* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الثامن: "الأبعاد الإنسانية والوطنية والقانونية في قضية الإمام الصدر"
لابد، أولاً من الاشارة إاى حسن اختيار هذا العنوان. فالموضوع لا يتعلق عملياً بالظروف الدولية التي قد تحتمل الايجابي والسلبي من الأسباب والنتائج، ولا بالعلاقات الدولية التي يمكن ان نلمح في سياقها أثراً للقانون الدولي. ان هذا الموضوع، ببساطة محكوم بالعوائق السياسية الدولية المفروضة على أكثر من صعيد. فالتعامل مع قضية تغييب الإمام الصدر ورفيقيه يستدعي مناخاً دولياً يحترم حقوق الإنسان – الفرد، ويلتزم حقوق الإنسان – الشعب، ويقدّر مصائر الأوطان وضرورة تحررها ... ولكن هذا المناخ الدولي مفقود في السياق العام الذي يفرضه النمط السائد من السياسة الدولية الراهنة بصرف النظر عن اي شعار او عن اي تمويه.
وقد يبدو من المستحسن ان نستعرض هذه العوائق السياسية الدولية في إطارين اثنين من التعامل:
- اطار التعامل مع قضية التغييب في ضوء حقوق الإنسان.
- وإطار التعامل مع هذه القضية في ضوء الافكار التي إلتزمها الإمام الصدر.
أولاً: العوائق السياسية الدولية في التعامل مع حقوق الإنسان
حرص القانون الدولي على تأكيد الحقوق الاساسية للفرد منذ فترة بعيدة. وكان يسند هذه الحقوق إما إلى شرعة الأديان أو إلى فلسفة القانون الطبيعي أو إلى انتفاضة الثورات الكبرى. ولكن هذه الحقوق تأكدت في الاعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي صدر في العام 1948 ومن ثم تطور في عدد كبير من الشرعات الدولية اللاحقة الملزمة قانوناً.
وقد نهى القانون الدولي عن عمليات الاختطاف والاحتجاز ومشاكلهما:
- فلا يجوز اعتقال اي انسان أو حجزه تعسفاً (المادة التاسعة من الاعلان العالمي والمادة التاسعة من الشرعة الدولية للحقوق السياسية والمدنية).
- ويحق لكل فرد مغادرة اي بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده. (المادة 13 من الاعلان العالمي والمادة 12 من الشرعة الدولية).
ويحق لكل فرد التمتع بنظام اجتماعي ودولي يمكن ان تتحقق في ظله الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الاعلان (المادة 28 منه)
وللفرد الذي ليس من مواطني البلد الذي يعيش فيه، الحق في الحياة والأمن الشخصي. ولا يتعرض أي اجنبي للاعتقال أو الاحتجاز على نحو تعسّفي (المادة 5 من الاعلان المتعلق بحقوق الإنسان والذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها 40/144 المؤرخ في 13/12/1985).
- ولا يجوز لاي دولة ان تمارس اعمال الاختفاء القسري أو ان تسمح بها أو تتغاضى عنها. وعلى كل دولة ان تتخذ التدابير التشريعية والادارية والقضائية وغيرها من التدابير الفعّالة لمنع وانهاء اعمال الاختفاء القسري في اي اقليم خاضع لولايتها (المادتان 2 و3 من القرار 47/133 الصادر عن الجمعية العامة في 18/12/1992). وتترتب على اعمال الاختفاء القسري المسؤولية المدنية للدولة وذلك مع عدم الاخلال بالمسؤولية الدولية ايضاً (المادة 5 من القرار ذاته).
وبذلك يتضح ان قضية تغييب الإمام ورفيقيه مسألة متعلقة، في إطار القانون الدولي، بحقوق الإنسان. ويتضح كذلك ان الدول الموقعه على هذه الاتفاقيات الدولية ملزمة قانوناً باحترام كل هذه المواد تحت طائلة المسؤولية الدولية كما تقدم ذكره.
