* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السابع: "الذات والآخر في الاعلام المعاصر"
(الجلسة الثانية)
أوّلاً : المقدّمة :
منذ سنتين وفي تعليقٍ لمشارك في إحدى الندوات التلفزيونية العربية حول موضوع الإندحار الإسرائيلي من جنوب لبنان، جاء أن المسألة الآن ستتحوّل إلى كيفية إقامة علاقات حُسن جوار بين لبنان وإسرائيل، والبدء بإجراءات التطبيع الضرورية، لا سيما، وان سكان الشريط المحرّر قادرون على لعب دور الوسيط بعدما أمضوا ما يزيد على العشرين عاماً تحت وطأة الإحتلال. وهكذا، وبكل بساطة، مرّ هذا الكلام الخطير في هذه المحطة التلفزيونية وكأنّه وجهة نظر مقبولة، أو كأنّ هذا النقاش هو محاولة لإعطاء أوضاع محسومة أبعادها التفصيلية والتقنية.
وفي الاشهر الماضية أوردت وسائل الاعلام معلومات وارقاماً، تتعلق بموضوع المياه المشتركة في حوض نهر الحاصباني والوزاني بين لبنان واسرائيل، وهي في مضمونها ترتكز الى المصادر الاميركية، وتحاول انتقاص حقوق لبنان المشروعة، واقناع العالم ان استغلال اسرائيل لمياهنا طوال اربعين سنة بات حقاً مكتسباً. والمؤلم في ذلك ان بعض الباحثين والسياسيين اعتمدوا هذه المعلومات مشككين بقدرة لبنان على مواجهة هذا الوضع. ولكن صمود الدولة ادّى الى بدء جرّ المياه من نهر الوزّاني رغم التهديدات الاسرائيلية بضرب المنشأآت على هذا النهر.
ومنذ فترة دأبت فضائيات عربية على التركيز على تململ فلسطيني بشأن الجدوى من الانتفاضة. وحرص بعضها على هدم صدقية القيادة الفلسطينية في وقت تبدو فيه الاوضاع بحاجة الى أكبر قدر من التماسك والصمود. وآخر ما سمعناه منذ ايام كان أرقاما في دراسة عربية للرأي العام الفلسطيني تؤكد ان اكثرية الشعب الفلسطيني تؤيد ضرورة إنهاء الانتفاضة. وفي مثل هذا الكلام ما يؤدي عملياً الى شق الصف الفلسطيني اولا والعربي ثانياً. وقد تناولته وسائل الاعلام العربية بنشره، وكأنه معلومة صادقة لا تقبل الجدل، في وقت كان بعضها يبرز ما قام به استشهاديون ضد اهداف اسرائيلية في كينيا، مع الاشارة الى اندراج ذلك في إطار الاعمال الارهابية.
ولوضع الامور في نصابها، فلا لبنان هرول نحو تطبيع مزعوم، ولا الفلسطينيون سارعوا لإنهاء الانتفاضة. ولكن ولوضع الامور في منظورها الصحيح كذلك، لا بد من التساؤل عما اذا كان بعض الاعلام العربي في التغطية الحدثية، او في المواقف والتعليقات يقع في خدمة الاهداف الاسرائيلية، ويعمل على إضعاف الصمود العربي في وجه الساعين الى أيّ سلام مع العدو والى تطبيع مسبق يسقط فيه تدريجياً عدد من الدول العربية؟.
ثانيا: النظرة الغربية:
في آذار عام 1999، وفي نقاش حول موضوع السلام والتّطبيع كقضيّة يتناولها الإعلام العربيّ والإعلام الإسرائيليّ، تجاه الرّأي العام الأميركيّ ، قال لي رئيس المؤسّسة الدّوليّة للإعلام International Communication Institute إنّ الإعلام العربيّ الّذي تتولاّه جمعيّات وهيئات ذات طابع سياسيّ وثقافيّ واقتصاديّ في الولايات المتّحدة الأميركيّة قد حقّق تطوّراً بارزاً في السّنوات الأخيرة، وتمكّن من الوصول إلى العديد من مواقع القرار السّياسيّ في واشنطن، وساهم إلى حدّ بعيد في تراجع الإختلال في المواقف الأميركيّة الرّسميّة والشّعبيّة.
