* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السابع: "الذات والآخر في الاعلام المعاصر")
(الجلسة الثانية)
الإهداء : إلى الإمام موسى الصدر الذي
قال : " إن إسرائيل غرست في قلب هذه المنطقة
في عملية استعمارية كبرى لم يشهد التاريخ لها مثيلاً "
أولاً : بلاغة نص الدعوة ومخطط المطالعات :
أسرتني بلاغة نص الدعوة، ووقفت عنده. والتبس علي الفهم الدقيق لعنوان البحث الذي سئلت الحديث فيه.
فأما النص فيسرني أن أستعيد بلاغته في سطوره الأولى: "على امتداد مساحة الحقد الموغل في شرايين الحاضر والقابع فوق شرفات الآتي، يصوب الحرف القاتل نحو صدر الفرح النادر ، حيث تتسابق قوافل الوجع الطالع من عمق معاناة الأمة، ويصبح الحرف الحامل سر الوحي سهماً ينحر صدر الفجر ، حين لا تعطى القوس لباريها".
ثم إنني وافقت على العنوان شفاهةً، فلما قرأته مكتوباً التبس علي الفهم الدقيق له. نص العنوان: "الإعلام والقضية الفلسطينية / الانتفاضة – قراءة عربية". يمكن للعنوان أن يفهم أنه قراءة عربية لكل إعلام العالم في علاقته بالقضية الفلسطينية / الانتفاضة. ويمكن له أن يفهم بأنه قراءة في الإعلام العربي في علاقته بالقضية الفلسطينية / الانتفاضة. رجح لدى الفهم الثاني أن ثمة قراءات أخرى إسرائيلية وإسلامية وغربية.
ثم إن العلم بالإعلام وإشكالاته راسخ ، له تقاليد لا أحسنها بنفس القدر الذي يحسنها به المختصون بها ولست منهم. إلا أنني من سئل الحديث عن الإعلام، ولا أود أن أعترف بأن من سألني الحديث قد لا يكون عالماً بحدودي. إذن أنطلق من تقدير حسن العلم لدى من سألني، لأتعالم، محتفظاً، في استعمال تعبير التعالم ، بهيبة علم الإعلام. وهكذا أسميت هذه الصفحات "مطالعاتٍ شخصية" ولم أسمها بحثاً أو ما أشبه مما يلزمني بالعلم الدقيق.
ولي، في كل حال، خبرة مستمرة تقترب من نصف قرن في الممارسة الإعلامية. إذ أنني حزت على بطاقة صحفي صيف عام 1954، ونشرت أول مقالٍ في كانون ثاني 1956، وكان عن قضية فلسطين.
ومخطط ما أقدمه اليوم بسيط تقليدي. في جزء تالٍ أتحدث عن الإعلام العربي في تقسيماته وإشكالاته، لأنتقل منه إلى بعض انطباعاتٍ عن كيفية تعامل الإعلام العربي مع قضايا العالم. بعد ذلك أبدأ في صلب ما تبيّنته "مربط الفرس" في العنوان وهو كيفية تعامل الإعلام العربي مع قضية فلسطين وانتفاضة الأقصى. أما ختام حديثي فثلاث توصيات بشأن كيفية تصويب دور الإعلام العربي وتصعيد أثره في قضية فلسطين وانتفاضة الأقصى، وأخبركم سلفاً بما سأصل إليه. سأسحب البساط إلى ناحيتي لأوصي بأن يهتم الإعلام العربي بقضية فلسطين من حيث أنها حالة متقدمة متأخرة من حالات الاستعمار الاستيطاني الذي تنبثق العنصرية منه بالضرورة المنطقية والواقعية.
ثانياً : الإعلام العربي تقسيماته وإشكالاته :
هل يمكن الحديث عن إعلام عربي؟ نعم ولا. نعم بشكل تبسيطي وعام، كما يقال إعلام غربي وإعلام صهيوني. ولا، لأن الإعلام العربي (كغيره) متعدد بحسب تقسيمات عدة. وأقترح أن نبدأ بتقسيمات الإعلام العربي ثم أتحدث عن إشكالات كل واحدٍ من هذه التقسيمات.
التقسيم الأول هو المختص بتعدد الدول: بمقتضى هذا التقسيم لدينا إعلام لكل دولة، وعدد الدول وأشباهها يزيد عن عشرين.
والتقسيم الثاني هو المختص بالسلطة الكامنة وراء وسائل الإعلام: أهم تقسيم هنا هو الإعلام الذي تسيطر عليه الدولة، والإعلام الذي يسيطر عليه الرأسمال الخاص. ومن المناسب أن نشير هنا إلى أن كل الإعلام، رغم هذا التقسيم، يخضع بالنهاية لسلطة الدولة. وخضوع الإعلام لسلطة الدولة ظاهرة ينبغي أن نتقرى آثارها في كل إعلام دول العالم. وبقدر ما أعلم، ليس ثمة إعلام في العالم لا تسيطر عليه دولة المكان في التحليل الأخير. وضمن إطار التقسيم بمعيار السلطة ثمة الإعلام الحزبي. والإعلام الحزبي بدوره ينقسم إلى أعلام حزبي والحزب حاكم ، وإلى إعلام حزبي والحزب معارض.
والتقسيم الثالث نوعي : فهناك منه المكتوب والمسموع والمرئي. ثم هناك الإعلامات الجديدة كالانترنت وما أشبه.
والتقسيم الرابع يعتمد معيار العمومية : والإعلام العام يغطي كل نواحي الحياة. أما الإعلام المتخصص فيغطي ناحية واحدة من نواحي الحياة كالفن أو الأدب أو المهن (كالإعلام الطبي وإلى ما هنالك من مهن). ولعل أهم إعلام متخصص ، فيما يتعلق بمنطقتنا خاصة، الإعلام الديني.
