاسمة، ان الإمام ومشروع الإمام الذي استمر من خلال المقاومة الوطنية والإسلامية مشروعاً وطنياً وقومياً. فلم يكن تغييبه إلا حلقة في اضعاف المشروع الوطني اللبناني.

ويحق لنا ان نجزم انه لو لم تحاول الدول العربية فرض وصايتها على اللبنانيين، لكان اللبنانيون خففوا كثيراً من معاناتهم واختصروا الكثير من الصراعات والنزاعات، ولكانوا ساهموا اكثر بكثير في معركة العرب القومية وفي تضحياتهم ازاء القضية الفلسطينية. ولكان لبنان اليوم اكثر معافاة في بنيته الداخلية. فلقد ساهم تغييب القيادات الوطنية المجربة في اضعاف مناعة الوضع الداخلي وانتهينا إلى انتاج قيادات لا تتمتع بالتجربة وبعد النظر والثقافة والاخلاقية والحرص على المصالح الوطنية كما كانت من قبل.

لقد طلب إليَّ ان اعالج في هذه المداخلة البعد الانساني لتغييب الإمام موسى الصدر. فهل يمكن الفصل بين البعد الانساني والابعاد الاخرى؟ وبالاحرى اليس البعد الانساني في هذا هو البعد الاخلاقي والوطني والقانوني نفسه. ان تغييب الإمام الصدر خسارة وطنية وعربية وانسانية بجميع هذه الابعاد.

على الصعيد الوطني فقدنا قيمة وطنية كبيرة اخلاقية وعلمية وفكرية وسياسية كان يمكن لها ان تقيم التوازن الحقيقي في الحياة الوطنية. قيمة تعطى للحوار بين اللبنانيين ابعاداً انسانية تتخطى المنافسة على مغانم الدولة من اجل بناء دولة عادلة لجميع اللبنانيين.

على الصعيد العربي، فقدنا بغياب الإمام الصدر شخصية فكرية يمكن لها ان تسهم في تصحيح صورة الاسلام وفي بناء ثقافة اسلامية متسامحة منفتحة وعقلانية، فترد عنا غائلة الغرب والفكر الغربي الجاهل والمتجاهل لقيم الاسلام الحقيقية. ولكان الإسلام الآن أكثر حضوراً وانفتاحاً، ولكانت قوى التعصب والعنف اكثر انزواءً في مجتمعنا.

وعلى الصعيد الانساني، لكان الحوار المسيحي الإسلامي وحوار الثقافات يعلو على ضجيج صراع الحضارات وعلى خطابات نهاية التاريخ عند العولمة الاميركية المعسكرة الزاحفة على العالم بابشع صورها في القضاء على القيم الانسانية.

نعم، هذه هي الحقيقة ان لتغييب الإمام الصدر بعداً انسانياً كبيراً كان صعباً في الماضي تعويضه كما يصعب الآن ذلك.

source