وأضاف رئيس المؤسّسة الدّوليّة للإعلام إنّ هذا التّطوّر لا يمكن قياسه اليوم بصورة دقيقة، لأنّ أهداف هذا الإعلام العربيّ ليست واحدة، والهيئات الّتي تتولّى قيادة هذا الإعلام تتباين في مواقفها الأساسيّة، بحيث تختلف المضامين والقضايا المطروحة حسب اهتمام هذه الهيئات فيتعذّر، إلى حدّ كبير، إيجاد نمط قياسي موحّد، فلا يبقى سوى رصد النّجاح أو الفشل عند عرض قضيّة ذات اهتمام شعبيّ في الولايات المتّحدة الأميركيّة.
وفي لقاء مع عدد من المفكّرين العرب في واشنطن في تشرين الثّاني 1997، ذكر أحد أساتذة الإعلام أنّ الأميركيين يفضّلون الإعلام الذّكيّ، السّريع، والكثير المعلومات، والمتفاعل مع المجتمع في تناوله لقضايا ذات اهتمام واسع فيه. وحدّد ثوابت ينطلق منها الرّأي العام الأميركيّ في نظرته للحملات الإعلاميّة، وفي فهمه للقضايا المثارة أمامه. ومن هذه الثّوابت مفاهيم الحرّيّة والدّيمقراطيّة، والمحافظة على حقوق الإنسان، ومفاهيم السّلام والتّعاون بمواجهة رفض التّعصّب والإرهاب.
والواضح ممّا سبق أنّ الإعلام العربيّ في مواجهة الرّأي العام الغربيّ، والأميركيّ بصورة خاصّة، ما يزال يجد صعوبة في تجاوز عقبة إقناع الرّأي العام بعدالة قضاياه، رغم أنّه تمكّن من اعتماد الأساليب والوسائل الّتي سبقه إليها الإعلام الصّهيونيّ، ورغم تمكّنه من فرض نفسه كأحد الرّوافد الإعلاميّة الرّئيسة الّتي تصبّ باتّجاه أصحاب القرار.
والواقع أنّ مشاكل الإعلام العربيّ باتّجاه الغرب لا تنحصر في مسألة طرح قضايا الصراع العربي الاسرائيلي، بل تمتدّ لتشمل قضايا مثل صورة الإنسان العربيّ لدى الرّأي العام الغربيّ، وفهم الرّأي العام للإسلام فهماً إيجابيّاً في إطار حوار الحضارات، ناهيك عن قضايا الصّراع الثقافي العربيّ الإسرائيليّ، ومشاكل الإنماء ، ونظام العولمة الّذي أصبح قضيّة بارزة في السّنوات الأخيرة.
ثالثاً: بين المقاطعة ومفهوم التّطبيع:
لقد تكوّنت لدى الرّأي العام الأميركيّ، ومنذ الحرب العالميّة الثّانية، مفاهيم واضحة ربطت السّلام باتّفاقيّات التّعاون والإعمار والتّعويض الماديّ ومشاريع التّقارب الاجتماعيّ والثّقافيّ بين الشّعوب المعنيّة. ولعلّ من المظاهر اللافتة في قدرة الرّأي العام على تقبّل هذه المفاهيم ما حصل إثر خسارة الولايات المتّحدة لحربها في فيتنام، فقد توقّعت وسائل الإعلام آنذاك أن تتّخذ واشنطن تدابير إنتقاميّة من فيتنام والدّول الّتي ساندتها. إلاّ أنّ التّغيير في رئاسة البيت الأبيض فتح صفحة مختلفة أوصلت التّعاون بعد ربع قرن إلى إنفتاح هو جزء من خطط إعادة رسم صورة أميركا في منطقة جنوب شرق آسيا.
