اختتم مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات مؤتمره الرابع ل "كلمة سواء" تحت عنوان: "الهوية الثقافية: قراءات في البعد الثقافي لمسيرة الإمام الصدر" وذلك مساء الجمعة الموافق للثاني عشر من "تشرين الثاني"-99 في فندق الماريوت-بيروت. كان اختيار المركز لموضوع هذا المؤتمر تبنياً لفكر الإمام الصدر في مواجهة تحديّات العصر والهيمنة الثقافية التي تستهدف الهوية والثقافة العربيتين والإسلاميتين على السواء، وانسجاما مع مفهوم المركز لإعلان بيروت عاصمةً ثقافية للعالم العربي لعام 1999.
والإطلالة على هذه المحاور أو على بعضها من منظور الإمام الصدر، يتّسق مع انشغاله بالثقافة ومساهماته القيِّمة في توكيد المبادئ الإيمانية الإنسانية. تلك المساهمات التي تثبت أهميتها وفعاليتها أكثر من أي وقت مضى وكأنما كان الإمام الصدر يستقرىء مشاكلنا في نهائية الألفية منذُ وأثناء مشاهدته في قرى الستينات والسبعينات. بل إنه أحدث صدمة وعي في مجتمعنا لا تزال تداعياتها تكبر وتتسع، ولنا في تجربة المقاومة الفذّة أو في تحفزنا نحو الثقافة البانِيَة خير أمثلة على ترددات تلك الصدمة.
وقد تناول المحاضرون ثقافة الإمام الصدر بمناهلها القرآنية قولا وفكرا وعملا وقلبا، وهذا ما يسمح لنا أن ننهل من معين متجدد بتجدُّد الغرف منه. فإلى تنوع مصادره المعرفية والفكرية، وتنوع اهتماماته وانفتاحه على الآخرين، مرورا بخضوعه للحقيقة بغض النظر عن مصدرها، ووصولا إلى ربط الدعوة الدينية بخدمة الفقراء وبالتعبئة الإنسانية من المبتدأ إلى المنتهى... اتسع الأفق أمام الإمام موسى الصدر، متجاوزاً المحلية إلى العالمية واختار لبنان نموذجا ثقافيا حضاريا للحوار ولم يُتَح له إكمال المشوار، لأن المتربصين، على مفترق العتمة والغدر، كانوا له بمر صاد الإخفاء.
وحوارات مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات هي محاولة للانتصار على التغييب باستحضار النهج، واستجماع الذكريات ممن رافقوا صاحب القلب الكبير، خصوصا وأن عالميته فيما شعر به أوسع مما نجده في ما خط قلمه. واللقاء تحت مظلة الكلمة السواء جاء محطة رابعة في خطى مركز الأبحاث على درب الحوار والتواصل.
كلمات جلسة الافتتاح كانت لرؤساء الطوائف الروحيّة أضِف إليها الكلمة الافتتاحية للسيدة رباب الصدر شرف الدين. وقد حضر جلسة الافتتاح ممثلو رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة، ونائب رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحشد غفير من الوزراء والنواب والسفراء والباحثين والشخصيات والمهتمين.
تناولت جلسات اليوم الأول مواضيع الثقافة في علاقتها بالتنمية البشرية والغزو والانفتاح، مع إضاءات على أبعاد ثقافة الإمام الصدر العربية والإسلامية والعالمية. وفي اليوم الثاني تناول الباحثون إشكالية العولمة وسبل مواجهة التطبيع ثم انتقلوا بعد الظهر إلى بحث الاتجاهات الثقافية في العالم العربي وثقافة الحوار والمواطنة وخطاب المقاومة في فكر الإمام الصدر.
أقيم على هامش المؤتمر معرض فيه من مقتطفات النص والصورة ما يذّكر بأهم مواقف وخطوات الإمام الصدر خلال مسيرته في لبنان، إضافة إلى عرضٍ لما تمَّ إصداره من مؤلفاته ومن منشورات مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات.
وقد أُعلن في ختام المؤتمر المقررات والتوصيات التالية:
1- يرى المؤتمر أن الدين هو جوهر الثقافة ولا خوف عليه منها: الثقافة الحقيقية هي التي تربط بين الأرض والسماء بين الدين والدنيا، بين المخلوق والخالق. فالثقافة الإسلامية-مثلا- تدعو إلى الوحدة والحوار والتقدم في مختلف مجالات التطور العقلي وتتمثل كل جديد وكل معرفة. كما وإن هدف الأديان واحد أَلا وهو الإنسان وعليه يكون حوار الأديان هو السبيل لإنتاج الثقافة المتناسقة في اختلافاتها، وبواسطة هكذا حوار نحمي أنفسنا من مخاطر الصراع الثقافي.
2- كما أكد المؤتمرون أن الهوية الثقافية بمفهومها الحي هي ذاك الكل الذي يشكل المضمون الداخلي للإنسان والضمير الجمعي للامة الذي يميز شخصيتها الحضارية، وأنه إذا كان للمثقف أن يمثل هذا الضمير، فليس له أن يتصرف بحقوق الأمة، بل على ثقافة النخبة أن تنهل من الثقافة الشعبية وترتقي بها ومعها.