وثمة تقسيم ممكن يعتمد معيار توجه التغطية : وهكذا يصح الكلام عن الإعلام السوري الدولي أي الموجه للخارج، والإعلام السوري العربي أي الموجه إلى العرب، والإعلام السوري الداخلي ، أي الموجه إلى السوريين . وبالطبع ثمة تداخلات هنا بين العالمي والقومي والداخلي. وكثيراً ما نشهد خبرا سورياً يُقصَد به الداخل، يصبح خبرا عالمياً فيما إذا رأت جهة أجنبية نافذة أن من مصلحتها جعل الخبر الداخلي عالمياً.
وثمة تقسيم بمعيار لغة الإعلام : ولدينا في المنطقة العربية إعلام منطلق من المنطقة بلغات أجنبية، على هيئة صحف وإذاعات وبثٍ تلفزيوني فضائي. ثم لدينا وسائل إعلام تصدر في المنطقة العربية ولا تتوجه إلى الخارج لكنها تستعمل لغات محلية كالكردية أو الأرمنية أو الأرمازيغية ....إلخ.
ولدينا، بعد، تقسيم بمعيار موطن وسائل الإعلام : فثمة إعلام عربي مهاجر أو مغترب، وأقوى جريدتين في الوطن العربي إنما تقيم مكاتبهما الأولى في لندن وهما الشرق الأوسط والحياة.
ولن يفوتنا أن نشير إلى تقسيم آخر بمعيار عروبة أو عدم عروبة السلطة المالكة وسائل الإعلام. ويكتسب هذا التقسيم أهمية استثنائية في المنطقة العربية لأنني ألاحظ أن أقوى إذاعة باللغة العربية، مسموعة في كل البلاد العربية، قادرة على تشكيل ثقافة سياسية وعامة موحدة، هي إذاعة لندن (الـBBC) وهي إذاعة واكبت التمثيل الدبلوماسي البريطاني في سورية. ونعلم طبعاً أن أمريكا طلعت علينا مؤخراً بإذاعة "سوا". كما نعلم بأن عدداً من الدوريات الأمريكية تصدر الآن طبعات عربية . ونعلم فوق ذلك أن الجريدة الأمريكية الأولى في نفوذها العالمي وهي الـ I H T أصبحت منذ مدة تصل إلى دمشق في ذات يوم صدورها في وقتٍ لا تصل فيه الجريدة الأردنية إلى دمشق إلا في اليوم التالي لصدورها. وفي إطار هذا التقسيم لا ينبغي أن نغفل الإعلام الإسرائيلي ووسائل إعلام أخرى تفعل في المنطقة وتبدو إسرائيلية الهوى.
تلك تقسيمات تستحق أن تؤخذ بكل جدية عند الحديث عن الإعلام العربي رغم أنها لا تستوعب كل الحقل. ولا أعرف يقيناً إذا كانت لدينا مراكز بحوث إعلامية تتابع وسائلنا الإعلامية ضمن الأطر السابقة أو ضمن أطر متشابهة.
ونأتي إلى حديث الإشكالات :
بمقتضى التقسيم الأول نلاحظ أن الإعلام العربي قطري أساساً . وسائل الإعلام في كل دولة عربية تغطي أخبار تلك الدولة قبل غيرها.
وبمقتضى التقسيم الثاني (السلطة) نلاحظ أن وسائل الإعلام الرسمية – وهي ظاهرة واسعة الانتشار في كل الدول العربية – ووسائل الإعلام التي تتمتع فيها السلطة يرجحان قيادي، إنما "تبدع" في تغطية أخبار الحكومة. ولأن معظم الدول العربية يسيطر على مقدراتها شخصٌ واحد بصفة ملك أو رئيس) فإننا نلاحظ أن تغطية أخبار الشخص الأول ومن معه إنما تكتسح مساحات واسعة من وسائل الإعلام.
وفي ملاحظة التقسيم الثالث (النوعي) نشهد ازدهاراً متصاعداً لقنوات البث التلفزيونية الفضائية على حساب الإعلام المكتوب خاصة.
ثم إن التقسيم الرابع (العمومية ) يترك مجالاً واسعاً للتأمل. الإعلام العام هو السائد. ويتلوه في العمومية، كما ألاحظ، الإعلام الديني الذي تخصص له مساحات تتسع باستمرار في وسائل الإعلام العامة بأنواعها. ولعلي أفتقد شخصياً الإعلام المتخصص الموجه إلى صانع القرار العام والرأي العام. تقارير متخصصة كالتي تصدرها الايكونوميست مثلاً غائبة عن معظم وسائل إعلامنا. ثم إنه ليس لدينا مجلة كالشؤون الأجنبية . For. Affairs أو السياسية الخارجيةFor. policy ذات الأثر في توحيد الرؤية السياسية والاستراتيجية. ولم تنجح الهيئات المهنية العربية – على حد ما أعلم – في أن توحد أصحاب المهنة الواحدة ضمن ثقافة مهنية واحدة . وأبلغ شاهد لي في ذلك هو الجمعية العربية للعلوم السياسية التي أطلقت فكرتها عام 1973 ووضعتها في مسار تنفيذي عام 1977، وهي الآن، وبعد ربع قرن من وضعها في مسار تنفيذي، تبدو وكأنها لا تسير. والحديث هنا ذو شجون، وبالإمكان عودة من يشاء إلى هموم عبّرتُ عنها في كتابٍ عنوانه نحو علم عربي للسياسة (دمشق وبيروت، مؤسسة المنارة، ط/2/، 1993).
وألاحظ بمقتضى التقسيم الخامس (توجه التغطية) أن معظم وسائل الإعلام العربية موجهة إلى الداخل القطري . ويبدو لي أن اعتماد وسائل الإعلام الأجنبية على وسائل الإعلام العربية كمصدر للمعلومات إنما هو اعتماد ضعيف جداً . وهنا أحب أن أهنئ تلفزيون الجزيرة (رغم تحفظي على بعض توجهاته) لأنه في أحداث أفغانستان وفي تغطية شبكة القاعدة حاز قصب السبق وفرض نفسه عالمياً.