إلى جانب هذا المفهوم الواضح للسّلام من المنظور الأميركيّ، فإنّ هناك مفهوماً آخر يتعلّق بمرحلة المراوحة بين الحرب والسّلام، وهي تكون عادّة وسط التّرتيبات لهدنة عسكريّة أو وسط حالة حصار عسكريّ أو اقتصاديّ هو دون الحرب ودون السّلام في آن معاً. هنا يختلف المفهوم إذْ تتوقّف كلّ أشكال التّعاون والمساعدات لأنّها في المفهوم الأميركيّ تُشكّل تراجعاً عن الضّغط الّذي قد يُؤدّي إلى الانتصار الأميركيّ الكامل.
وفي الوقت الّذي تواجه فيه الولايات المتّحدة العالم بصيغ المقاطعة لدول في مناطق عديدة في مرحلة المراوحة بين الحرب والسّلام، فتحثّ دول العالم على الانخراط فيها، نجد الرّأي العام الأميركيّ، وبدرجة أقل، الرّأي العام الأوروبيّ، يتفهّم هذا الموقف، ويتقبّل دوافعه، بتأثير من قوّة الخطاب الأميركيّ، وقدرة الإعلام الدّاخليّ على دعم السّياسة الأميركيّة والتّرويج لثوابتها. والمسألة لا تقف عند هذا الحدّ، فقد استطاعت الولايات المتّحدة الأميركيّة أن تفرض مفاهيمها على أُسس التّعاون الدّوليّ والإقليميّ، كما تمكّنت من ربط مشاريع التّنمية بطبيعة مواقف الدّول المعنيّة بها. وقد ظهر واضحاً من خلال مؤتمرات الإنماء على المستوى الدّوليّ والإقليميّ أنّ واشنطن فرضت ملامح وهويّات الدّول المستفيدة من خلال تجاوبها مع المواقف الأميركيّة والتزامها بمجموعة مبادئ تبدأ بتطبيق حقوق الإنسان، وتصل إلى مقاومة الإرهاب، وتنتهي أحياناً بضرورة مقاومة التّطرّف الدّينيّ أو القوميّ. وقد أدّت هذه السّياسة، ومن خلال الدّعم الإعلاميّ الدّوليّ الكبير إلى فرز الدّول بين مَنْ ينطبق عليه المقياس الأميركيّ فيدخل نعيم المساعدات، وتشمله خطط الإنماء، ومَنْ لا ينطبق عليه هذا المقياس فيظلّ خارجه إلى أن يُغيّر مواقفه لتنسجم مع الشّروط الأميركيّة.
في كلّ هذه السّياسات، وآخرها الموقف الاميركي من العراق، تمكّن الإعلام الغربيّ من إيجاد أرضيّة متفهّمة لها لدى الرّأي العام في ضوء ما تحمله الأحداث من تطوّرات مختلفة، ومحاور صراع في العديد من مناطق العالم. والملاحظ في كلّ ذلك، أنّ الرأي العام الّذي تُركّز عليه وسائل الإعلام الغربيّة والأميركيّة بصورة خاصّة، ينحصر بقيادات سياسيّة ذات تعبير علنيّ عن آرائها، وهو لا يصل إلى الجمهور العريض إلاّ إذا وجد الإعلام في ذلك ما يُساعد على استنهاضه لدعم المصالح الوطنية بمواجهة عمليّات لا يُمكن للرأي العام أن يتجاهلها. ومن الأمثلة على ذلك التجييش الرسمي والشعبي ضد العراق، وإنحسار النّقاش منذ فترة حول موقف "والت ديزني" من القدس كعاصمة لإسرائيل ، وحصره في الأوساط الرّسميّة، وقيادات الرّأي العام الأميركيّ ، بينما برز إنتشار الخوف وردّات الفعل الشّعبيّة في عمليّة تفجير مبنى مركز التّجارة العالميّة في نيويورك. وفي جميع هذه القضايا كان للإعلام الأميركيّ، والإعلام الصّهيونيّ المتغلغل في الوسائل الإعلاميّة الأميركيّة الدّور الرّئيسيّ في حصر الموضوع أو في توسيعه وانتشاره.
