الثقافة بين الغزو والانفتاح

calendar icon 11 تشرين الثاني 1999 الكاتب:يوسف مونس

احس نفسي قريباً اليكم لأنني أتكلم عن راهب عظيم كان في الشيعة لكنه ترهب للفقراء وللفكر والعقل، وأنا الراهب والذي يقول عنه القرآن الكريم "أقربهم مودة اليكم".

يحتلّ موضوع الثقافة مكاناً مرموقاً مركزيّاً في الفكر العالمي المعاصر، بحيث يصحّ القول أن المسألة الثقافيّة هي اليوم مسألة المسائل، بل المحرّك للتاريخ. المستقبل هو وحده للثقافة، وليس للإقتصاد ولا للسياسة. ويعود ذلك الى الارتباط الحميم بين الثقافة وديانات وهويات وقيم وفنون وسلوك وشعائر الشعوب والجماعات، وبالتالي الى مدى تأثيرها الهام والمباشر، وربّما الحاسم، على العلاقات الدوليّة في القرن الحادي والعشرين. ويتركّز الجدال حاليّاً حول فرضيّتين، الألف الثالث، ألف الإنسان والثقافة والروح أم عودة الى بربرية مادية جديدة، الفرضيتان سوف تتحكمان بالوضعيّة الدوليّة وهما: حوار الثقافات والحضارات والاديان أو تصادمها أي تصادم الانسان في عدمية جديدة في رفضه للآخرين. هاتان الفرضيّتان تطرحان عملياً إشكاليّة التبادل الثقافي أي نوعيّة العلاقة القائمة، والممكن أن تقوم بين الثقافات: هل هي علاقة فرض وإملاء وإلزام، أم هي علاقة تعاون وتفاعل، وبمعنى آخر: هل هي علاقة غزو أم علاقة انفتاح؟

من الشخصيات الروحيّة الفكريّة التي تناولت هذه العلاقة، سماحة الإمام السيد موسى الصدر. فأين هو موقعه على الخريطة الثقافيّة بأبعادها اللبنانيّة والعربيّة والإسلاميّة والغربيّة؟

وقد ذكر الأستاذ مقالة في جريدة لوموند، هذه الشخصية الغير عادية، وقد كان لنا الشرف انه زار جامعتنا وتكلم فيها. والى الآن بقي صداه في كليتنا وفي جامعتنا. انه طوال مساره في إيران وفي لبنان هو الذي يتمتع، كما يقال في الفكر المسيحي، بكاريزما خاصة جعلته رجل المعية أي رجل المسار مع الآخر والذهاب اليه حيث هو وكما هو في قلب كنيسته أو جامعته أو سجنه أو كوخه.

أولاً: محاولة تعريف بالثقافة

بين التعريفات العديدة لمفهوم الثقافة نختار هذا التعريف الجامع، وهو أن "الثقافة بمعناها الواسع ولا أدخل في التقسيمات (حضارة، ثقافة، تمدن، عمران) تعني كلّ ما يستعمله الانسان لصقل إمكاناته المتعدّدة الفكريّة والجسديّة وتنميتها- فسمفونية بتهوفن ثقافة وأدوات المطبخ ثقافة- مجتهداً في إخضاع الكون بالمعرفة والعمل ليكون في خدمة الانسان وكما يقال مؤسساً الحياة الاجتماعيّة والحياة العائليّة ومجمل الحياة المدنيّة بفضل تقدّم الأخلاق والشرائع، مترجماً وناشراً وحافظاً، في مؤلفاته، عبر الأزمنة، الإختبارات الروحيّة الكبرى ونزعات الانسان العظمى من أجل تقدّم الجنس البشري." (المجمع الفاتيكاني الثاني - فرح ورجاء، فقرة 53).

أعرف أن هذا التحديد خاص جداً إذا اعتبرنا أن الثقافة ترف فكري والثقافة لا تعني ذلك. هناك فرق بين ما يسمى كائن مثقف وكائن متعلم أوInformé ولا أدخل في هذه التحديدات.