3- ويشدّد المؤتمر على أهمية الانتباه إلى لغتنا، وعاء الفكر وتجلياته، وعلى ضرورة رفدها بالمصطلحات العلمية والمفاهيم المعاصرة لتمكين الناطقين بها من التفكير باسلوب ومنهج علميين. حيث أن ذلك يتيح لإبداعاتنا في حقول الأدب والفقه واللاهوت أن تتكامل بإبداعات علمية وتقنية.
4- كما ويحذر، في إطار اللغة، من الاستعمالات "البريئة" لبعض المصطلحات التي أفلح الغزو الثقافي في دسِّها في قاموسنا اليومي بعد أن ألبسها مدلولات خطيرة تشذ عن مدلولاتها اللغوية الأصلية (مثال: التطبيع).
5- يعتبر المؤتمر أن العولمة الجارية غير متكافئة، وتهدد هويات الثقافات الأخرى لأنها لا تعترف بآخرية الغير وبغيرية الآخر. فهي بالشكل الذي عهدناه في العقود الأخيرة، غزو ثقافي.
6- الشأن الثقافي ليس هروبا إلى الأمام (تغريب) ولا هروبا إلى الوراء (انغلاق) إنما هو اكتشاف حي ومستمر للذات (للهوية) وتعزيز لمقوماتها وإمكاناتها من خلال مقابلتها بالآخر واحتكاكها به في عملية (مثاقفة) مبنية على الحوار والاعتراف المتبادل.
7- ويرى المؤتمرون أن الآلة لا تستطيع أن تكون مثقفة.. إنما المسألة في وجهة استعمالها وفي مَنْ يستعملها وكيف ولماذا. وعلينا التعاطي معها بإيجابية لنكون شركاء فعليين في توليد العلم والمعرفة وليس مجرد مستهلكين سلبيين لما ينتجه الآخرون.
8- يحذّر المؤتمر من أن الصراع الثقافي هو أخطر وأبشع أنواع الصراعات؛ ومعركة المستقبل معركة ثقافية يسعى فيها المستكبر للاستيلاء على التاريخ كما الجغرافيا ويحاول محاصرة الخيال وليس الواقع فحسب؛ كما ويحذر بأن "التطبيع" الجاري تسويقه هو مشروع لتفكيك وتدميرالمقومات الذاتية للثقافة والحضارة العربية والإسلامية•إنه مشروع إخضاع للنفوس.
9- يَهيب المؤتمر بجميع الأدبيّات الدارجة في لبنان (المسرحيات الملتزمة، الشعراء الملتزمون، الفرق الرياضية .. إلخ) أن ينقلوا أدبياتهم إلى المنطقة المحتلة - وحبذا لو أعادهم المحتَّل عن المعابر لأن رسالتهم ستعبر فوراً وتصِل إلى كلّ رازح تحت الاحتلال- فلنتّجه جنوباً، وثقافيا هذه المرّة، حيث يواجِهُ التراث الجنوبي منفردا الغزوَ الثقافي الإسرائيلي.
10- يوصي المؤتمر بصيانة شخصيتنا الحضارية مع الانفتاح على التجارب الإيجابية. سبيلنا إلى ذلك يكون في صياغة مشروع إصلاحي من أهم معالمه الإيمان بالله والإيمان بحتمية انتصار الخير، وخدمة الناس بدءا بالقاعدة - حيث أن الإيمان الحقيقي يكون بالأفعال لا بالأقوال- وخروج رجال الدين إلى الناس بدل انتظارهم في المساجد والكنائس.
11- إن أساس المشروع النهضوي هو تطوير ثقافة المواطَنَة المدنية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ومبناه الحضاري دولة المؤسسات التي أعمدتها الحرية والمساواة والعدالة، وغايته الارتقاء بالإنسان وصون كرامته.
12- يلتزم المؤتمر الرأي أن غياب الحرية يجعل الفرد يخضع للحجم الذي يقدمه الغاصب للحرية. وإذا كنَا ننادي بحرية الثقافة فحرّيٌّ بنا أن نقرنها بثقافة الحرية. أي الحرية المسؤولة، المسؤولة أمام الخالق وأمام البيئة/ الطبيعة، وأمام الإنسان/ الآخر وأمام النفس/ الذات.
13- يؤكد المؤتمر على توصيات مؤتمرات "كلمة سواء" السابقة، ويطلب من مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات أن يتابع مساعيه الحثيثة لإجلاء الغموض عن قضية إخفاء الإمام ورفيقيه. كما ويحث المؤتمر الهيئات والمنظمات والحكومات ووسائل الإعلام إيلاء القضية الاهتمام الذي يتناسب مع حجم المشروع الثقافي الحضاري الذي أطلقه الإمام الصدر.
14- للإمام الصدر علينا عهدٌ ووعد بأن نستمر كما يشاء، وتبعث "الهوية الثقافية" للإمام السيد موسى الصدر برسالة حريّة تحياتها مفرداتٌ من حوارات الكلمة السواء، مضمونُها الوفاء والمقاومة حتى التحرير، غلافها الصبر ومرارة التظلم، ودلالاتها الحرية ، الحرية، الحرية..!
وعنوان المرسل إليه يعلَمُه كلُّ مَن آمنَ بالحرية مدخلاً لتوكيد هويته الثقافية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته