* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السابع: "الذات والآخر في الاعلام المعاصر")
(الجلسة الأولى)
دور الإعلام اليوم
إذ اختار مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات لهذا العام الإعلام موضوعاً لمؤتمره " كلمة سواء " السابع، فحسناً اختار. فالتركيز على واقع الإعلام ودوره في الظروف الراهنة وبالتحديد في بداية الألفية الثالثة، وبداية ما سمّي بالعولمة، وبداية الحقبة ـ وأقول "الحقبة" ـ التي يمكن تسميتها " تداعيات الحادي عشر من أيلول 2001"، هو تركيز في مكانه، لا بل هو ضرورة.
لقد تردّد كثيراً القول بأن الإعلام هو، في الدولة، سلطة. وهو سلطة رابعة. هذا وقد تنبّه السياسيّون والاقتصاديون إلى سلطة الإعلام منذ زمن بعيد. ومن سمّى الإعلام سلطة ووضعه في المرتبة الرابعة في مراتب السلطات هو البرلماني البريطاني (ادموند يورك) في نهاية القرن الثامن عشر. واعتبر هذا الأخير أن السلطات الأساسية في الأمة ـ وكان يتحدّث عن الأمّة البريطانية ـ هي أربع: اولها سلطة الكنيسة، وثانيها السلطة الملكية، وثالثها سلطة المجلس النيابي، ورابعها سلطة الصحافة.
فيما بعد، ومع تطوّر وسائل الإعلام، وعلمنة المجتمعات الغربية انكفأت سلطة الكنيسة إلى الشأن الخاص وحافظ الإعلام على مكانته في الشأن العام، لا بل عزّزها أكثر فأكثر.
وبقيت السلطات أربعاً، كما هو معروف ومتداول: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، والسلطة الإعلامية.
أمّا اليوم، ومع التطوّر السريع والمذهل لوسائل الإعلام والاتصال، وبالأخصّ مع بروز ظاهرة العولمة ـ وأبرز وجوهها هو بلا شك الوجه الاقتصادي ومن ثمّ الإعلامي ـ نرى أنه من الضروري إعادة النظر في تسمية السلطات التي تحكم، وفي أكثر الأحيان "تتحكّم"، بالمجتمعات البشرية الحالية، لا بل بالمجتمع البشري الكوني، وفي تحديد تراتبية هذه السلطات.
وهكذا يمكن القول إن السلطات الحاكمة اليوم فعلياً في مصائر الشعوب والدول هي ثلاث: الأولى هي سلطة الاقتصاد وهي الأكثر فعلاً وفعالية، والثانية هي سلطة الإعلام وقد أصبح، من جهة، معولماً رغم إرادة جميع الذين يحلمون ويكافحون لكي يبقى الإعلام، او بعض منه، أداة طيّعة في يد الأمة / الدولة ووسيلة مميّزة لنشر الثقافات المحلية وتدعيم الهويّات الخاصة، كما أصبح، من جهة أخرى، السلاح الأمضى في يد "اللوبيات" الاقتصادية والمالية. أما السلطة الثالثة فهي السلطة السياسية. إلاّ أن هذه الأخيرة غالباً ما تؤسس سلطتَها سلطةُ المال والاقتصاد وتتحكم بصورتها وسائلُ الإعلام.
نتيجةً لما تقدّم، نرى أن أي حديث في موضوع "الإعلام والوحدة الوطنية" ـ على الصعيد اللبناني ـ وهو موضوع حلقتنا اليوم، لن يكون مفيداً ومكتمل المعنى ما لم يأخذ بالاعتبار الوضع الحقيقي للإعلام في ظل المعطيات المحلية والاقليمية والعالمية الراهنة.
الإعلام والوحدة الوطنية اللبنانية
فأين إعلامنا من مسألة الوحدة الوطنية اللبنانية؟
منذ الاستقلال، عام 1943، والإعلام اللبناني يدأب على تسويق مقولة "الوحدة الوطنية" وكانت قد تأسست حينها على الصيغة "الميثاقية" التي تجلّت في ما قاله رياض الصلح: "لا الشرق ولا الغرب بل الوحدة الوطنية"، وكان أساس الميثاق آنذاك التأكيد على مفهوم العيش المشترك ورفض الانتداب.
