افتتح مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات مؤتمر كلمة سواء الحادي عشر تحت عنوان "اجتمعنا من أجل الإنسان- الإنسان في رؤية الإمام الصدر"، في قصر الأونيسكو ببيروت صباح يوم السبت الموافق فيه 12 كانون الأول 2009 بحضور دولة رئيس مجلس النواب اللبناني الأستاذ نبيه بري، ومعالي الوزير علي حسين عبدالله ممثلا فخامة رئيس الجمهورية ومعالي الوزيرة منى عفيش ممثلة دولة رئيس مجلس الوزراء، دولة الرئيس السيد حسين الحسيني، سماحة الإمام الشيخ عبد الأمير قبلان، ممثلي ورؤساء الطوائف الروحية وحشد كبير من الوزراء والنواب ورجال الدين والإعلاميين والباحثين والمهتمين ومحبي الإمام الصدر وأفراد عائلة الإمام وأخويه.
قدّم لحفل الافتتاح الشاعر حسين نجيب حمادة، وبعد القرآن الكريم والنشيد الوطني، كلمة الترحيب كانت للسيدة رباب الصدر رئيسة مؤسسات الإمام الصدر، والتي دعت الإنسان إلى استلهام النظام الكوني وحركته، وإلى توخي العدالة في حركته مع ذاته وضمن عائلته ومجتمعه وبيئته. كما استذكرت تعريف الإمام الصدر للإنسان بأبعاده الأربعة: كونه شخص له إرادة حرّة، عضو في مجتمع، جزء من الكون، وهو خليفة الله على الأرض. وفي البعد الاجتماعي وحيث أن المجتمع يصنعه الإنسان عبر الأنظمة التي يضعها، فهو بحاجة إلى هذا الاجتماع نظراً لتفاون طاقات الأفراد وحاجتهم إلى التكامل فيما بينهم، ونظراً إلى عجز أي منهم منفرداً عن مواجهة التحديات والأخطار الكبرى، كما إن الغايات السامية تحتاج إلى تضافر الجهود وتعاون الجميع لإنجازها.
- كلمة الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير ألقاها المطران شكرالله الحاج
...واستهلها متمنياً أن تنجلي قضية الإمام الصدر حتى تستقيم الأوضاع، ومعرباً عن تقديره الشديد للطائفة الشيعية التي تفتقد بتغييب الإمام الصدر مرجعاً كبيراً وشخصية وطنية استقطبت باستشرافها المستقبل كافة المفكرين والسياسيين والساعين إلى حفظ كرامة الإنسان، هذا الإمام الذي تضاعف وهج قامته مع التغييب بعكس ما توخى الفاعلون.
وتابع بأن في رؤية الإمام الصدر الكثير عن الإنسان والإنسانية حيث أن فكره إنساني، وممارساته عملية صنعت أجيالاً من القارئين والمحبين من مختلف الأديان. ثمّ تناول أبعاداً ثلاثة في رؤية الإمام الصدر لمحورية الإنسان:
1. كرامة الإنسان، من خالقه ومن ذاته بصفتها ذاتاً حرة وأصيلة ، وما الدين إلاّ ثورة إنسانية على الظلم والاستبداد...
2. يقوم خير الإنسان في مجتمعه ضمن قيم الحق والعدالة والمساواة والتضامن. وهو لا يكون إنساناً إلا مع الآخرين. والذات الحرة الواعية ترتبط بقوة بأخوة لها في الدين أو نظراء لها في الخلق. والإنسان له حقوق وعليه واجبات بحكم علاقته بالغير. والإمام الصدر استغرب وجود المحرومين في أحزمة البؤس كونها تمس كرامة الإنسان واحترامه، لهذا رصد أوضاع لبنان وقرأ ما خلصت إليه بعثة إرفد، وحذر من التصدعات التي يعاني منها.
3. لبنان هو الوطن النهائي لجميع أبنائه حسب فكر الإمام الصدر، ويصمد الوطن كلما سادته العدالة. لهذا، صلّى الإمام الصدر وصام ... آمن بالحوار، ونسج العلاقات مع كل التوجهات، وطمح في لبنان الواحد نموذجاً حضارياً لحل القضية الفلسطينية ولتفعيل الحرية والديمقراطية في البلاد العربية. أراد تطوير النشاطات الإقتصادية لتثبيت الناس في أرضهم، كما رفض أن يكون لبنان ملهى أو ملعب، بل دولة رصينة، منيعة، قوية ومقاومة.