هذا التعريف يستدعي بعض الملاحظات الأساسيّة، منها:

إن جذور الثقافة هي جذور اجتماعيّة تاريخيّة ترتبط بجماعات ومجتمعات متعدّدة ومتنوّعة. ومن هنا تعدّد الثقافات وتنوّعها، وبالتالي تنوّع أنماط الحياة والقيم والعادات والعبادات والتراثات والطقوس والشعائر وسلّم القيم والسلوك والأذواق والفنون.

فالعناصر الأساسيّة في الثقافة هي أربعة: الدين واللغة والجغرافيا والتاريخ والجماعة والتراث والفولكلور والحق في الاختلاف. وعلى العموم، فإن الدين وسُلّم القيم الاخلاقيّة والجماعيّة هي العناصر الأكثر تأثيراً وتأثّراً بالثقافة والمحيط. فلاهوت الجماعة وسلّم قيمها مرتبط بنظامها الجغرافي والأمني ( وهنا فصل كامل بين ما يوحى من السماء الى الأرض وبين ما يأتي من الأرض الى الإنسان أي بالفرنسية Revelation et Religion والفرق كامل بينهما وعلى العموم فإن الدين هو الأساس) والغذائي والبيئي، جبلاً وبحراً وصحراء وسهلاً وسماء. وهناك آلهة الجبال أو المياه أو السماء، ومجتمعات الجبال والبحار والصحارى وطقوسها وقيمها وأنماط سلوكها ومعتقداتها. الدين مرتبط بتعابيره بالمحيط الذي يولد فيه، من هنا قول العالِم الألماني بول تيلّيش (Paul Tillich): "الدين هو جوهر الثقافة، الثقافة هي شكل الدين."

والثقافة تتناول "مجموع نماذج السلوك والفكر والإحساس، تلك التي تركز بين نشاطات الانسان في علاقته المثلّثة بالطبيعة والانسان والمتعالي." فالانسان هو محور الثقافة ومطوّرها في آن، هو خليقتها وخالقها. وتعمّقه بالمعرفة عبر الثقافة يحرّره أكثر ويشدّه الى المتعالي أكثر، ويقرّبه من أخيه الإنسان أكثر، ويجعله أكثر قدرة على التحكّم بالطبيعة والأشياء. إنه مخترع هنا ومطور هنا ومغير هنا. إنّه يحقق ارتقاءه في الثقافة وبالثقافة، لأن الثقافة، كما يقول رومانو غارديني "هي تربية الانسان عبر الحريّة ومن أجل الحريّة"، أي أنه يتأنسن بالحرية، وإلا وقع في منطق الحروب الإثنية والعرقية والدينية التي لا تحترم الآخر كخليقة حرة لله.

لكن، من الأمور الشائكة نوع العلاقة القائمة، أو الذي يمكن أن يقوم بين ثقافتين متباعدتين أساساً في جذورهما الدينيّة وانتماءاتهما الاتنيّة وواقعهما الجغرافي وتراثهما السوسيو- ثقافي والجمالي وسلّم القيم فيهما. وهذه العلاقة تتبع المنحى "الهيرودي" (التفاعلي) أو المنحى "الزيلوتي" (التصادمي)، على حدّ تعبير أرنولد توينبي، ويتولد عنها إما القتل الاثني أو التفاعل الحضاري. في هذا المجال أحياناً عديدة كان ما بين الجماعات باسم دينها وباسم آلهتها قتل إثني أو قتل ثقافي وعلينا أن نغير قراءة حروبنا وتراثنا وتاريخنا.

ثانياً: الثقافة بين الغزو والانفتاح

أ- ماذا يعني الغزو الثقافي؟

شاع استعمال تعبير "الغزو الثقافي" في الخطاب السلفي والخطاب الثوري في العالم العربي منذ أوائل هذا القرن. واعتبر هذا الغزو جزءاً من الاحتلال الذي وقع على بلدان العالم الثالث، واحدى الوسائل الضروريّة للسيطرة عليها. إنه الزاوية الرابعة لتحقيق الأهداف الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة والثقافيّة داخل هذه البلدان.