إبّان الحرب اللبنانية غاب، إلى حدّ كبير، مفهوم الوحدة الوطنية، وحلّت في الإعلام التعابير الطائفية المؤدلجة، وسُوِّقت ضمن ديماغوجيّة سياسيّة مقفلة. إلاّ أن إعلامنا اللبناني، طيلة زمن الحرب، وعلى مختلف اتجاهاته، كان يتحدّث باستمرار عن "الحوار الوطني" بشروطه وأشكاله وجوهره بغية الوصول إلى "ثوابت وطنية" تعيد لـ "الوحدة الوطنية" كينونتها.
إلى أن جاء "اتّفاق الطائف".
ومنذ اتّفاق الطائف حتى يومنا هذا يسوّق إعلامنا اللبناني، بشكل أو بآخر، مقولات، أصبحت شائعة ومتداولة، وتصبّ كلّها بدرجة أو بأخرى، في مسألة الوحدة الوطنية.
فما هي "الثوابت" التي اتفق عليها اللبنانيون في اتّفاق الطائف والتي تتعلّق مباشرة بمسألة "الوحدة الوطنية"؟
هناك ثوابت أُدرجت في باب "المبادىء العامة" في وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، وأهمها:
لبنان وطن سيّد حرّ مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحدٌ أرضاً وشعباً ومؤسسات...
لبنان عربيُّ الهويّة والانتماء...
لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحرّيات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل.
لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.
أما في باب "الاصلاحات السياسية" فإننا نجد بند إلغاء الطائفية السياسية. وتنص الوثيقة في هذا البند على ما يلي:
"إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية، وعلى مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمّة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية".
وفي باب "الإصلاحات الأخرى" تذكر الوثيقة الإعلام وتنص على وجوب "إعادة تنظيم جميع وسائل الإعلام في ظل القانون وفي إطار الحرية المسؤولة بما يخدم التوجّهات الوفاقية وإنهاء حالة "الحرب".
أخيراً تدعو الوثيقة إلى تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي وإلى العلاقات المميزة ما بين لبنان وسورية.
الإعلام و"الثوابت الوطنية"
كيف تعاطى الإعلام اللبناني مع تلك الثوابت الوطنية؟
لسنا هنا في صدد إعطاء تقويم موضوعي علمي مفصّل ومقارن ومدعّم بالشواهد والإثباتات. فهذا أمر يخضع لمقاييس ومعايير وأدوات بحث علمية لا تدّعي هذه المساهمة الاستناد عليها.
مع ذلك سنحاول، هنا وثمة، طرح بعض الأفكار والملاحظات والآراء وهي كلها خاضعة للنقاش.
لقد دأب الإعلام اللبناني على تسويق الثوابت التي تدعم الوحدة الوطنية وما تفرّع عنها من مقولات وشعارات، وباتت هذه نقاط محورية في كل خطاب أو تحليل أو مهرجان أو لقاء.
فإضافة إلى ما جاء في وثيقة الطائف وذكرنا قبل قليل تتردد كل يوم مقولات وشعارات أصبح من الضروري التوقف عندها لنتبيّن حقيقة مضمونها والغايات من استخدامها وخاصة مدى ترجمتها للواقع المعاش: من تلك المقولات / الشعارات: الحوار الوطني ـ السلم الأهلي ـ الأمن الأهلي ـ العيش المشترك ـ الانصهار الوطني ـ الوفاق الوطني ـ عدم إثارة النعرات الطائفية ـ نموذجية الصيغة اللبنانية ـ لبنان الرسالة ـ لبنان الحريات والديمقراطية ـ دولة القانون والمؤسسات ـ العلاقات المميّزة مع سورية الشقيقة... وغيرها وغيرها...
إن هذه المقولات، وفي الأطر والأشكال التي تستخدم فيها قد أصبحت كل منها: مقدّساً / محرّماً يتبارك مَن يتلفّظ بها ويُلعن مَن يطرح عليها التساؤلات. أصبحت جوهراً ثابتاً ونهائياً، قائماً بحدّ ذاته لا تطاله متحوّلات الزمان والمكان ولا تؤثّر في كينونته العلاقات ما بين الأفراد والجماعات وجميع أنواع المستجدات. وتوضع، بالتالي، تلك المقولات تحت خطوط حمراء لا يجوز البتّة تخطّيها.