كلمة سماحة مفتي الجمهورية الشيخ محمد قباني ألقاها الشيخ هشام خليفة
وجاء فيها أن عنوان المؤتمر يختزن الكثير من المعاني. فكرامة الإنسان موهوبة له منذ الأزل ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾، وتأكدت هذه الكرامة في كل الشرائع السماوية. من هنا كانت رؤية الإمام مطابقة لرؤية الإسلام للإنسان وهي ترتكز على أسس ثلاثة:
1. الأصل في الإنتماء الآدمي واحد، "كلكم لآدم وآدم من تراب"
2. لا تمايز بين بني البشر بسبب الإعتبارات الخلقية والتكوينية والجنسية
3. المساواة الكاملة لناحية الحقوق والواجبات.
إن مفردات رؤية الإمام الصدر مستقاة من الرؤية الإسلامية. وهي في ضرورة أن نجتمع من أجل الإنسان وحقوقه وصيانتها وحفظ كرامته. وهذا يستدعي حفظ الثوابت الخمسة: حفظ العقل ( من هنا تحريم كل ما يذهب بالعقل)؛ حفظ النفس (تحريم القتل والإجرام والإنتحار)؛ حفظ المال والملكية (تحريم السرقة والربا)؛ حفظ النسل(تحريم الزنا وتشريع الزواج)؛ حفظ الفكر والعقيدة (تحريم الإكراه الفكري والعقائدي).
وختم بضرورة السعي إلى الالتفاف حول هذه الثوابت كونها ثوابت مشتركة يمكن الانطلاق منها للتحاور حول نقاط الخلاف.
كلمة غبطة بطريرك الروم الارثودكس اغناطيوس الرابع هزيم ألقاها الأب إبراهيم سعد
وجاء فيها أن الإمام الصدر هو مصدر إشراقات صادرة عن قلبه وعقله، مضيئة للإنسان بغض النظر عن عقيدته وإنتمائه. صرخ صرخة الفقراء "من أراد النجاح عليه أن يهاجر عن ذاته نحو الآخر، يتحسس الحق حيث يلقاه".
إنطلق من الإسلام، وغدا مفكراً إنسانياً وهاجسه دائماً الإنسان. طالما كانت القيم الإنسانية الكبرى تتصل بالمواطنية. عندها يتسع الوطن لكل الناس، إذ لا يبرر قيام بلد إلا أن يحمل رسالة، وغاية أي رسالة هي الإنسان. من هنا أهمية التحول من إمتهان الأخذ إلى إمتحان العطاء. ومن لا يؤمن بالإنسان وخير الإنسان لا يؤمن بالله، والعبادة المكتفية بنفسها رياء. وختم مذكراً بأن السيد موسى الصدر كان مندفعاً نحو جبل عامل "مما زاد تعلقنا بهذه المنطقة الغالية من لبنان".
الشيخ غسان الحلبي ألقى كلمة سماحة الشيخ نعيم حسن شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
ومما قاله أن الإمام الصدر ليس صوتاً أو تراثاً أو حكاية، ليس غياباً أو أثراً وليس كلمات ألقيت ذات يوم...هو "ليس حلم ملكوت السموات، بل حقل التحقق الإنساني للمستضعفين" بما فيه من كرامة وحرية وعدالة. كان الإمام شديد الإفصاح في حديثه عن الإنسان وإنسانيته، والنسيج الأساس لمشروعه وحركته هو الإنسان. وهذا واضح في كل حاله وحركته وفكره وهي حالة لم يحاصرها ولع سلطة ولم يضعفها وله بمجد باطل، ولم يفتنها حب الأنا، بل هو مثل الغيث مادة لكل الفصول. وهو لم يدخل قلوب الناس بموقعه الديني، بل بإنسانيته، إذ أنّه "مثل ريحٍ لاقحٍ في كل قرية عاملية وفي كل قرية جردية". كان حاضراً في عين آلام الناس، فحقق تماساً مع الضمائر والنفوس.
التخلف ليس قدراً والإذعان للطغاة ليس فضيلة. ومن إستشرف آفاق الإمكان للإنسان يتحرر من كل القيود الطائفية. لهذا كان الإمام الصدر خطيباً فوق منبر لبنان الواحد، ولم يعتصم بمطلب مناطقي، فمنطقته المعروفة هي لبنان بأمدائه العربية والإنسانية. بلد الإنسان حيث بالإمكان سماع النداءات الإنسانية الأصيلة. فالكيان النهائي متجسد في الإنسانية، ولا إيمان بدون الالتزام بخدمة الإنسان.