أمام هذا الواقع يرتبط الحديث عن دور الإعلام العربيّ في مواجهة الرّأي العام الغربيّ بخلفيّة الصّراع العربيّ الاسرائيلي من جهة ، وبفهم الرّأي العام الغربيّ للتّطوّرات في أزمة الشّرق الأوسط، والانتفاضة الفلسطينية، واتّفاقيّات السّلام، وما تلاها من أحداث في المنطقة.
والمشكلة أنّ قياس تأثير الإعلام العربيّ على الرّأي العام الغربيّ يصطدم بالأهداف المتعدّدة للإعلام العربيّ، والخلفيّات الّتي تنطلق منها معالجة القضايا المطروحة. فالخطاب العربيّ في موضوع المقاومة والانتفاضة ضد إسرائيل ليس واحداً، بل يكاد التّباين في المواقف الإعلاميّة يُحوّل هذا الإعلام إلى صيغة تعدّديّة فيها من التّنافر الشّيء الكثير، وفيها من الاختلاف في الأسلوب والمضمون ما يُحوّل إلتزامها بالقضايا القوميّة إلى حالة من الصّراع الدّاخليّ بينها، وإلى حالة من الإختلاف على تفاصيل تُحوّل القضيّة إلى مسارب ثانويّة تُضعف من قيمة هذا الإعلام العربيّ.
رابعاً: التّناقض الاعلامي العربيّ:
لا يُمكن فهم واقع الإعلام العربيّ المتوجّه إلى الوطن العربيّ وإلى الرّأي العام الغربيّ في موضوع الصراع العربي الاسرائيلي والمقاومة الفلسطينية وارهاب الدولة الاسرائيلية، إلاّ إذا تمّ تحديد أهداف هذا الإعلام، وتحديد الظّروف الّتي تُضعف مقوّماته في التّناقض الفاضح بمواقف الدّول العربيّة، ومواقف الهيئات الأهليّة والشّعبيّة في مسألة المقاومة والانتفاضة.
فمنذ معاهدة السّلام بين مصر وإسرائيل، وردّة الفعل العربيّة بمقاطعة مصر، ونقل مقرّ الجامعة العربيّة إلى تونس، وحتّى اليوم، بعد الاتّفاقات الفلسطينيّة والأردنيّة مع إسرائيل، تغيّر الموقف العربيّ، والخطاب العربيّ، والتّحرّك الشّعبيّ العربيّ في مسألة المواجهة مع العدو الاسرائيلي والمقاطعة ومقاومة التّطبيع. ففي الفترات الأولى بدأ صراع بين خطابيْن عربييْن يتوجّهان في الوسائل الإعلاميّة إلى الرّأي العام الغربيّ:
الخطاب الأوّل قاده دعاة الصّلح مع إسرائيل، وتطابق فيه إعلام دعاة الصّلح من العرب مع إعلام إسرائيليّ في نسج أُطر التّعاون، وضرورة إنهاء الحرب وكل اوجه المقاومة والانتقال الى تحديد مراحل التّطبيع، والدّعوة إلى مساندة مصر وإسرائيل في مسيرة السّلام.
أما الخطاب الثّاني فقد قاده الرّؤساء والملوك العرب في دعوة لتحصين المجتمعات العربيّة من مخاطر التّطبيع، وفرض الأمر الواقع، وفي محاولة لكسر طوق الإدارة الأميركيّة في تعميم النّموذج المصريّ - الإسرائيليّ في اتّفاقات صلح منفردة جديدة.
إستناداً إلى هذه التّطورات يُمكننا رصد مجموعة تيّارات تختلف في توجّهها الإعلاميّ في موضوع المقاومة والانتفاضة الفلسطينية وصيغ التطبيع التي تسعى اليها اسرائيل:
أ - تيّار يرفض السّلام مع إسرائيل، ويتمثّل بمجموعات عربية وإسلاميّة تنطلق من أنّ الصّراع هو صراع وجود، وأنّ التّعامل مع العدوّ الإسرائيليّ حرام.