من الأمثلة التي يمكن أن أقدّمها عن الالتباسات التي تحصل في استخدام تلك المقولات، مثال مقولة "الأمن الأهلي". فالاعتقاد السائد، وبالأخص الممارسة القائمة، أن الأمن الأهلي هو الذي يحمي الوحدة الوطنية، وبالتالي يُستخدم، أحياناً كثيرة،الأمن الأهلي استباقياً كوسيلة وقائية لمنع ما يُظَنّ أنه يعكّر الوحدة الوطنية. بينما الأمن الأهلي هو ـ باستثناء بعض الحالات ـ نتيجة أكيدة ومضمونة وطبيعية لمجتمع تتوثّق فيه عرى الوحدة الوطنية. ذلك أن الوحدة الوطنية غالباً ما تكون اتفاقاً ما بين جماعات يتمّ على أساس تسويات تقرّها الجماعات لتعيش بعضها مع بعض بانسجام ووئام وسلام ضمن وطن أو أمة. فإذا ما انسحب أي فريق من الأفرقاء من الالتزام بالتسويات المتفق عليها ينفرط الأمن الأهلي.وفي النتيجة يتعزّز الأمن الأهلي بتعزيز الوحدة الوطنية، ولا يمكن الأمن بدون هذه الوحدة إلاّ أن يكون قمعاً وسبباً للتفكك والانقسام.
وإليكم مثلاً آخر عن التباسات استخدام مقولات الوحدة الوطنية بشكل سطحي وغير عقلاني: مَنْ مِن مستهلكي الخطاب السياسي والثقافي السائد عندنا يتوقف لحظة أمام مقولة "الانصهار الوطني" ليكتشف أنها تعني، في ما تعني، أولاً واقع "التعدّدية"، وثانياً ، ضرورة "الوحدة" ضمن التعدّدية. أي أن الوحدة الوطنية ضرورة. والتعدّدية حق مشروع، إن لم نقل واقعاً حتمياً. فلماذا، كل مرّة يحكى عن التعدّدية ، تقوم القيامة، وكأنّ مَن ينادي بالتعدّدية عدوّ الوحدة الوطنية. بينما، وللأسف، لا يستقيم الكلام عن التعدّدية ويُرحّب به إلاّ في حال واحد: هو حال الطائفية.
الطوائفية...والطائفية
العيش المشترك هو من الثوابت الوطنية. لكن الطائفية هي سمّ قاتل للعيش المشترك وهي من ألدّ أعداء الوحدة الوطنية. هنا، لا بدّ من التمييز ما بين "الطوائفية" و"الطائفية".
الطوائفية هي حق المتديّنين في أن ينتموا إلى جماعة دينية. وهو حق طبيعي ومشروع، لا بل أقول إنه ضروري.
إنه ضروري لأن الطائفة هي التعبير السوسيولوجي عن الإيمان الديني. فما قيمة الايمان إن لم يُعبّر عنه ثقافياً واجتماعياً؟
أما الطائفية فهي تمثيل الطوائف في السلطة السياسية، وبالتالي اشتراع بعض القوانين الملزمة، استناداً إلى الانتماء الطائفي.
ففي لبنان، وخوفاً من أن تتحكّم اكثرية عددية ، من وجه طائفي واحد، بسائر الأقليات،
يبدو أن ثمة شبه إجماع، مدفوعاً بالخوف من تفكك الصيغة اللبنانية التعدّدية، ومن حروب طائفية محتملة، يدعم اليوم الصيغة الطائفية.لكن الخوف لا يبني وطناً موحّداً وراسخاً. لذلك، قلّما يُحكى اليوم من جهة عن النظرة الإيمانية، المسيحية والإسلامية، للطائفية. وفي غياب إجراءات سياسية ودستورية وإدارية وثقافية تخفّف من التطيّف، يزداد هذا التطيّف في ذهنية الشعب وتصوراته وعواطفه وتصرفاته، من جهة أخرى.
والعلمانية باتت كلمة منبوذة، بل محرّمة، تُرمى بأبشع التهم، ولا يحق لأحد أن يدافع عنها من دون أن يُنظر إليه كأنه عدو لدينه ولطائفته. علماً بأن كثيرين ممن ينادون بالعلمانية لا يتطلّعون إليها بصيغتها الالحادية التي ظهرت في الغرب، وبالأخص في فرنسا، بل يطالبون بعلمانية تحمي الإيمان والدين من التشويهات التي تلحق بهما من جرّاء الطائفية، كما تهدف إلى تحقيق المساواة بين أبناء الوطن الواحد.