وهذه الاتفاقيات الدولية الشارعة تضمنت آليات تنفيذية يمكن تفعيلها او رفع التوصيات المناسبة إلى المراجع الدولية بصدد المخالفات الناتجة عنها. والمعروف ان هذه الاجراءات الزاجرة يمكن ان تتخذ بحق الدولة المخالفة سواء لجهة حرمان الانسان حريته وتقييد حركته وتشجيع احتجازه او اختفائه القسري ... الخ ... بالاضافة إلى مسؤولية الأفراد الذين يرتكبون هذا الجرم مباشرة. وثمة محاكم خاصة واليوم المحكمة الجنائية الدولية بالاضافة إلى لجان وهيئات دولية واقليمية مخولة بمثل هذه الاجراءات.
هذا يعني ان انتهاك حقوق الإنسان لم يعد يقابل بالمبادئ والقواعد الملزمة في القانون الدولي فقط، وانما أمام هيئاته التنفيذية وآلياته القضائية كذلك.
هذا في الاطار النظري أو المبدئي، اما في سياق النظام العالمي السياسي الراهن، فان مقتضيات هذا النظام تفرض توسيع الهوة بين ما هو مفترض قانونياً وما هو مفروض واقعياً. فالذي يجري حالياً على الصعيد الدولي يحاول تغييب هذه القضية واغفال حقوق الانسان وإنكار القانون الدولي برمّته. ويصبح، حيال هذا الوضع المستند إلى قانون القوة وحدها وليس إلى قوة القانون، تصرّف او استجابة الدول بقدر ما يُفرض عليها من ضغوط. ولعل الاستجابة الليبية ذاتها إلى ضغوط الولايات المتحدة وبريطانيا .. اسفرت عن دفع مئات الملايين من الدولارات لضحايا لوكربي في الوقت الذي لا تزال تتعثر مسألة التعويضات عن حادث مماثل عائد للجهة الفرنسية.
اما بالنسبة للسياق العام في التعامل الدولي فان الملاحظ، في غير مكان من العالم، ان حرص الدول، صانعة القرار، على مسائل حقوق الانسان، يقتصر على المستوى الاعلامي فقط. وهو لا يكترث بالتقارير الصادرة عن هيئات دولية كثيرة لحقوق الإنسان بدءاً بالتنظيمات الاقليمية ومن ثم الدولية غير الحكومية ووصولاً إلى اللجنة الدولية لحقوق الإنسان.
وتأتي الولايات المتحدة الاميركية في مقدمة هذه الدول التي لا تكترث بحقوق الإنسان وتتبعها دول أخرى كثيرة في أماكن مختلفة من العالم.
ولعل ما يُعرف اليوم بـ"عولمة مكافحة الارهاب" يشكل آلية أميركية جديدة وفاعلة تعتمد للارهاب الدولي تعريفاً اميركياً وتستند في تنفيذه إلى عدد من الآليات التي باتت معروفة اليوم.
وقد توالت الانتقادات الموجهة إلى الادارة الاميركية من أطراف دولية عديدة سواء على مسلكها في افغانستان أو في العراق.
وقد تراوحت هذه الانتقادات بين معتدل يرى في مسلك هذه الادارة تقصيراً بحقوق الإنسان ويطالب بالمزيد منها، وبين متطرف يعتبر ان مظاهر انتهاك حقوق الإنسان يمكن ان تتلخص، في مجملها، في اقفاص غوانتينامو حيث يتكدس الموقوفون من دون اي محاكم بعد شهور طويلة من الاعتقال، وحيث فشلت مساعي الحلفاء، كبريطانيا مثلاً، في التدخل بل الالتماس الملح لدى الرئيس الاميركي في الافراج عن بعض البريطانيين المعتقلين في غوانتينامو او في الاسراع بمحاكمتهم.
واستناداً لكل ما تقدم يمكن تلخيص هذه العوائق السياسية (على الصعيد الدولي) في التعامل مع قضية التغييب بما يلي:
- ان النظام العالمي السياسي الراهن (بما فيه الاقتصادي – الامني – العسكري) محكوم بما قرر القيمون على ادارة الرئيس جورج بوش تسميته بـ"العالمية الاميركية" وذلك اعتباراً من ايلول 2002. وقد شرحوا هذه العالمية في إطار القواعد التي فرضوها بصرف النظر عن مدى مشروعيتها في القانون الدولي. علماً ان الاداراة الأميركية الراهنة جاهرت في رفضها الالتزام بعدد كبير من الاتفاقيات الدولية الناظمة للنظام الدولي بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية.