ب - تيّار يُؤمن بالسّلام العادل والشّامل، وهو يرى في اتّفاقيّات السّلام الرّاهنة تراجعاً عن الحقوق العربيّة، ويعتبر أنّ التّطبيع مع إسرائيل هو تكريس لهذا التّراجع، ويتمثّل هذا التيّار بمجموعات من القوى والأحزاب القوميّة في الوطن العربيّ، مع مساندة من هيئات شعبيّة ومهنيّة عديدة.
جـ - تيّار يُؤمن بالسّلام، وانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربيّة وحتّى حدود الرّابع من حزيران 1967، والاعتراف بالحقوق العربيّة الكاملة. وهذا التيّار يرى في أيّ تطبيع الآن ما يُساعد إسرائيل على تجاهل تحقيق السّلام الشّامل من خلال حصولها على نتائج هذا السّلام قبل إنجازه. ويتمثّل هذا التيّار بلبنان وسوريا وعدد من الدّول العربيّة الّتي تتّفق معهما على الحدّ الأدنى من رفض التّطبيع.
د - تيّار يتخوّف من التّطبيع حتّى بعد السّلام الكامل، لأنّ طبيعة صيغ التّطبيع والتّعاون والإنماء في المنطقة تعتمد إسرائيل كقلب، وتعتبر كلّ الدّول الأطراف الّتي تحيط بهذا القلب. وينطبق ذلك على السّياسات الإنمائيّة والمائيّة والسّكّانيّة والتّسويقيّة. ويتمثّل هذا التيّار بمجموعات من المثقّفين والاقتصاديين والهيئات المهنيّة الّتي تحاول رفع مستوى المواجهة ضد اسرائيل.
والمشكلة الّتي تواجه اليوم المقاومة الفلسطينية بكلّ تيّاراتها، هي المشكلة ذاتها الّتي تواجه الدّول العربيّة في مواقفها من دول عربيّة خَطَت خطوات كبيرة باتّجاه إسرائيل دونما حاجة لاتّفاقيّات سلام. وقد أبرزت التّطوّرات الأخيرة تناقضات في هذه المواقف العربيّة لا يُمكن تبريرها أمام الرّأي العام الغربيّ الهذي تمّ شحنه بجرعات كبيرة من السّلام والموقف الغربيّ المتجاوب معه. وإذا كان لا بدّ من تحديد واضح لهذه التّناقضات التي تنعكس مع الاسف بالوسائل الاعلامية العربية فهي على سبيل المثال لا الحصر:
أ - باستطاعة جمهوريّة مصر العربيّة اليوم إستضافة قمّة إسرائيليّة - فلسطينيّة - أردنيّة بمشاركة أميركيّة، وباستطاعتها كذلك استضافة قمّة عربيّة مصغّرة تُناقض القمّة الأولى، وتضمّ دولاً عربيّة ترفض سلام الإذعان. وفي كلا الحالتيْن تتوجّه مصر إلى الجميع بخطاب واحد يدعو إلى السّلام ويستمهل إستكمال التّطبيع إذا تابعت إسرائيل نشر مستوطناتها، وهو خطاب قادر في الوقت نفسه على الدّعوة لمؤتمرات تعاون إقليميّ تُشارك فيها إسرائيل وتنتهي بخططٍ مشتركة هي أعمق من أيّ تطبيع. ومع ذلك فمصر اليوم مقبولة من الدّول العربيّة الّتي ترفض السّلام مع إسرائيل وكأنّه قبول بالأمر الواقع.