أما الإعلام العربي ، بمقتضى التقسيم السادس (أي اللغة) فأثره محدود جداً في اللغات الأجنبية . الإعلام العربي بالإنكليزية والفرنسية محلي بكل معنى الكلمة. من المستحيل أن تجد جريدة السيريا تايمز مثلاً في بيروت ، ناهيك عن وجودها في لندن. ولعل الجريدة الوحيدة غير المحلية في اللغة الإنكليزية التي تصدرها هيئة عربية هي الديلي ستار التي تظهر في بيروت ، وتصل إلى عدة عواصم عربية ، بل، وبفضل اتفاقها مع I H T، أصبحت تصل إلى عواصم غربية عديدة (كما أظن). أما قنوات البث التلفزيوني الفضائي باللغات الأجنبية، ولاسيما بالإنكليزية، فما تزال حلماً قد يكون قريب المنال (كما نسمع) أو بعيده (كما لا أحب أن أتوقع).
أما التقسيم بمعيار موطن وسائل الإعلام، وهو التقسيم السابع، فيثير إشكالية خطيرة. السبب المعلن الأول للإعلام العربي المهاجر أو المغترب هو توفر الحرية في المهجر أو المغترب. والسبب المعلن الثاني هو قدره هذا الإعلام على الوصول إلى كل البلاد العربية. تنبثق الإشكالية الخطيرة من الانطباع الذي يتولد لدى المتلقي بأن الوطن العربي، إنما هو وطن من الدرجة الثانية بالنسبة لإمكان الانتشار الإعلامي. ولن أفصل الآن في هذه الإشكالية الخطيرة.
وآتي أخيراً إلى بعض إشكاليات التقسيم الثامن وهو الخاص بعروبة أو عدم عروبة السلطة المالكة لوسائل الإعلام: الإشكالية الأولى تختص بمدى عروبة السلطة المالكة لبعض وسائل الإعلام العربية. في هذا المجال تثار مثلاً مسألة وجود أو عدم وجود إسهام مادي إسرائيلي في قناة الجزيرة. الإشكالية الثانية تختص بمدى مناعة وسائل الإعلام العربي أمام التمويل الأجنبي. وهذا التمويل الأجنبي (والأمريكي منه بوجه خاص) قائم حقاً، وقادم أيضاً، معلن قدومه، وعلى نحوٍ صارخٍ. والإشكالية الثالثة المنبثقة عن الإشكاليتين السابقتين تتلخص في أننا قد نكون إعلامياً فريسة سهلة لقوى غير عربية تغزونا لتغير ثوابتنا ضمن تخطيط محكم، والله أعلم.
بماذا نختتم هذه الجزئية من البحث؟ نختتم بأن الإشكاليات كثيرة وكبيرة وخطيرة، وأن هذه الإشكاليات ينبغي أن تكون موضع بحث علمي جداً، مدقق جداً. وأعترف أنني لست فارساً على جواده في مثل هذا البحث. أكتفي بقرع الجرس.
ثالثاً: الإعلام العربي وقضايا العالم: انطباعات عامة:
ثمة عدة انطباعات يمكن أن تدرج ضمن الكيفية التي يتعامل بها الإعلام العربي مع قضايا العالم. والانطباعات هذه شخصية قد لا يمكن التمسك بها.
الانطباع الأول هو أن وسائل الإعلام العربي تابعة في معظم توجهاتها لوسائل الإعلام الدولي. نعلم أن وكالات الأنباء العالمية ، أي الغربية ، تضخ معظم الأخبار إلى كل وسائل الإعلام في كل أنحاء العالم . ونعلم أن المحاولات لإنشاء وكالة أنباء عربية ما تزال تحبو، وأن وكالات الأنباء القطرية العربية محدودة الأثر في الساحة العربية. وفي الحقيقة يمكن لمطالع جريدتي العالم الأوليين وهما الـI.H.T و الموند أن يرى آثار هاتين الجريدتين في تحليلات كبار المفكرين والإعلاميين العرب بعد فاصل زمني (Time lag) يقصر عادة في مصر ولبنان، ويطول في سورية (مثلاً).
والانطباع الثاني والمنسجم مع الانطباع الأول هو أن ضعف وسائل الإعلام العربي ناجم عن أمور كثيرة أحد أهمها تواضع تمويل هذه الوسائل. قليلة هي وسائل الإعلام العربي التي تستطيع أن تجد نقسها ، من خلال مندوبيها ، في موقع الحدث ، ولعل الجزيرة أهم استثناء. وأذكر أنني قرأت مؤخراً للأستاذ جهاد الخازن صاحب الزاوية اليومية الشهيرة في الحياة كلاماً في هذه النقطة أشعرني بحزن عميق.
والانطباع الثالث هو أن إعلامنا العربي له أثر تكبير الغير وتصغير الذات: وذلك انطباع مخيف، وأرجو أن يبرهن بحث جادٌ ما على عدم صحته. نشرت جريدة الموند بعض وقائع وسائل الصراع العربي الصهيوني في نصف القرن الذي الماضي، وترجمته بعض وسائل الإعلام العربي. اكتشفت في الأصل الفرنسي بعض الأخطاء. حاولت التصحيح في وسيلة إعلام عربي فلم استطع. رأي الموند مقدس حتى لو كان ثابت الخطأ. يتعلق الموضوع بالقرار /3379/. أثبتت الجريدة الفرنسية صدور القرار في 10/11/1975 ولكنها لم تثبت إلغاءه في 16/12/1991. لو كتبت إلى الموند لكانت استجابت للتصحيح. إلا أنني كتبت إلى وسيلة إعلام عربي هي بمثابة تلميذ لا يجرؤ أن يخالف أستاذه حتى لو كان الأستاذ على خطأ، وحتى لو كان المصحح أستاذ علوم سياسة منذ ما يقرب من أربعين عاماً . والأمثلة كثيرة.
وينبثق عن الانطباعات السابقة انطباع رابع هو أن الإعلام العربي يكاد يبدو ، بل هو يبدو فعلاً ، وكأنه يريد أن ينشر فكرة عجز العرب عن القيام بأي فعل إيجابي . وقد يكون أن بعض وسائل الإعلام العربي تبدو كذلك بحسن نية، إلا أن البعض الآخر يوحي بأنه يفعل ذلك بحسن نية أقل.