- ان التقارير الدورية للهيئات غير الحكومية مثل الهييومن رايتس واتش (HRW) او منظمة العفو الدولية أو سواهما تشير تكراراً إلى المخالفات الجسيمة التي ترتكبها الدول الكبرى واكثرها الولايات المتحدة – في مجال حقوق الإنسان. وهذه المخالفات تتناول الأحكام التي تقدم ذكرها مع انتهاكات اخرى. كذلك تشير هذه التقارير إلى ان احداث 11/9/2001 تم توظيفها من قبل دول الشمال لكي تضبط الهجرة اليها ودول الجنوب لكي تدجن المعارضة لديها.
- ان مواقف الدول العربية الرسمية محكومة هي الأخرى، بضغوط أميركية واضحة. وهي تسعى إلى استجابة هذه الضغوط من دون المجاهرة بالانصباع ما خلف تردداً غير واضح ولا حاسم في كل ما يعود إلى الالتزام بحقوق الإنسان من جهة وما يعود إلى شجاعة اتخاذ المواقف والقرار من جهة اخرى. ولعل قضية التغييب التي لم تلق الاهتمام العربي الكافي في السابق ستواجه بمزيد من التهرب ان لم نقل التبرم في الحاضر والمستقبل.
- ان الوضع القائم حالياً في اسرائيل يعكس الانتهاك اليومي لحقوق الإنسان الفلسطيني. وهذا الوضع يندرج – في المفهوم الاسرائيلي المعلن – ضمن مكافحة الارهاب على غرار الموقف الاميركي ذاته وتدعي اسرائيل ان حملتها الراهنة تساهم في الاستقرار الدولي. إلا ان هذه الشعارات سواء كانت لا تنطلي على احد – فانها تقرر مفاصل سياسية كثيرة في سياق النظام العالمي. ومن الطبيعي ان تقف حاجزاً منيعاً بوجه المطالبين بحقوق الإنسان وان تستجيب مطاليبهم.
والمعروف ان الاستخبارات الاسرائيلية تقود اليوم معظم الحملات العسكرية الاميركية ولا سيما في العراق.
ثانياً: العوائق السياسية الدولية في التعامل مع الأفكار
لا بد من توضيح نقطة اساسية في قضية التغييب: ان هذه العوائق شملت او سعت على الأقل إلى ان تشمل تغييب الافكار التي اعتمدها الإمام الصدر وحاول تعميمها على المستويين الاسلامي والوطني وبدأ باطلاقها على المستوى الاقليمي ايضاً:
أ- من الصعب، في الواقع، تلخيص هذه الافكار في إطار واحد ولا حتى في حيز مكاني واحد. فهي لم تكن محصورة فقط بالشأن المذهبي – الديني ولا المحلي اللبناني وانما كانت توجه إلى الإنسان ... الإنسان الذي أدرك الإمام اهميته ومحوريته. فالاديان في نطره: "كانت واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد: دعوة إلى الله وخدمة للإنسان. وهما وجهان لحقيقة واحدة ... وكانت تهفو إلى غاية واحدة: حرب على آلهة الارض والطغاة، ونصرة للمستضعفين والمضطهدين، وهما ايضاً وجهان لحقيقة واحدة" (من كلمته في كنيسة الآباء الكبوشيين بتاريخ 18/2/1975).
ولكن هذا الانسان مضطر إلى الدفاع والصمود والتصدي: الدفاع عن القيم التي غرسها الله فيه من خلال الأديان والصمود في وجه التحديات الفكرية والمادية المختلفة والتصدي لكل ضروب الوعد والوعيد من الآخر الذي يريد له استدامة التبعية. والمتفق عليه ان السلوك الانساني يندرج، طوعاً لا قسراً، في الاطار السياسي ذي الرؤيا الواضحة والمضمون النوعي المميز.
"فالدين لا يمنع اطلاقاً النشاط السياسي شرط ان يكون منسجماً معه من حيث المبدأ والطريق والهدف. ولعل قلق الإنسان المعاصر مردة التنكر لله واعطاء الانسان صفة الاطلاق لمصنوعاته ...".
اما "الحضارة الغربية فقد فشلت لانها لم تتمكن من اسعاد البشرية". والحضارة الحديثة لا تقام، في رأيه، إلا على ضؤ نتائجها على الصعيد الانساني". وحركة التاريخ، بالنتيجة، تدور حول محور واحد هو الانسان وارادة الانسان ..." (من خطب الإمام وتصريحاته في العام 1973).