ب - باستطاعة الأردن القيام بالدّور المصريّ نفسه، وإبقاء علاقاته مفتوحة ومتطوّرة مع الدّول العربيّة الّتي لم تُوقّع اتّفاقات سلام مع إسرائيل. وفي الوقت الّذي نجد فيه الأردن يخوض حرب توزيع المياه مع إسرائيل مواجهاً مشاكل ما بعد السّلام باكراً، فإنّ هذا لم يمنع رئيساً سابقاً للحكومة الأردنيّة من التّصريح منذ فترة أنّ هناك عشرة مصانع للألبسة في الأردن برأسمال إسرائيليّ أردنيّ مشترك، وهي تعمل على تصدير بضائعها إلى العالم العربيّ، مع شهادات منشأ أردنيّة · كلّ هذا لم يمنع الأردنيين من النّظر إلى إسرائيل كعدوّ، رغم مرور سنوات على اتّفاقيّة السّلام معها. وقد جاء ذلك في استفتاء أجرته جامعة عمان عام 1997، وحصل هذا الموقف على تأييد ثمانين بالمئة من الأردنيين.
جـ - إستضافة دول عربيّة مثل المغرب وتونس وعُمان لمؤتمرات ولقاءات اقتصاديّة وإنمائيّة وثقافيّة ورياضيّة بمشاركة إسرائيليّة واسعة، فيكون الرّدّ مستنكراً من الهيئات الأهليّة والشّعبيّة في هذه الدّول، وينحصر الرّدّ العربيّ بمقاطعة بعض اللقاءات والتّورّط بالبعض الآخر أو التّحفّظ من خلال مستوى التّمثيل وعدد الحضور. ويختلط الأمر على الرّسميين في الدّول العربيّة فلا يعرف أحد أين يجب رسم الخطوط الواضحة وعدم السّقوط في فخّ اللقاءات التّطبيعيّة.
د - الاشتراك العربيّ بلقاءات دوليّة على مستويات مختلفة إلى جانب إسرائيل. ولا تجد الدّول العربيّة في هذه المشاركة الإسرائيليّة تطبيعاً، بل هي تتخوّف من أن تُؤدّي مقاطعتها لهذه اللقاءات إلى إطلاق يد إسرائيل في الحصول على توصيات لمصلحتها. وقد وقع رافضو التّطبيع في الدّول العربيّة في مواقف حرجة عديدة عندما اضطروا للقبول بالمشاركة الإسرائيليّة على أساس أنّ اللقاءات الدّوليّة مستثناة من مفهوم مقاومة التّطبيع.
هـ - قيام الهيئات المهنيّة والنّقابات والاتّحادات في الوطن العربيّ بإعلان مواقف مقاوِمة للتّطبيع. ولكنّ بعض هذه المواقف يتّسم بكلام لا يعكس الواقع. فجمعيّة رجال الأعمال المصريين مثلاً تحذف في تقاريرها ما يُشير إلى أيّ تعاون مع إسرائيل، إلاّ أنّ تقارير غرفة التّجارة الأميركيّة في القاهرة تُشير إلى تعاون أميركي - إسرائيلي - مصريّ ولقاءات عديدة بهذا الشّأن. والهيئات النّقابيّة الفلسطينيّة مثلاً قادرة على حضوره المؤتمرات العربيّة والمؤتمرات الإقليميّة بمشاركة إسرائيليّة بلا حرج منطلقة من قدرة العرب على تفهّم الحالة الفلسطينيّة وكأنّها ما تزال تحت الاحتلال رغم اتّفاق أوسلو ونهر واي.
و - في استعارة من كلام صحفيّ "أنّ الواقع العربيّ لا يستطيع الآن التّفريق بين التّطبيع الّذي يُضعف موقف المفاوض العربيّ، والتّطبيع الّذي قد يُكسب لنا أنصاراً داخل صفوف العدوّ". وهناك أيضاً من لا يستطيع فهم مقاومة التّطبيع الثّقافي لأنّ لا تأثير له، بينما يجب التّركيز على رفض التّطبيع الاقتصادي، فكلّ الخطر فيه، لأنّه يُعطي إسرائيل مزايا دون التّخلّي عن الأرض المحتلّة. ويصل الأمر إلى حدّ التمييز بين التّطبيع والتّفاوض، فالاستثمارات العربيّة في إسرائيل، أو بمشاريع مشتركة مع إسرائيليين، هو تطبيع · ولكنّ مقابلة رجال أعمال عرب لمسؤول إسرائيلي لا تُعتبر تطبيعاً إذا أبلغوه أنّ سياسته التّوطينيّة هي عقبة في وجه السّلام الشّامل. وما ينطبق على الأعمال ينطبق كما يبدو على الثّقافة. فاللقاءات بين مثقّفين وأدباء وإعلاميين وفنّانين عرب وإسرائيليين يكون تطبيعاً إذا كان الهدف ترفيهياً. ولكن يُمكن اعتباره تفاوضاً لكسب أنصار داخل صفوف العدوّ إذا كانت المواضيع ذات طابع نقاش فكريّ.