ويتولد مما سبق انطباع خامس مؤاده أن الإعلام العربي نادراً ما يحتفي بأية مبادرة عربية ذاتية. المبادر أو المبدع العربي لا يمكن أن يفرض مبادرته أو إبداعه على الإعلام العربي إلا إذا أخذ شهادة بمبادرته أو إبداعه من المرجع الغربي. ولدي أمثلة كثيرة على مثل هذا الوضع (بلفور، الاستعمار الاستيطاني، حكاية هنتنغتون، رمضان والبيت الأبيض).
ثم لا بد من إثبات انطباع سادس. كل ما سبق من وصف سلبي للإعلام العربي لا ينفي أن ثمة أصواتاً تسمع عبر الإعلام العربي، وربما أن عددها يزداد، تعبر عن عكس ما أوردنا من انطباعات. وأحب هنا أن أسجل إعجابي بأسلوب الأستاذ فهمي هويدي الذي يخلص عادة إلى نتائج مشجعة في ختام مقالاته دون أن يغيب الحقائق (وكثير منها يصب في مجرى التيئيس). ويصل إلى نتائج مشجعة دون كيشوتيون من إعلاميي التشجيع إلا أن مقالاتهم تقف أمامك برهاناً على جهل فاضح .تزيد مقالاتهم يأسك من حيث أرادت أن تشد من عزمك.
رابعاً : الإعلام العربي وأهم قضايا العالم : قضية فلسطين وانتفاضة الأقصى:
ليس من الخطأ تكييف قضية فلسطين بأنها أهم القضايا المعاصرة في العالم بأكمله. إنها قضية حقيقية تتنافس على المرتبة الأولى مع مسألة فيها قدر كبير من الاصطناع هي مسألة حرب الرئيس الأمريكي على الإرهاب. قضية فلسطين هي الأولى لأن وعد بلفور أتى مخالفاً لتقاليد عصر حق الشعوب في تقرير مصيرها. وهكذا حرم الوعد شعباً من حقه في تقرير مصيره في وقت كان فيه العالم يسير باتجاه منح كل شعب حقه في تقرير مصيره وفي نيل استقلاله وسيادته، كما عبر عن ذلك لاحقاً قرار الأمم المتحدة الشهيرة / 1514 / لعام 1960، وكما نصت على ذلك لاحقاً المادة الأولى في العهدين الملزمين: عهد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وعهد الحقوق المدنية والسياسية اللذين صدرا عام 1966. قضية فلسطين هي الأولى بين قضايا العالم لأنها تخض كل مشتغل بقضايا حقوق الإنسان في العالم، وقد عبرت عن ذلك بشكلٍ واضح آلاف المنظمات غير الحكومية التي اجتمعت في دربان (جنوب أفريقيا، آب-أيلول 2001) وقررت أن الصهيونية عنصرية وأن من الواجب إحياء القرار /3379/. وهي بذلك اضطرت إسرائيل وأمريكا إلى الانسحاب من المؤتمر.
كيف يعالج الإعلام العربي قضية فلسطين وانتفاضة الأقصى ؟ من أجل جواب حاسم لا بد من دراسات أدق مما سأقدمه الآن من انطباعات . ولعل أهم ما يحب أن تتركز عليه الدراسات (لاحقاً) وانطباعاتي (الآن) النقاط التسع التالية أدرجها بحسب ما أرى من تسلسل أهميتها. ولا تستوعب هذه النقاط كل الموضوع، بل هي نماذج خطرت في الذهن :
1ً- في هشاشة الجذر السياسي العربي للإعلام العربي: بإمكاننا إلقاء كل الآثام على الإعلام العربي. إلا أن كثيراً من هذه الآثام منبثقة عن طبيعة "الانفلاش" في الجذر السياسي العربي للإعلام وهشاشته. حين نفتقد التخطيط السياسي العربي الموحد لا بد أن نفتقد معه جزأً كبيراً من جدوى الإعلام العربي.
2ً- في أصل القضية : في تقديري أن أصل القضية محاولة إنشاء كيان استعماري استيطاني عنصري في طبيعته، في وقتٍ لم يعد العالم فيه مقتنعاً بإعطاء شرعية لتجربة كالتي يحاولها ذلك الكيان . يزداد التقبل العالمي لوجهة النظر هذه ، ولعل أهم شهادة في هذا الإطار ما تقوله الحكومة الإسرائيلية وتقوله معها المنظمات الصهيونية من أن تنفيذ المادة /13/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الخاصة بحق كل فرد في العودة إلى وطنه وتنفيذ القرار / 194/ المؤكد عليه أكثر من أي قرار آخر عرفه تاريخ الأمم المتحدة وتنفيذ قرارات مؤتمر دربن الحكومي، إن تنفيذ كل تلك الالتزامات الدولية الحاسمة في القانون الدولي إنما يعني القضاء على الكيان الإسرائيلي. الإعلام العربي متردد إزاء هذا التكييف لأصل القضية في وقتٍ نرى فيه بعض مفكري اليهود يسيرون باتجاه تقبل هذا التكييف، كما في كتابات تشومسكي وبعض كتابات هنري سيغمان عضو مجلس الشؤون الخارجية الأمريكي، وأفي بيمدور نائب رئيس جامعة تل أبيب. يقود هذا التكييف إلى رسم معالم التماثل البنيوي بين الصهيونية والابارتايد، ويوحي بأن الحل الأمثل لقضية فلسطين يقوم على أساس تطبيق الحل الذي تم التوصل إليه في جنوب أفريقيا، رغم غموضٍ يحيط بكيفية التوصل إلى ذلك الحل . وكما قلت يبدو الإعلام العربي متردداً في تبني هذا التكييف رغم أنني ألاحظ أن هذا التردد إلى تناقص.