هذا التبشير بالإنسان وبصرف النظر عن خلفياته السياسية لا يمكن ان يحظى بقبول صانعي القرار الذين يرفضون الشفافية وينصاعون إلى ضغوط الشركات العملاقة عابرة الجنسية والتي تفرض كل وجوه العولمة على اصعدتها الاقتصادية والتقنية والثقافية وغيرها.
فالنظام العالمي الراهن يتشبث ظاهراً بالاقتصاد الحر والدولة الناعمة والانفتاح الكوني. وذلك كله من اجل تيسير وتسيير الحركة الاقتصادية الهائلة للشركات العملاقة. وهذه الحركة تعتمد على عنصر الربح وان على حساب الإنسان وعلى عنصر الانتاجية الضخمة وان على حساب الناس الفقراء. ولهذا فان جميع التحركات المناهضة لهذه العولمة والتي تجلت في التصدي لاجتماعات منظمة التجارة الدولية انما كانت ترفع ولا تزال شعارات معبرة مثل "الناس قبل الربح" و"عالمنا ليس للبيع" و"لا للدماء من اجل النفط" وما شاكل من العبارات التي تتمحور حول قيمة الانسان وكرامته.
ولعل الدعوة المتكررة التي تطلقها اليوم بعض الدول، وهي أقلية، والتي تؤكدها ايضاً بعض المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية تصب في الاتجاه النوعي ذاته من اجل انسنة هذه الموجة الكاسحة من العولمة الطاغية.
ب – ولعل المفصل الإساسي في فكر الإمام الصدر يستند إلى آلية راقية من اجل التوصل إلى الهدف الأسمى. فالآلية المعتمدة لديه تقوم على الحوار وتسعى لتوظيف كل الامكانات العقلية المتاحة لإسعاد الإنسان وتوفير كرامته. وهو يؤكد تكراراً: "علينا ان نقيم الحضارة الحديثة على ضؤ نتائجها على الصعيد الانساني". ولن يتسنى ذلك الأمر للشرق او لسواه. وليس ثمة طريقة "لصيانة المنطقة إلا باعتماد الفكر الإسلامي المتطور المنفتح". ولذلك فانه "لا بد من عرض الاسلام عرضاً علمياً بلغة العصر".
وهكذا يمكن ان تتلاقى الحضارات وتتضافر من اجل الإنسان المؤمن.
إلا ان هذا الفكر المحاور لا يلتقي اليوم مع الذين يصرون على صدام الحضارات في مقاربات خاطئة بل مضللة في محتواها الفكري وفي خلفياتها التاريخية وفي مستواها الديني- ولعل هذا الشعار (اي تصادم الحضارات) الذي يتشبث به الغرب الأميركي تحديداً كذريعة لتحقيق اغراض جيواقتصادية وجيوسياسية معروفة ... هذا الشعار ذاته تلقفته تيارات دينية متطرفة هي الأخرى مستخدمة" الذريعة ذاتها من اجل تعطيل الدور الحواري الاساسي في الاسلام وهو الدور الذي دافع عنه الإمام الصدر في أكثر من مناسبة. وبذلك تصبح العوائق السياسية الدولية في اقامة الحوار بين الحضارات متمثلة بالاصرار الذي تمارسه الادارة الاميركية وحلفاؤها في مكافحة الارهاب وفقاً للوائح الاميركية للتنظيمات الارهابية، وكلها اسلامية كما هو معلن. كذلك ان هذا الاصرار على صدام الحضارات اعطى مجالاً واسعاً لردود الفعل الاسلامية المتطرفة التي سعت هي الأخرى إلى توظيفه من أجل فرض وجودها وجرّ المجتمعات الاسلامية إلى موقفها.
ان الدين – كما يؤكد الإمام الصدر منذ ثلاثين عاماً – لم يقف يوماً في وجه الانتاج الثقافي والحضاري. ولكن بعض القيمين عليه استدرجوا إلى اتخاذ المواقف المتشنجة ذاتها في ردود افعالهم على الغرب ونواياه.
وبعد كل هذه التجارب من افغانستان إلى العراق إلى اي مكان آخر في العالم تبين ان الحلول العنيفة واستخدام القوة وفرض الارادة لن تحل اية مشكلة في اي مكان. وحده الحوار العقلاني، الذي ينطلق من كرامة الانسان ويؤكد على حق كل الشعوب بالحياة الحرة الكريمة، كفيل بحل كل المشكلات وبإعادة التعاون البناء بين كل الشعوب.