وهناك من يذهب الى أبعد من ذلك، معتبراً أن الغزو الثقافي كرأس الحربة للغزو الشامل، فاستعملته الدول الأوروبيّة وسيلة لشقّ الطريق أمام العمليّة الاستعماريّة ومن ثمّ لترسيخها. ويُشار في هذا الصدد الى أربعة ظواهر ثقافيّة سبقت الاحتلال وهي: روح المغامرة والبعثات التبشيريّة والرحلات الاستكشافيّة والارساليات التعليميّة والمهمات الاستشراقيّة ورغبة الربح والمتاجرة في أسواق الحرير والبهارات والعبيد.

تبع ذلك سعي حثيث من الدول الغربيّة لإقامة نظام تعليمي في البلدان المستعمرة يقوم على: نشر لغة المستعمِر وثقافته وحضارته على حساب ثقافة الشعب المستعمَر، وتكوين نخبة ذات ثقافة غربية وإيجاد شرخ داخل ثقافة هذا الشعب، بفرضها مُثلاً وقيماً وأنماطاً جديدة غريبة عن هويّة الشعوب المستعمرة.

ومع أن الثقافة كانت ميداناً من ميادين الصراع بين الغرب وشعوب المنطقة، إلا أن بروز المعسكر الشيوعي جعل ميدان المبارزة الأول بين ايديولوجيّتين: الرأسماليّة والشيوعيّة، ممّا أبقى الثقافة الوطنيّة في الظلّ،لا بل حاول مراراً طمس هذه الثقافة الوطنية، بل قامت محاولات من جانب الايديولوجيّتين الكبريين للحفاظ على الهويّة الثقافيّة الوطنيّة وخصوصيّتها بهدف استخدامها وسيلة في حربهما الايديولوجيّة (ثقافة بورجوازيّة من جانب وثقافة بروليتاريّة من جانب آخر). وبانـهيار المعسكر الاشتراكي، انسحب الصراع الإيديولوجي وأخلى مكانه للصراع الثقافي "وتلك ظاهرة من أخطر الظواهر التي شهدها التاريخ البشري إن لم تكن أخطرها على الإطلاق." (د.محمد عابد الجابري، المسألة الثقافيّة، 1994).

في زمن الغزو الثقافي الأوّل، كانت القاعدة: "إخضاع النفوس بعد إخضاع الابدان... الثقافة بعد المدفع. وفي زمن الغزو الثقافي الثاني، انقلبت الآية، فصار إخضاع النفوس مدخلاً إلى إخضاع الابدان، وذلك بفضل التقدّم الهائل لوسائل الإتصال السمعيّة البصريّة التي تسيطر على النفوس والادراك، وتسهل الطريق أمام السيطرة على الأبدان والعقول، وعلى الرموز والمثل، تغيير التصادم الثقافي كلياً خاصة مع استعمال الوسائل السمعية البصرية وخاصة الانترنيت وسواها. من هنا يمكننا أن نقول ان نظام الغزو الثقافي قد تغير كلياً وعلينا ان نُعد نفوسنا لنقرأ المستقبل انطلاقاً من الصور وليس من الكلمة.

باختصار، يحمل تعبير الغزو الثقافي معنى الانقطاع بين عاملين: مُعطٍ وآخذ، مبتدع وتابع، مرسل ومتلقٍّ، فاعل ومفعول، وفي كل ذلك: الفعل يأتي من جانب واحد، وله اتجاه واحد، وهدفه غزو العقل، وتكييف المنطق، وتوجيه الخيال، وصنع الأذواق، وقولبة السلوك، وترسيخ نوع معيّن من القيم، أي اختراق الهوية وتغريبها، وذلك ان الثقافة هي التعبير الأصيل عن الخصوصيّة التاريخيّة لجماعة من الجماعات أو لأمّة من الأمم، وعن نظرتها الى الكون والانسان والحياة ولما بعد الحياة... وعن موضعها في الزمان والمكان، وارتباطها بما وراء الزمان والمكان، بما يشكّل تراثها ونظرتها الى العالم! وأمام التحدّي الماثل والهائل الذي يهدّد ثقافة هذه الجماعات، نراها تلتجئ الى "الأصل" وتعود الى جذورها الطائفيّة الدينيّة الخاطئة والأثنيّة الاثنويّة لمواجهة ثقافة العولمة، وتقف موقف الريبة والحذر والتصلب، أمام كل تجديد وانفتاح، أو تلقي على عالم الدين والسماء سذاجة المقولات الاخلاقيّة والدينيّة التي ارتبطت بها وقد تخطاها الزمن، انطلاقاً من الوضع الجغرافي والتاريخي والاقتصادي، وتضيع بين المتحوّل والثابت، بين الذي لا يمسّ والمطلق الدائم في القيم والأخلاق والمعتقدات، وبين التعبير عنه أو جدة اختباره، وبين المتغيّر الخاضع للزمن والتاريخ، والمتجسّد في اختبارات جديدة وأنماط جديدة ومظاهر سلوكيّة جديدة.