3ً- في البعد الروحي للصراع على فلسطين : الصهيونية مشروع تغلب في رأيي طبيعته الاستعمارية على طبيعته الدينية. إلا أن الدين اليهودي كان حاضراً في أصل تكوين المشروع، أما كذريعة ولاسيما لدى أقوياء اليهود والاستعماريين، أو كعامل تكويني ولاسيما لدى ضعفاء اليهود. ومنذ عام 1977 أخذ التجذر الديني يجتاح إسرائيل ودلالته صعود اليمين المستمر، ذلك الصعود الذي بلغ قمة جديدة منذ تولي شارون السلطة. ما هو البعد الروحي (أي الديني) في الصراع؟ لدى عديدٍ من اليهود الإسرائيليين يأخذ الصراع هيئة عنصرية دينية مقيتة عالمياً، رغم أنها ليست مدانة إلى الحد الذي يتوافق مع عنصريتها الدينية المقيتة. تمر في أحيان كثيرة، التفوهات الصهيونية المهينة للفلسطينيين وللعرب وللمسلمين دون أن تقترن برصد عربي وعالمي لها وبإدانات عالمية تتناسب ووقاحتها وانتهاكها لمبادئ حقوق الإنسان. أما لدى العرب فثمة ميل لاستعمال لغة دينية (إسلامية – مسيحية) تقوم على أساس العنصرية الدينية رغم أنها ، في مبرر وجودها، رد على لغة العديد من اليهود الإسرائيليين. لن أدخل في تفاصيل المواقف اللاهوتية والسياسية الكامنة وراء هذا الميل العربي، إلا أن بعض الإعلام العربي يتعامل مع البعد الروحي على نحوٍ قد يفيد (وقد لا يفيد) روح المقاومة، وعلى نحوٍ يؤذي بالتأكيد صورة العرب عالمياً، ويشوه طبيعة الصراع العربي – الصهيوني. في أيامنا هذه يتصاعد الحديث عن بروتوكولات حكماء صهيون، وقد يصاب بالأذى المعنوي، في المحيط العربي، من يقول أنها مزيفة، كما يقول بذلك معظم الغرب الآن وهي إنما من الغرب أتتنا. وفي تقديري أنه يحسن بالإعلام العربي أن ينظر بجدية في مدى فائدة الاعتماد على الأدبيات التي تعرف في الغرب بالأدبيات المناهضة للسامية (وأقصد: اليهودية. وكل العرب ساميون).
وأعرج هنا على مسألة أخرى تندرج تحت إطار البعد الروحي، هي مسألة البحث عن يهودية مستوطنين مرتزقة. حدد شارون مؤخراً مهمةً لنفسه فيما إذا فاز بالانتخابات المقبلة . هذه المهمة هي استقدام مليون مستوطن يهودي قبل الدخول في أي بحث جدي بشأن الدولة الفلسطينية. ومن المعلوم أن نشطاء الصهيونية يستقدمون هذه الأيام بعض الهنود وغيرهم من الضعفاء اقتصادياً، بعد إقناعهم أو اقتناعهم بأنهم من سلالة الأسباط الضائعة، كما حصل مع الفلاشاوان باصطناع أكبر. وقد صدرت عدة كتب تحاول إثبات أن مجموعة من البشر في ذاك القطر أو غيره، في تلك القارة أو غيرها، إنما هي من سلالة يهودية. يرى التكييف الصهيوني أن هذه المجموعات من البشر يهودية لها حق عقاري شرعي أعطاه لها الله في استيطان فلسطين. أما التكييف الحقوقي الأوضح فيثبت أن هذه المجموعات القادمة للاستيطان إنما هي مرتزقة تبحث عن مكافآت مالية مقابل قيامها بأعمال عسكرية لصالح إسرائيل. أجد في الإعلام الغربي اهتماماً بهذه الظاهرة أوسع من اهتمام الإعلام العربي بها.
4ً- في البعد الكلي للصراع على فلسطين : دون أن نكون مدافعين عن نظرية المؤامرة أو ضحايا لها ، يمكن القول بكل جدية أن سياسات الغرب في منطقتنا من العالم توافقت منذ ما يزيد عن قرنين على ضرورة تجميع اليهود (بعضهم أو معظمهم) في فلسطين، وإمكان ذلك. كان هذا التوافق فعالاً لدى البعض، وأقل فعالية لدى البعض الآخر، إلا أنه كان موجوداً دائماً. وفي التاريخ الحديث سبقت اتفاقية سايكس- بيكو وعد بلفور، وكأنها كانت تمهيداً له. بدون سايكس- بيكو ما كان لوعد بالفور أن ينفذ. وتيقظ متابع عربي لبناني ماروني من عازور – قرب قانا – إلى البعد الكلي للصراع على فلسطين قبل وعد بلفور بما يقرب من عقد ونصف. اسمه نجيب عازوري والاحتفال بالذكرى المئوية لصدور كتابه يقظة الأمة العربية واجب. بل قبل صدور كتاب عازوري بثلثي القرن تقريباً، وبالتحديد في 11/8/1840 صدر ما أدعوه بوعد بلفور الأول ، حين كتب بالمرستون إلى مندوبه في اسطنبول يربط بين تجميع اليهود في فلسطين وبين الحيلولة دون وحدة بلاد الشام ومصر. والتاريخ حافل بشواهد علاقة التناقض بين قوة العرب ووحدتهم وبين قيام إسرائيل وازدهارها. هل ترى وسائل أعلامنا هذا التاريخ الحافل؟ هل تربط بجدية بين ما يراد للعراق وما يراد لفلسطين والانتفاضة في أيامنا هذه؟ بعضها يرى ويربط ومعظمها لا يفعل. ولنظرية المؤامرة مطباتها، إلا أن لغض النظر عنها مطبات مقابلة.