إلا ان المسألة، في هذا السياق، محكومة بالفعل بإرادة ثلاثية الأطراف من اجل التصادم وليس التحاور:
- ارادة الشركات الكبرى التي تستسيغ حماية من قبل الدول لتمرير مصالحها وتنفيذ رغباتها وتسهيل حركتها.
- ومتطلبات الجهات العسكرية في الدول الكبرى التي تحتاج إلى ساحات ساخنة من اجل التبرير العسكري والمالي لوجودها ومن اجل التدريب التقني لمعداتها وطواقمها، ومن اجل فرض نفوذها على المقدرات السياسية لاي دولة كبرى.
- والتغلغل الاسرائيلي في المنطقة سواء على الصعيد الاستخباري الذي يصب، في النتيجة، في المصلحة الأمنية الاسرائيلية، كما يصب ايضاً في المصلحة الاقتصادية الاسرائيلية.
وهكذا فإن العوائق السياسية الدولية تعطل كل امكانيات الحوار الحضاري كما طالب به الإمام الصدر، وتواظب على خلق العدوالذي تريده الادارة الاميركية تحديداً في سياستها الخارحية، وهي السياسية القائمة اساساً على خلق العدو ومن ثم محاربته.
ومع ذالك فإن الامام الصدر لم يفقد الأمل بامكانية حوار آخر قد يكون مثمراً وفاعلاً وهو الحوار العربي- الاوروبي. وقد يصبح بنظره من أفضل الصيغ لإحترام كل الحضارات والثقافات ولخلق التفاعل التام والمتكافىء بينها. وهو يعتبر ان لبنان يشكل، في هذا السياق ضرورة حضارية للعالم كله شرط ان يتوجه لهذا العالم مستنداً الى وحدته الوطنية الصامدة. أما اذا سقطت تجربة لبنان فإن الحضارة الانسانية تكون قد اظلمت هي الآخرى.
والواقع اننا اليوم، بعد مرور حوالي ربع قرن على هذه الكلمات، نستشعر الحاجة ذاتها الى حوار حضاري بديل في العلاقات المطلوبة بين العرب واوروبا، فهل تسمح السياسة الدولية الراهنة بذلك؟
الواقع ان العوائق السياسية على الصعيد الدولي تقف بالمرصاد لأي تقارب عربي- أوروبي قد يؤثر على مصالح الادارة الاميركية في الشرق الاوسط، وقد يؤثر ايضاً على المشروع الاسرائيلي الشرق اوسطي كذلك. وقد سبق لأسرائيل من جهة وللولايات المتحدة من جهة اخرى ان تعرضت لمثل هذه البدائل وابقت الصيغة الشرق أوسطية رهينة الارادة الاميركية- الاسرائيلية المشتركة.
وخطورة هذه العوائق السياسية الدولية انها تفرض على الشرق الاوسط كله أحادية التعاطي مع هذه الادارة الاميركية من جهة وتنفيذ ما تطلبه من جهة اخرى وان كانت هذه المطالب تجري على حساب المصالح العربية وكرامة شعوبها.
ج -اما الفكر السياسي ومن ثم الموقف السياسي للإمام الصدر من مسألة الصراع العربي- الاسرائيلي فإنهما (اي الفكر والموقف) يميزان الامام منذ بدء تعاطيه بالشأن السياسي. وهذا الموقف لم يكن قابلاً لأي مراجعة او تردد او تحريف. فإسرائيل " شر مطلق" وهي عدوة العرب والمسلمين والمسيحيين والانسانية والله سبحانه، ولذلك "يقتضي تكوين مجتمع حرب وتجنيد الطاقات العربية والاسلامية في معركتنا مع اسرائيل".
واستبعد الامام ان يكون لمشكلة فلسطين اي حل سلمي. ولذلك يجب في رأيه "استخدام جميع الوسائل لدرء الخطر الصهيوني على المنطقة ومستقبلها. وهو يعتبر ان السلاح الاقوى في يد العرب ضد اسرائيل هو سلاح المقاطعة ولا يحق لأحد ان يسقط هذا السلاح وحده".