هذه التّناقضات تحوّلت كلّها إلى ظروف يعيشها الاعلام العربي وانتقلت عملياً إلى ضغوط على الإعلام العربيّ نفسه، وهو صورة متطابقة مع هذا الاختلاف الواسع في الخطاب العربيّ وفي التّبريرات الإعلاميّة لهذه التّناقضات. ألا نفهم الآن من هو وراء مواقف فضائيات ووسائل اعلامية هي نسخة طبق الاصل عن أنظمة تعلن الخطاب نفسه وتخوض من مواقعها العربية معارك ضد العرب أنفسهم. ألا ندرك ببساطة ان الاعلام تحوّل في هذا الاطار الى منّفذ لسياسات يرسمها غيره، ويجد نفسه يتبنّاها مستفيداً من رصيد اعلامي تحقق له واعطاه صدقيّة مؤقتة ما لبثت ان انكشفت للرأي العام العربي بعد هذه الحملات الدعائية الملتبسة.
خامساً : مستقبل التّحرّك الإعلاميّ العربي بمواجهة العدو
يعترف المسؤولون عن اجهزة اعلام عربيّة أنّ الاختلاف في التّوجّه الإعلاميّ العربيّ في الصراع العربي الاسرائيلي يُؤدّي إلى خسارة فرص يُمكن الإفادة منها في دفع قيادات الرّأي العام الأميركيّ، وأوساط صنع القرار الدولي إلى مواقف أكثر إعتدالاً ممّا هي عليه اليوم. ويعترف هؤلاء أنّ هناك ضرورة لنظرة واقعيّة، بل وبراغماتيّة من الجانب العربيّ لمسألة المقاومة والانتفاضة بحيث يُمكن اختيار نقاط الضّعف والدّخول عبرها إلى تحقيق تغيير تدريجي لدى الرّأي العام الغربيّ بصورة عامّة من المواقف الاسرائيلية الرافضة تطبيق قرارات الامم المتحدة ... وحتى الاتفاقات المعقودة مع القيادة الفلسطينية.
ومن الملاحظ أنّ هذا الكلام يبرز في مقالات نقديّة ينشرها الإعلاميّون العرب في نشراتهم الموجّهة إلى الرّأي العام الأميركيّ، وهذا الكلام على ضرورته بدأ يتحوّل نقطة ضعف تُشير إلى اختلال في المواقف وإلى تباين بين أصحاب القضيّة الواحدة ممّا أدّى أحياناً إلى استثارة طرف عربيّ على آخر، وممّا أدّى إلى معارك إعلاميّة جانبيّة كثر الحديث عنها في نشرات الهيئات والمؤسّسات العربيّة ولاسيما تلك التي تعمل في الولايات المتّحدة الأميركيّة.
وأمام الواقع العربيّ وواقع الإعلام العربيّ الموجّه إلى الرّأي العام الغربيّ في موضوع الانتفاضة الفلسطينية البطلة والمواجهة الرافضة للامر الواقع الاسرائيلي، وأمام ضغط الحاجة إلى الوقوف في وجه اللاهثين وراء السّلام بأيّ ثمن، لا بدّ من تحقيق مجموعة شروط لتجاوز هذه المشاكل وصياغة إعلام عربيّ قادر على إحداث تغيير إيجابي لدى الرّأي العام الغربيّ، وفي العالم بصورة عامة.