5ً- في نفع الانتفاضة : لدى بداية الانتفاضة، التي أتت أساساً رد فعل، كان ثمة تفاؤل بنجاحها تفاؤلاً قائماً على أساس أنها ستكون قادرة على تقديم عمود استناد داخلي لضغوطٍ خارجية ( أمريكية أساساً ) هادفة إلى تنفيذ القرار /242/ الذي قامت عليه عملية مدريد . بلغ هذا التفاؤل مداه في الأسابيع الأخيرة في عام /2000/ لدى اقتراب ولاية الرئيس كلينتون من نهايتها – وتحمس الإعلام العربي في أكثريته الساحقة لهذا التفاؤل، بل وساهم في بنائه وتصعيده . ثم بدأ انحدار هذا التفاؤل مع توضح سياسة الرئيس بوش في الابتعاد عن الانشغال بقضية فلسطين والانتفاضة. حتى إذا جاءت أحداث 11/9/2001، ونجح شارون في توطيد تحالفه مع أمريكا تحت شعار محاربة الإرهاب، بدأت في الإعلام العربي نغمة جديدة ترى الخير في وقف الانتفاضة، بذريعة عدم تحميل الفلسطيني الأعزل من الأعباء مالا يستطيع أن يحتمل . منذ أكثر من عام بدأ تنظير تخاذلي يحتل مساحات واسعة في الإعلام العربي مؤداه أن لا حل إلا بالمفاوضات، وأن المقاومة أصبحت عبئاً على القائمين بها. ترافق هذا التنظير مع ما بدا من قدرة الجيش الإسرائيلي على السيطرة. إلا أن هذه السيطرة مشكوك فيها كما هو معلوم ، ويزداد الشك فيها مع كل عملية استشهادية.
6ً- في تكييف عمليات المقاومة : هل هي استشهاد أم انتحار أم إرهاب؟ تصف وكالات الأنباء الأجنبية معظم عمليات المقاومة بأنها إرهاب، ويقع على وسائل الإعلام العربي أن تحول كلمة إرهاب إلى استشهاد . معظم الوسائل تفعل، إلا أن ذلك لم يأتها عفواً. أتى بفضل ضغط شعبي عربي. وهذا الضغط ينبغي أن يستمر وينبغي أن يتعمق التكييف القانوني له. صحيح أن بعض العمليات الاستشهادية توقع ضحايا من الأبرياء (كالأطفال) وممن يرى بعضنا أنهم من الأصدقاء (من جماعة حزب ميريتس المعتدل مثلاً)، إلا أن الهدف الأساسي يبقى نبيلاً وهو دحر الاحتلال . يمكن القول بكل بساطة أن كل إسرائيلي راشد على أرض الضفة الغربية وغزة إنما هو هدف مشروع لعمليات المقاومة. كل مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية وغزة يرتكب جريمة حرب مستمرة بفعل استيطانه. وهذا موقف منسجم مع القانون الدولي. ماذا عن عمليات الاستشهاد التي تقع في إسرائيل الـ/48/؟ بمقتضى لغة قرارات الأمم المتحدة ثمة شك في شرعية هذه العمليات. إلا أن من الممكن بناء نظرية معاكسة قائمة على حق المتابعة الساخنة (أو الباردة). نظرية المتابعة مبنية على تتبع الجاني إلى معاقله ، ولولا المعاقل الإسرائيلية لما كان الاستيطان في أراضٍ محتلة، وهو استيطان مكيف بالقانون الدولي على أنه جريمة حرب. لن نقف هنا عند الجوانب القانونية. ما يمكن قوله أن ثمة تعاطفاً شعبياً عربياً وإسلامياً بل وعالمياً مع العمليات الاستشهادية، وأن الإعلام العربي يجسد معظم هذا التعاطف.
7ً- في مدى الضرر اللاحق بإسرائيل من جراء عمليات المقاومة: كبير جداً الضرر اللاحق بإسرائيل من جراء عمليات المقاومة. وفي النظرية العامة لهذه العمليات ثمة عدة معايير للنجاح. منها عدد من تصيب، ومنها مدى إلحاق الخسائر المادية بالعدو. إلا أن أهم هذه المعايير إنما هو قدرة عمليات المقاومة على إلحاق الذعر بالعدو عن طريق مفاجأته من حيث لم يحتسب. وفي النظرية العامة لهذه العمليات أن الذعر، إذا ينتشر في صفوف العدو، فإن أثره سيكون واحداً من ثلاثة، أو أثنين من ثلاثة، أو ثلاثة من ثلاثة. إما أن يقنع الذعر الإسرائيليين ولاسيما في المناطق المحتلة – بأن عليهم أن ينسحبوا من تلك المناطق، بل وربما من كل فلسطين. وإما أن يصعدوا من وحشية قمعهم مما يترتب عليه بالضرورة تصعيد عمليات المقاومة. وإما أن يقنعهم بأنه لا بد من رؤية الأمور كما يجب أن ترى، أي بضرورة الوصول إلى تفاهم مع الفلسطينيين على أساس مبادئ حقوق الإنسان. الإعلام العربي في معظمه لا يرسم بجدية مدى الضرر اللاحق بإسرائيل من جراء عمليات المقاومة. ولعل السبب في ذلك صنف نفوذ وسائل الإعلام العربي في المجتمع الاستيطاني الصهيوني. فإذا فاجأتنا بعض وسائل أعلامنا بتقرير عن مدى الضرر اللاحق بإسرائيل – فمن المرجح أن تكون لهذا التقرير مرجعية أجنبية أو إسرائيلية.
باختصار : تصرخ إسرائيل من الألم، بعض الأحيان على الأقل ، فنجد أثر ذلك في وسائل أعلامنا إلحاحاً على الصراخ الفلسطيني من الألم. كأن الانطباع الذي يراد خلفه لدينا أن القرح مسنا ولم يمسسهم قرح مثله.
8ً- في المقاطعة ومناهضة التطبيع : معظم وسائل الإعلام العربي تحتفي بمظاهر المقاطعة ومناهضة التطبيع. إلا أن ثمة وسائل إعلام عربي تشكك بجدوى المقاطعة ومناهضة التطبيع. وفي مقاربة هذا الموضوع يحسن بنا التمييز بين التعبئة العاطفية (وهي أمر مطلوب) وبين الجدوى الفعلية (وهي أمر احتمالي يخضع للاجتهاد). وثمة جانب إعلامي صرف في المقاطعة ومناهضة التطبيع : هل يحسن أن تستضيف وسائلنا الإعلامية شخصيات صهيونية؟ وفي الجواب عن هذا السؤال ثمة وجهة نظر ترى أن هذا الأمر مفيد لكي نعرف العدو مباشرة. وثمة وجهة نظر معاكسة غالبة. أحب أن أذكر أن بريطانيا في حرب جزر الفوكلاند حرمت استيراد أية بضاعة – ولو إعلامية وفكرية – من البرازيل . كذلك أحب أن أذكر أنه يستحيل على أي دبلوماسي أمريكي أن يقابل أي مقاوم لبناني أو فلسطيني. ولن ننسى أن مندوب أمريكا في الأمم المتحدة اضطر قبل ربع قرن إلى الاستقالة حين افتضح أمر مقابلته السرية مع مندوب فلسطين . الحوار مطلوب حقاً ودائماً. ولكن الحوار المطلوب هو ذلك الذي يقوم على أسس واضحة متبادلة ومتكافئة، ولا يكون له أثر تثبيط همة الناس الذي تتوجه إليهم الوسيلة الإعلامية، و إلا أصبح أعلاماً مضاداً.