ب- ماذا يعني الانفتاح الثقافي؟

من البديهيات القول ان الثقافات، منذ وجدت مع ظهور الإنسان وبظهور العمران البشري، وهي على اتصال وتداخل وتفاعل في المكان والزمان والجماعات، بحيث أن تاريخ البشريّة الحضاري هو مجموع التفاعلات الثقافيّة عبر الاتصال والاحتكاك بين الأفراد والجماعات والمحيط، وما أبعد من الزمان والمكان، في زمن السّلم كما في زمن الحرب... عن قرب (كما كان الوضع في الماضي) أو عن بعد (كما هو الوضع اليوم).

ان مفهوم الانفتاح الثقافي يناقض مفهوم الغزو الثقافي، وذلك أنه يقوم أساساً على مبدأ "المثاقفة" والاغتناء بثقافة الآخر أو اغناء ثقافة الآخر. فهو علامة تفاعل لا نتيجة فعل، وهو ذو اتجاهين وليس خلاصة اتجاه واحد. فالردّ على الغزو الثقافي يقوم حالياً على موقفين أولهما هروب الى الوراء "بالانغلاق" الاصولي، وهو افقار للذات النافية لغنى الآخر، وثانيهما هروب الى الأمام "بالمراهنة على الحداثة والعصر" أي التغريب، وهو افقار للذات باقتلاعها من غناها وعظمة اختبارها، واقتلاعها من جذورها التي تعطيها فرادة اختبارها. من هنا كان دور السيد موسى الصدر. كان هذا الوسط بين الجذور وبين التطلع الى المستقبل، بناء على ذلك يجب علينا أن نقرأ ما كتب الإمام السيد موسى الصدر.

بناء عليه، يمكن إيجاز مستلزمات الانفتاح الثقافي في العالم العربي بضرورة الإقرار والاعتراف بوجود خلل في داخل المجال الثقافي العربي الأحادي المنغلق الرافض لقبول الغيريّة والتنوع، والغارق بالتبجّح والسلفيّة والانبـهار بمثال واحد، واختبار واحد لاغٍ لاختبارات الملايين من الشعوب والجماعات. وهو ما يسمح للخارج باختراقه والتأثير فيه وعليه، كذلك الإقرار والاعتراف بأن تجديد الثقافة العربيّة، لا يبدأ بمواجهة الثقافة الغربيّة أولاً، بل يبدأ بإعادة بناء هذه الثقافة من داخلها أولاً، بقبول ان الآخر وثقافته هما جزء أساسي لوجودي واغتنائي، وهذا ما يسمح للثقافة العربيّة بتحصين نفسها، ومن ثم مواجهة الثقافة الغربيّة وغيرها من الثقافات بالتفاعل والتبادل. وعليه، فلا بدّ من اعادة قراءة تاريخ العرب الثقافي، وإعادته الى زمن البداية أي الزمن الذي كان له الدور الكبير في التفاعل والتبادل ونقل وهضم وخلق ثقافات أعطت الحضارة عمارة فكريّة رائعة. هذه القراءة تبدأ باحياء التراث، لأن التراث هو الخيط (والخطّ) الجامع للمسار الثقافي، وهو ربط أنا الحاضر بأنا الماضي، وأنا المشروع المستقبلي، ولا أنا إلاّ إذا كنتَ أنتَ موجوداً، هذا هو مشروع الشخصانيّة الإنسانيّة المستقبليّة، هذا الخيط هو القادر على "ربطه بنا وربطنا به بصورة حديثة معاصرة"، والعمل على تحرير الثقافة من الظلاميّة الدينيّة والسياسيّة. "فالسياسة سلطة والثقافة حريّة... والسلطة تقتل الحريّة". والحريّة والفاجعة وحدهما يخلقان الحضارة. الحريّة والفاجعة عملان تأسيسيّان للحضارة، وهذه أهميّة الاستشهاد والموت والقيامة أو العودة والتجدّد في الحضارات الكبرى.