الإعلام والطائفية والعيش المشترك
فأين نحن مما قرّره اتّفاق الطائف حول إلغاء الطائفية السياسية، ولا سيما باتخاذ الوسائل الناجعة لتهيئة هذا الإلغاء، في النفوس كما في النصوص؟
وأين إعلامنا من التصدي لهذه المشكلة التي هي، في نظرنا، من أكبر المشاكل التي تعترض اكتمال وحدتنا الوطنية.
صحيح أن إعلامنا اللبناني كان مؤسّساً للإعلام العربيّ الحديث عامة. وصحيح أن إعلاميّينا هم من روّاد النهضة العربية الثقافية والسياسية. وما زال إعلاميّو اليوم اللبنانيون في الطليعة كفاءة وثقافة وأخلاقاً. لكن، لا بدّ من الاعتراف بأن إعلامنا بات محاصراً أكثر فأكثر، ويوماً بعد يوم، وأن إعلاميّينا يكافحون التدجين. فمن يستطيع أن ينكر أن وسائل الإعلام في لبنان تنضوي شيئاً فشيئاً تحت أنظومة المحاصصة، المحاصصة الفئوية والاقتصادية والسياسية والمذهبية. وفي حال كهذه يضيق هامش الحرية الإعلامية.
والحرية الإعلامية ـ كسائر الحريات ـ هي من حقوق الإنسان الأساسية . وكما قال سماحة الإمام موسى الصدر: "الحرية هي حق للصحفي من المجتمع الذي يعيش فيه. إنها خدمة له ليعمل، وهي خدمة للمجتمع ليعرف كل شيء. فلا صيانة للحرية إلاّ بالحرية، وهي بعكس ما يقال لا تحدُّ أبداً، لا نهاية لها" (حوارات صحفية 1، ص 4)
أما دور الإعلام، في مختلف القضايا، لا سيما في صياغة خطاب وطني حقيقيّ ينأى عن التعويم المصطنع لمنطق الثوابت الوطنيّة، فإنه دور رسوليّ.
عندما يتعلّق الأمر بلبنان فلا بدّ أن نتذكّر كلام السيد الإمام موسى الصدر أمام وفد نقابة المحررين حيث قال: "إن لبنان ضرورة حضارية للعالم، والتعايش أمانة عالمية في أعناق اللبنانيين، وإذا سقطت تجربة لبنان فسوف تظلم التجربة الإنسانية" (حوارات صحفية2، ص269)
وإذا كان لبنان ضرورة حضارية للعالم، فكم يصبح دور الإعلام كبيراً. وهنا أعود إلى كلام السيد الإمام حيث يقول فيه: "لذلك فليسمح اللبنانيون لنا بأن نقول إن التعايش ليس ملكاً للبنانيين لكنه أمانة في يد اللبنانيين ومسؤوليتهم وواجبهم وليس حقهم فحسب، وهنا يأتي دور الإعلام المقنع وعظمة هذا الدور" (حوارات صحفية2، ص 269-270).
فهل ننجح في تعميق صيغة العيش المشترك وفي تنقية شوائبها ليبقى لبنان نموذجاً معاشاً يكذّب عملياً أطروحات صراع الحضارات والثقافات والديانات. إننا نودّ أن يكون الجواب بالإيجاب. وسيكون كذلك عندما نقتفي آثار كبارنا الذين علّمونا ويعلّمونا بخبراتهم وأعمالهم وعطاءاتهم، وهم، على الرغم ممن غيّبهم، أكثر حضوراً معنا وفينا، ومنهم سماحة الإمام موسى الصدر ـ أعاده الله إلينا في القريب العاجل ـ والذي ختم حديثه مع وفد نقابة المحررين، ونختم به حديثنا، إذ قال: " التعايش اللبناني هو أقدم من الميثاق الوطني ومن واضعي الميثاق الوطني ومن آبائهم وأجدادهم (...) التعايش هو من صميم الحياة اللبنانية. وما نشاهد في ظروف اليوم هو في تصوري ظروف استثنائية ناتجة عن بقايا إعلام الحرب، وسنتغلّب عليها بالقوّة والإخلاص" ( حوارات صحفية2، ص 272 ـ 273).
نشرت بجريدة النهار تاريخ 22/12/2002 بعنوان "الاعلام كتسويق"