9ً- في انعدام التخطيط وضعف الذاكرة : والشواهد كثيرة .
لنأخذ مثلاً أياماً لا يجوز أن تغيب عن الذهن: ذكرى وعد بلفور لهذا العام، هي الذكرى الخامسة والثمانون لصدوره. إنها أول ذكرى بعد اعتذار بلجيكا عن دورها في مآسي الكونغو. كان على الإعلام العربي أن يذكر بريطانيا، يوم 2/11/2002 بأن عليها تقديم اعتذار، أسوة بما فعلته بلجيكا. في 3/10/2002 ظهرت لي في البعث الدمشقية رسالة إلى السيد طوني بلير رئيس وزراء بريطانيا تسأله الاعتذار. وقد أرسلتها إليه عن طريق السفير البريطاني في دمشق وبوسائل أخرى. تلقيت هواتف تأييد للفكرة، من إعلاميين وغيرهم، مالا يحصى. إلا أنني لم أقع على مقالٍ واحد في الإعلام العربي يتابع الفكرة ويطورها ويحلق بها إلى فضاءٍ عربي (عن طريق جريدتي الشرق الأوسط والحياة، أو عن طريق قناة فضائية). كانت للسيد جاك سترو تعريجة على وعد بلفور في مقابلة أجرتها معه أسبوعية النيوستيتسمان البريطانية وأعلن فحواها في 15/11/2002.لم يتم الربط بين مقالٍ ظهر في دمشق ومقابلة ظهرت في لندن. بل ولم تتم متابعة تصريحات السيد سترو سياسياً وإعلامياً، بما تستحق من جدية.
تلك ناحية جزئية إلا أن انعدام التخطيط أمر ملحوظ وملفوظ في كل مجال إعلامي عربي متعلق بالقضية الفلسطينية.
وكذلك ضعف الذاكرة ، أو بالأحرى استعارة الذاكرة:
تأتينا من الوكالات الدولية قائمة بما حدث في مثل هذا اليوم. ونقوم في الأغلب بتبيينها غافلين عما فيها من نقص تغطيةٍ لما يخصنا . في 22/11/1967 صدر عن مجلس الأمن القرار /242/ الممنوع من التنفيذ . ترافقت ذكراه هذا العام مع بدء تنفيذ القرار /1441/ الصادر عن الهيئة نفسها . لم نتذكر أن نركز على الكيل بمكيالين فيما يتعلق بهذين القرارين. قامت الجمعية العربية لمناهضة العنصرية في دمشق بالمقارنة، إلا أن صوتها خافت. أما قناة الجزيرة الفضائية فقد اختارت في 22/11/2002 أن تستعير ذاكرتها من أميركا. عادت بنا إلى عام 1963 واغتيال الرئيس كندي. أما القرار /242/ الذي يكاد يبلغ تأجيل تنفيذه ثلثي عمر الأمم المتحدة، والذي يهدد تنفيذ قرار مماثل له المنطقة بأسرها، فكأن لا عين رأت ولا أذن سمعت.
خامساً : ثلاث توصيات سياسية وفكرية وإعلامية :
يمكن استخلاص توصيات من معظم ما ورد من مثالب . إلا أن هذا الاستخلاص بتضمن تكراراً لا حاجة إليه. "الينبغيات" الموجهة إلى الإعلام العربي لا حصر لها، يختلط أهمها بهامها خلطاً يبلغ بنا أقصى درجات الشر، لأنه لا يحفل بضبط درجات الخير.
والتوصيات الثلاث التي أقدمها الآن سياسة ففكرية فإعلامية.وهي هكذا بترتيب أهميتها.
1ً- التوصية السياسية: ضبط النظام السياسي العربي على قضية فلسطين : هل هذا الضبط ممكن ؟ كمشتغلٍ في السياسة وعلومها أرى أنه هدف يستحق المحاولة. آلية الضبط التي أبشر بها منذ أوائل السبعينات: إنشاء مركز لدراسات مؤتمرات القمة العربية. حين نضبط النظام السياسي العربي يمكن لنا، وعلى نحوٍ أفضل ، الانطلاق نحو مزيد من تصويب دور الإعلام العربي وتصعيد أثره. يقع تنفيذ هذه التوصية على عاتق السياسيين، إلا أن بامكان المفكرين والإعلاميين الإسهام في التنفيذ.