أ - عقد لقاءات بين القوى الاعلامية العربية لصياغة موقف مشترك يتجاوز الحدّ الأدنى ويكون قادراً على التّحرّك بمرونة بمواجهة الأحداث والتّطوّرات. ويقتضي ذلك صياغة برامج للتّعاون الوثيق بين هذه الأطراف وتأمين وسائل لتبادل المعلومات واختيار التّوقيت الضّروري لإعلان المواقف وإطلاق الحملات الإعلاميّة على المستوى العربيّ من جهة، وعلى المستوى الدّوليّ، وباتّجاه الرّأي العام الغربيّ بصورة خاصّة. ولعلّ المدخل الى ذلك الالتزام بمقررات القمة العربية التي انعقدت في بيروت في ربيع 2002 والتي رفضت الاستمرار في سياسات التخاذل العربي على حساب المصالح والقضايا العربية المحقّة.
وقد يكون من الأفضل أن تبدأ هذه اللقاءات بين الأطراف ذات التّشابه التّخصّصيّ في الهيئات والنّقابات والاتّحادات على أن تتوسّع إلى مؤتمرات على المستوى العربيّ الشّامل انطلاقاً من أرضيّة مشتركة وفهم محدّد للمقاومة والانتفاضة مع التنبه الشديد للظروف التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت نير الاحتلال الاسرائيلي.
ب - تبدو الهيئات الاعلامية وقياداتها النّقابيّة بصورة خاصة متقدّمة في مواقفها على الحكومات. ولعلّ هذا ما يُحتّم إيجاد وسائل لصياغة خطاب مشترك بين القيادات العربية وبين هذه الهيئات، وصياغة ثوابت لمفهوم السّلام السّياسي الموعود. مع تحديد سقف عربي واضح في ربط السّلام بالتّخلي عن الأراضي المحتلّة واقامة الدولة الفلسطينية وإعادة الحقوق العربيّة كاملة وتحديد مبدأ المساواة في أيّ إنماء إقليميّ أو دوليّ.
إنّ هذا التّوجه سيؤدّي عمليّاً إلى تضييق رقعة المرونة الّتي أتقنها بعض الاعلام العربي في تهرّبه من الالتزام بمسألة المواجهة مع اسرائيل ، وفي محاولته استباق أي سلام من خلال اضعاف الموقف العربي المقاوم والرافض لكل انواع التّطبيع قبل السّلام وبعده.
ج - ضرورة صياغة جديدة للفكر النّهضويّ العربيّ يكون هو الخلفيّة الفكريّة والوطنيّة حرصاً على إيجاد تماسك عربيّ في الفكر والهويّة والقيم والثّوابت الإنسانيّة فلا تتمكّن إسرائيل أو الإعلام الغربيّ من شقّ الصّفوف العربيّة واعتماد سياسة التّفريق وصولاً إلى جذب القوى العربيّة بشعارات اقتصاديّة أو ثقافيّة أو ضمن مقولات تبدأ بالديمقراطيّة وحقوق الإنسان ومقاومة الإرهاب وتنتهي عند ضرورة القضاء الانتفاضة الفلسطينية وعلى الحالة القوميّة الّتي تُشكّل الضّمانة الوحيدة لهذا التّماسك العربيّ.
إنّ هذه الشّروط تبدو ضروريّة اليوم إذا أردنا تحصين الإعلام العربيّ في مسألة تعزيز الانتفاضة ومقاومة المدّ المهرول نحو ما بعد السّلام، واذا اردنا إعداداً مسبقاً يتجاوز التّناقضات الاعلامية الراهنة نحو صياغة اعلامية جديدة تنسج في المستقبل ضميراً قاسياً لدى كلّ مواطن في أمّتنا العربيّة، ولعلّ هذا هو ما نطمح إليه في تجاوز سقوط بعض الاعلام العربي، والانطلاق إلى فرض إرادة عربيّة سياسية واعلامية قادرة على صناعة المستقبل.