إن الخروج من هاجس الغزو الى رحاب الانفتاح الثقافي والحوار المحبّ والاحترام، يستوجب تبنّي استراتيجيّة ثقافيّة عربيّة قادرة على مواجهة الأبعاد الثقافيّة من جانب، والانشطار الثقافي داخل المجتمعات العربيّة من جانب آخر. انها استراتيجيّة تقوم على الأبعاد التالية: بُعد فكري حرّ نقدي، لا محرّمات دينيّة فيه ولا مقدّس فيه، بُعد سياسي باقامة مجتمعات الديمقراطيّة وليس مجتمعات عبادة الأشخاص والحكّام، وبُعد اقتصادي اجتماعي إنمائي علمي مبني على توازن نموّ الإنسان كلّ إنسان وكلّ الإنسان، وعلى المصالح مع الغرب، وبُعد ثقافي قائم على التجدّد من الداخل بالمزج بين الحداثة والأصالة وقبول الآخرين، واستشراف الأيام الآتية بغنى الماضي الغني بالخلق والابداع. هذه النظرة لا يحمل مهامها الحكّام والاحزاب والمؤسسات والنقابات... بل المثقفون أنفسهم، لأنه، كما يقول هيجيل، سيأتي يوم تقف الثرثرة السياسيّة أمام جدّيّة التاريخ، ولا يبقى إلاّ الرّوح.

ثالثاً: البعد الثقافي لمسيرة الإمام السيد موسى الصدر

كان الإمام السيد موسى الصدر في حياته وخطبه ونضاله، نموذج المثقف لبنانياً وعربياً وإسلامياً: فهو بين الزعماء المسلمين في لبنان، الأول والوحيد، الذي اتخذ موقفاً جذرياً من الهويّة اللبنانيّة، قبل الثوابت الاسلاميّة وقبل اتفاق الطائف، فأكّد "إيمان الطائفة الإسلاميّة الشيعيّة بلبنان الواحد وطناً نهائياً بحدوده الحاضرة سيداً حراً مستقلاً (مشروعه الإصلاحي 11/5/1977. وهو يلتقي البابا يوحنا بولس الثاني في نظرته الى لبنان البلد والرسالة: "فلبنان ذو تاريخ رسالي ووجود متميّز ونشاط حضاري خاص "، "وهو بتركيبه البشري ضرورة حضاريّة للعالم ودليل الانفتاح والتسامح، فلا يفرّط أحد بهذه الثروة الانسانيّة الكبرى: لبنان المنفتح والحرّ." وفي هذه الرؤية، يشدّد الإمام بوضوح على معنى الانفتاح الثقافي والمحافظة على لبنان الانسان والوطن: "فلنحافظ على إنسان لبنان لكي نحفظ هذا البلد أمانة التاريخ وأمانة الله"... "بلداً للحوار المسيحي - الاسلامي"، "بلداً منفتحاً على العالم بأسره، يلتزم بقضيّة الانسان لأنها من صلب رسالته الحضاريّة". هذا هو بالحقيقة جوهر الحضارة. وهو يرى أن جميع المبادئ - المسلّمات ليست شيئاً عارضاً أو طارئاً لتكون موضوع مساومة أو تسوية، "بل هي منبثقة من جوهر وجود لبنان ومن صميم كيانه ومن رسالته التاريخيّة، ومن آفاق مصيره، ومن طموح أبنائه وتطلّعاتهم المستقبليّة."

ويصنّف الإمام الصدر في باب المحظورات أي "ما لا يمكن قبوله"، مسألة "تشويه وجه لبنان الحضاري بتحجيم دوره العربي والدولي، أو بقطعه عن المدّ الحضاري الإنساني، أو بجرّه إلى محور سياسي عربي أو دولي، بحيث يتقوقع ويتقزّم أو يتحيّز ويفقد طابعه المميّز".