2ً- التوصية الفكرية: تأصيل الصراع العربي – الصهيوني على أنه حالة استعمار استيطاني مناهضة بطبيعتها لحقوق الإنسان:
وثمة كثير مما يقال – بل وقلته – في هذا الباب. وفي تقديري أن ثمة تأصيلين كبيرين للصراع احدهما ديني والثاني يعتمد أسس ما أدعوه علم الاستعمار الاستيطاني. التأصيل الديني حافل بالالتباس، وهو يؤدي دائماً إلى طرح سؤال كبير ليس ثمة إجابة عنه. أي دين هو الأصح؟ اليهودية أم المسيحية أم الإسلام؟ ثم أن التأصيل الديني لا مستقبل له من حيث أنه في حقيقته الكبرى استئصالي . بموجبه لا يشعر اليهود الإسرائيليون بالارتياح إلا إذا هجر العرب بمسيحيهم ومسلميهم كل فلسطين التاريخية ، والعكس صحيح. أما التأصيل على أسس علم الاستعمار الاستيطاني فيمكن البناء عليه بما ينسجم مع مبادئ حقوق الإنسان. وكما قلت يطول الحديث في هذا الموضوع إلا أنني ألاحظ أن أقوى تأييد لحقوق الفلسطينيين، وما يتضمنه ذلك من إدانة لما يمارس عليهم من عنصرية، إنما يأتي عالمياً من جماعات حقوق الإنسان، ومؤتمر دربن غير الحكومي شاهد على ذلك. التوصية هنا هي العناية الفكرية والإعلامية بعلم الاستعمار الاستيطاني، وتنزيل الصراع العربي – الصهيوني على هذا العلم، وإنشاء جمعيات عربية وعالمية لمناهضة العنصرية، ومحاولة إتباع الوسائل التي اتبعت في تجربتي جنوب روديسيا (زيمبابوي) وجنوب أفريقيا، والتي أدت إلى إزالة الاستعمار الاستيطاني عن ذينك البلدين. ومن الخطوات الهامة في هذا السبيل محاولة استصدار قرارات من الجمعية العامة للأمم المتحدة ، تماثل قرارات استصدرت سابقاً، تمنع الهجرة إلى فلسطين التاريخية والاستيطان فيها. ولدينا حجة قوية في هذا المضمار. وهي أن حق عودة الفلسطينيين إلى فلسطين، وهو حق مثبت بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومثبت بقرارات الأمم المتحدة، ومثبت بمقررات مؤتمر دربان الحكومي يتقدم على أي حق مدعى به من قبل أية مجموعة بشرية أخرى، بالهجرة إلى فلسطين، وبالاستيطان فيها. كما أن تنفيذ حق عودة الفلسطينيين يستوعب كل ما لدى فلسطين التاريخية من قدرة على الاستيعاب. ومن المؤلم – المفيد تذكرنا أن السلطة الانتدابية البريطانية كانت تأخذ هذا العامل بعين الاعتبار، وأننا أهملنا ذلك. وبشأن عنصرية الصهيونية المبنية على أساس الاستعمار الاستيطاني، هل نستطيع، هنا والآن، أن نطلب إلى وسائل الإعلام العربي الحاضرة معنا، أن تهتم بمناسبة 16/12/2002 ، وهي مناسبة تأتي بعد أيام قليلة، لنتحدث فيها عبر جميع شاشات الأقنية الفضائية عن عملية اغتيال القرار /3379/ (وهو القرار الذي بموجبه رأت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية). تلك العملية التي ابتدأت مع بدء المحادثات الجادة حول عملية مدريد، واختتمت يوم 16/12/1991 بقرار مشوب جداً لأنه غير معلل اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة ، كمساهمةٍ في إنجاح عمليةٍ سلم لم يرد لها الإسرائيليون ومناصروهم أن تنجح؟
3ً- التوصية الإعلامية : الاعتناء بالتقنيات الحديثة في الإعلام:
وفي هذا المجال أتجول في شعابٍ أهل مكة أدري بها. إلا أن لدي بعض الأفكار التي قد تكون مفيدة. مثلاً: أليس بالإمكان وضع جدول سنوي بالمناسبات التي ينبغي أن نهتم بها؟ يوحد أفكارنا ومشاعرنا الاهتمام العربي الشامل بتلك المناسبات. يعرف الواحد منا بالآخر، والتعارف المتبادل أساس من أجل العمل المشترك. في 8/2/2003 وفي 8/3/2003 تحل الذكرى الأربعون لتسلم حزبٍ عربي حكماً وبذلك أشير إلى حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق ثم في سورية. في 21/3/2003 ثمة اليوم العالمي لمناهضة العنصرية وهو ذاته ذكرى معركة الكرامة. في 22/3/2003 تحل الذكرى الثامنة والخمسون لإنشاء جامعة الدول العربية. ثم في أواخر آذار نستعيد ذكرى يوم الأرض. وفي نيسان 2003 تأتي الذكرى الخامسة والخمسون لمذبحة دير ياسين. أليس بإمكان الإعلام العربي أن يبلور ذاكرةً جمعيةً عربيةً هادفة ليس فقط لإحياء الماضي بل لبناء المستقبل؟ ثم أليس بالامكان وضع قائمة بالأسماء الفلسطينية للمدن والبلدات والقرى التي تأتينا أسماؤها باللغات الأجنبية، فلا تخفي وسائل إعلامنا الاسم الفلسطيني لصالح الاسم الأجنبي الذي تأتينا به وسائل الإعلام الأجنبية؟.
من ينفذ هذين الجانبين في التوصية الإعلامية؟ أستطيع أن أقوم بعبء الفكرة الأولى، وبالإمكان سؤال جغرافي عربي أن يقوم بعبء الفكرة الثانية.
ألا أن أهم ما ينبغي أن تشغل به التوصية الإعلامية إنما هو التنظيم الإعلامي العربي. قبل أعوام سمعت في ندوة دعاني إلى المشاركة فيها قسم الإعلام بكلية آداب جامعة دمشق أن ثمة مجلساً للقنوات الفضائية العربية. كأنني ما سمعت به إلا تلك المرة. هل هو مجلس قائم حقاً؟ هل بالإمكان تشكيل مجلس إعلامي عربي أعلى حكومي وغير حكومي معاً؟ ما مدى التنسيق بين وزارات الإعلام العربية عن طريق مجلس وزراء الإعلام العرب، ورئيسه الحالي مشهود له بالكفاءة والقدرة على التحرك ؟ تلكم أسئلة تراود الذهن.
سادساً : كلمة ختام :
لست راضياً، علمياً، عما سودت من مطالعات. الموضوع الذي أوكل إلي كبير متشعب يتطلب فسحة وقت وعمق اختصاص. وعزائي في معالجته أن المواضيع الأخرى المطروحة في حقل الإعلام تماثله كبراً وتشعباً. وفي كل حال، أعرب عن استعدادي للدفاع عن كل ما كتبت، وعن استعدادي أيضاً لتغيير ما كتبت أن ألزمتني حجة أحدكم بالتغيير.