إلا ان الأخبار التي تتردد يومياً تشير بما لا يقبل الشك:
- ان اسرائيل كانت ولا تزال المستفيد او الرابح الاول من احداث افغانستان الى الحرب على العراق الى آخر السلسلة المنتظرة في سياسة " مكافحة الارهاب" التي تتعهدها الادارة الاميركية.
- ان المخابرات الاسرائيلية كانت بشكل او بآخر وراء التحريض من اجل الحرب على العراق ووراء تجريده من جيشه وعلمائه وقدراته الاخرى.
- وانها تريد بالنتيجة، ان يتولى هذا العراق الجديد المنتظر عملية التطبيع مع اسرائيل تمهيداً في ذلك للوصول الى شرق أوسط "جديد" تحت السيطرة الاسرائيلية.
- وبذلك لم يعد مسموحاً ان يستأنف رجل ما إطلاق شعار "اسرائيل شر مطلق" ويدعو العرب الى مقاطعتها في الوقت الذي ترسم هي خريطة طريقها فيما الادارة الاميركية لا تقوى على الرفض ولا حتى التحفظ على الرغم من اطلاق الوعود والشعارات.
خلاصة:
أ- ان مسألة تغييب الامام موسى الصدر ورفيقيه في إطارها القضائي وفي ضوء كل التحقيقات التي جرت ترتب على ليبيا مسؤولية مدنيةواضحة ومسؤولية دولية كذلك وفقاً للقانون الدولي وذلك كما ورد في القسم الاول من هذا البحث .
وهذه المسؤولية الدولية للدولة المضيفة لا تقتصر فقط على لجنة تحقيق ولا على زيارة الى ليبيا من دون ان تحظى بمقابلة مسؤوليها ولا بالقيام في اجراءت تحقيق فيها. فالدولة التي يحمل الامام ورفيقاه جنسيتها مسؤولة هي الاخرى عن القيام بكافة الوسائل (وهي لم تستنفذ بعد) الممكنة من اجل المطالبة واتخاذ المواقف بالاستناد الى هذه المطالبة. وثمة مراجع عربية واقليمية ودولية يمكن ان تقوم بهذه المهمة بناء لإلحاح الدولة اللبنانية.
ب- ان تغييب الامام ورفيقيه مسألة اساسية تتعلق بحقوق الانسان واذا تركت هذه المسألة من دون ان تقوم المنظمات الدولية- الحكومية وغير الحكومية- بدور أساسي في الملاحقة والتعقب ومن ثم نشر النتائج الايجابية او السلبية في سياقها، فان المساعي الاقليمية والدولية لحقوق الانسان تبقى عرضةً للتراجع او المساومة او ربما التخلي.
ج- ان العوائق السياسية الدولية في التعامل مع قضية التغييب تشكل حاجزاً خطيرا يسود العلاقات الدولية برمتها. ولكن الاصوات الرافضة والمنتقدة لهذه الموجة الكاسحة من الإندفاع الاميركي الراهن باتجاه "العالمية الاميركية" تزداد هي الاخرى وبوتيرة عالية. واذا كان مجلس الأمن قد استُخدم في قضية لوكربي ومعاقبة ليبيا على تورطها فيها قبل انتهاء المحاكمة بصددها، فإن العرب مدعوون الى رفع هذا الموضوع الى مجلس الأمن ايضاً من اجل تشكيل لجنة تحقيق دولية بهذا الصدد تمهيداً في ذلك لاتخاذ القرار المناسب.
د- وقد لاحظنا ان قضية تغييب الامام ورفيقيه لا تتعلق فقط باشخاصهم وانما تتضمن محاولة لتغييب أفكار الامام ايضاً. ولعل الاسلوب الوحيد الذي يمكن تقدير الامام من خلاله يتمثل في التزام هذه الافكار واتخاذ المواقف السياسية على اساسها.
هذه الافكار والمواقف تشكل الذخيرة الاساسية للتصدي لهذه العوائق السياسية الدولية سواء في الصرار على القيم الاصيلة للاسلام او على منطقه الحواري الحضاري او في ان اسرائيل شر مطلق ام في ان لبنان ضرورة حضارية للعالم أجمع، أن تعايش الطوائف فيه هو -كما قال الامام- "التجربة الوحيدة الحضارية في هذا العالم" واذا سقطت هذه التجربة " اظلمت الحضارة العالمية".