غبطة بطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام تمثل بالأب غابي هاشم
استهل بأن تعاليم المسيحية تقول بأن الإنسان هو موضوع حب الله. "خرج الإنسان من قلب الله وإلى هذا القلب يعود". وتابع بعد أن استذكر مقاطع من خطبة الإمام الصدر في كنيسة الكبوشيين قائلاً بأن الإمام الصدر فقه سر الله والأديان والإنسان على أفضل وجه.
...أما عندما ننظر إلى الإنسان في هذا الشرق الجريح، ينفطر فؤادنا لما آلت إليه أحوال الناس من فقر ومعاناة وحرمان ناهيك عن فشل الأنظمة وتهميش الإنسان ورأيه وحرمانه من المشاركة. وطالب بتحقيق السلام العادل والعدالة الاجتماعية، وحفظ حقوق الفرد وتلبية كافة حاجاته. كما دعا إلى التعاضد في سبيل الإنسان، في العراق ولبنان فلسطين، وحيثما كان. وختم بأن هناك تحديات تواجه المسيحية والإسلام في سعيهما لنشر نور الله سيما في هذا العصر المادي وحيث الظلم والإرهاب والنزعة إلى المصلحة الفردانية والذاتية.
سماحة الشيخ عبد الأمير قبلان نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى خاطب الإمام الصدر مباشرة؛ قائلاَ:
"سيدي أبا صدري..
جئناك لنسلم عليك، ونقرأك من خلال مقالاتك وخطاباتك وتوجهاتك.
أخي! فقدناك في أحلك الظروف، ولكنك ستبقى في حنايانا، في قلوبنا، في فكرنا، في حياتنا.
أبا صدري!
تغيرت البلاد ومن عليها بغيابك. ولكنك يا أخي حاضر موجود مستمر. نذكرك في الحفلات في البيوت وفي الندوات.
ولا يذكر الإنسان إلا بتاريخه المضيء. وأنت مضيء ونير.
نجتمع اليوم في ذكرى المباهلة. يوم باهل النبي أهل نجران والنصارى.
يوم دعا الجميع ... إلى الحوار والتفاهم والتشاور.
لذلك نقول لك، يا من نحب ونحترم ونقدر ...
كنت واضحاً في سلوكك... محباً للناس، قريباً منهم.
لم تجارٍ... همّك الإنسان وأن يعيش سعيداً.
شاهدناك في صور، تنتقل لتدخل السرور إلى قلوب الجميع.
نظرت إلى الإنسان من خلال إنسانيته وليس عبادته.
نقول لك: تغيرت البلاد. الجميع يطالبون بالمعتقلين والمغيبين، مجلس الأمن معطل. هيئة الأمم لا تسمع بالمظلومين. نحن معك في حلك، وترحالك، في وجودك وغيابك.
نقول للبنانيين، الإمام الصدر حجر الرحى، فعلينا أن نطالب به ونصر على الكشف عن قضيته. موت قضيته موت القيم في الإنسان.
وختم بمطالبة الحكومة اللبنانية الجديدة بتشكيل هيئة جديدة تتابع تنفيذ ما جاء في بيانها الوزاري. هيئة تحرر الإمام ورفيقيه، وتعطي الإمام حقه بالإهتمام.
الكلمة الأخيرة في جلسة الافتتاح كانت للإمام الصدر، لصوته وصورته. حيث جرى بث مقتطفات من خطبته الشهيرة في كنيسة الكبوشيين يوم الثامن عشر من شباط 1975. سيما الفقرات المتعلفة بكرامة الإنسان وما أنزل الله من أديان في سبيله. فساعدته في الخروج من الظلمات إلى النور، عندما كانت تلك الأديان تسعى إلى الهدف الواحد. أما حين اختلفت بعد أن سعت إلى خدمة نفسها بدأت محنة الإنسان. حينها استدرك طغاة الأرض وسارعوا إلى الحكم باسم الدين.
بعد الجلسة الافتتاحية، كان هناك جلستان مسائيتان استندتا بمجملها إلى مفردات المشروع الذي أطلقه الإمام الصدر، قولاً وممارسة. وهو المشروع المبني على محورية الإنسان، موضوع التنمية وغايتها.
تناولت مداخلات الحاضرين الأبعاد المختلفة لأزمة الإنسان المعاصر في محاولاته صياغة الحلول المناسبة للارتقاء بنوعية حياة الإنسان ولحفظ حقوقه في الوجود والاطمئنان، وحقوقه في صيانة هويته وكرامته. سيّما وإن إحساس الإنسان بالكرامة هو المنطلق لعملية النهوض والبناء.