أما المفهوم الصحيح للثقافة لدى الإمام الصدر، فهو مفهوم سياسي حضاري، غايته الأولى بناء وطن موحد متماسك متحضّر طامح. ومن رسائله إسهام كل فرد في البناء المعنوي للوطن، "وذلك باعتماد وحدة الثقافة الوطنيّة بعد تحديد مضمونها ومعالمها واتجاهاتها". ويؤكد نزعة الانفتاح الثقافي لديه بالقول: "أما اللغات والثقافات الاختياريّة الأخرى، فإنها مرتبطة برغبة المواطن ونتيجة تفاعله مع العالم وشعوبه، وهي مع الاحتفاظ بالثقافة الأصيلة، تصبح واقعاً متألقاً تتناسب مع رسالة لبنان الحضاريّة في العالم". وتأكيداً لهذا التوجه، دعا الإمام الصدر إلى: إنشاء وزارة للثقافة وإحياء التراث اللبناني، وتنمية الثقافة الريفيّة، وتعجيل إنشاء مركز علوم الإنسان الذي قرّرت الأونيسكو إنشاءه في جبيل.

أخيراً لا آخر، يرى الإمام الصدر "أن الثقافة الإسلاميّة تحرّك الإنسان حركة دائمة نحو التقدّم في مختلف مجالات التطوّر العقلي، وتتحمّل كل جديد وكل معرفة بقلب مشتاق وتعتبرها سلوكاً الى الله ومعرفة له وكمالاً للانسان." (أبجديّة الحوار: الإسلام وثقافة القرن العشرين، 1977). وعنده "ان الإسلام يرحب بكل حركة فكريّة إيجابيّة، وكل تطوير عقلي سليم، ويعتبر كل هذه جزءاً من رسالة الإنسان في الحياة." فلا خوف على الدين من الثقافة، لأن للدين مكانه وللثقافة والعلوم مكانهما مهما اتسعت وكبرت، وهذا مني أنا ليس رجال الدين حراس الله على الأرض، إنهم قارؤن وشاهدون لكتب الله. والإمام يفرّق بين نوعين من العلماء: الذين قبلوا الوافد وشجعوه، والذين عارضوه خوفاً من ذوبان الشخصيّة الإسلاميّة. وعنده ان الاسلام يهتم بالتأكيد بتكوين ثقافة اسلاميّة مؤمنة للمسلم ولكنه بالمقابل "ينفتح" ويفتح صدره لقبول الثقافات البشريّة، أي لقبول الآخر المتنوّع والمفترق، فيقتبسها ويهضمها وينشّطها ويعتبرها من واجبات الانسان في الحياة ورسالته في الكون.

أيها السيدات والسادة،

كان الإمام الصدر قائداً مجلياً في ميادين الدين والسياسة والفكر، وميدان اللقاء بالآخرين والذهاب إليهم. وكان لنزعته الانسانيّة في الدفاع عن الفقراء والمحرومين، تاثير بارز على خياراته الروحيّة والثقافيّة والإيديولوجيّة. لقد كان الانسان قاعدة تفكيره الأولى، ذلك ان هدف الاديان واحد وهو الإنسان. ومثل هذه القاعدة جعلته داعية حوار، قريباً من كل الناس وقرّبته أكثر من لبنان وانسانه لانه، كما يقول سماحته: "البعد الذي يعتبر انسانه رصيده الأول والأخير. فاذا كان لغيرنا ثروة، فثروتنا في لبنان انساننا، لذا لا بدّ من صيانته. فاذا اردنا ان نمارس شعورنا الوطني واحساسنا الديني، فعلينا أن نحفظ إنسان لبنان، كلّ انسانه وكل طاقاته لا بعضها، لا من اجل الانسان فحسب، بل من أجل الانسانيّة جمعاء."

هلا أصغينا اليوم يا أصدقائي لنداء هذا الرجل العظيم فارس الفقراء والمثقفين الذي نقيم اليوم ذكراه، وشكراً.

source