فقد استعاد المؤتمرون طروحات الإمام الصدر ورؤيته للإنسان والحرية والكرامة، بصفته إمام التواصل في دعواته إلى حوار الحضارات والتقارب بين المذاهب، وتحديداً مقارباته للآخر وللاختلاف وللحوار. وتأكيده أن الإنسان هو مبدأ المجتمع والغاية منه، فهو مجتمع إنساني لا فردي ولا جماعي؛ وأن الحرّية هي أفضل وسيلة لتجنيد طاقات الإنسان، وهي اعتراف بكرامته وصيانة لها؛ في حين أنّ تجاهل آلام الناس وحاجاتهم هو نوع من الكفر، وصور أخرى من الإلحاد.
وقائع الجلسة الأولى
ترأسها الشيخ سامي أبو المنى وقال إن الإنسان لا ينفصل عن المجتمع والوطن. حركة الـ 70 توجهت الى كل اللبنانيين وكان لديها رؤية متقدمة للوطن والإنسان. وليس صدفة غياب الإمام الصدر بعد مقتل كمال جنبلاط كأنما بذلك تم إفساح المجال للتطرف والطائفية. فالطائفية غير التدين، إذ التدين هو الإنفتاح على الأديان الأخرى.
اعتبر الشيخ أبو المنى أن لقاء اليوم هو لتكريم اولئك القادة المعتدلين. ثم انتقل إلى موضوع الجلسة واستذكر مقتطفات من كلام الإمام الصدر ومنها أن الإنسان محور الوجود وسره (...) الإنسان مخير في أعماله، مسيّر في كونه جزءاً في نظام الكون. والدين يرفع الإنسان من مستوى العلم الى مستوى الحكمة، لهذا كان الدين والإنسان في تناغم وتحقق مستمرين.
أول الباحثين المتحدثين كانت الدكتورة سعاد الحكيم ، واستعرضت موقع الإنسان ومسؤولياته تبعاً لما رآه الإمام الصدر وعمل به. فوجدت أن مسؤولية الإنسان الأخلاقية والدينية مبنيّة عند الإمام الصدر على فكرة الخلافة (الخليفة في الأرض = الإنسان). يترتب على ذلك عدة نتائج أهمها (إستقلال الإنسان وحرية التصرف، المحاسبة في الثواب والعقاب، المسؤولية شرف للإنسان، الخلافة ماهيَة وموقع ووظيفة إذ الخلافة مرادفة للأمانة، والمسؤولية الدينية هي –ختاماً- أم المسؤوليات).
أما عن مجالات المسؤولية حسب الإمام الصدر، فإنها فرض عيني حيث الإنسان - كل إنسان- مسؤول عن أعماله وعن أعمال غيره. فالإنسان مسؤول عن نفسه، وعن كل أعماله حتى التافهة مما يشير الى أهمية الإنسان وجعله يفخر بالمحاسبة، كون كلّ أعماله وتصرفاته لها وزن وحساب. أهم تجليات هذه المسولية الحرص على حفظ النفس والسعي لتحقيق الإكتفاء الذاتي بالتعارف حتى تكتمل لعبة الأخذ والعطاء؛ والمجال الثاني للمسؤولية هو مسؤولية الإنسان عن غيره: إما مباشرة عبر تأدية الحقوق، أو غير مباشرة عبر التوعية والإرشاد (العالم مسؤول بعلمه، وغير العالم مسؤول لعدم علمه). المجال الثالث هو مسؤوليته عن الأرض وكائناتها (مسؤولية بيئية...) والمجال الرابع والأخير هو مسؤوليته عن حركة التاريخ أي عن التطور، حيث المساءلة عن الكسل، الكذب، أو عدم الاهتمام بتكوين المجتمع الصالح.
في القسم الثالث من بحثها، استعرضت الباحثة بعض صُوَر المسؤولية حسب الإمام الصدر.فقالت أنه: 1 -عمل بما علم وبما علّم؛ 2. حمل مسؤولية إنتاج معرفة ضرورية للإصلاح؛ 3. مارس التوعية والإرشاد في الكتابة والخطابة والجلوس للناس؛ 4. بذل الجهد في المساعدة على النهوض.
ثم ختمت بتحديد أثر رؤيته للمسؤولية على رؤيته للإنسان عبر ثلاثة زوايا: الزاوية 1. إحترام الإنسان ( كائن واجب الإحترام بدون تفرقة..)؛ الزاوية 2. إيمان بالعامة وليس النخبة فقط؛ والزاوية 3. تفاؤل بانتصار الخير.
هذا، وتعقيباً على مطالبة بعض الحضور بتضمين المنهج الدراسي والمقررات الجامعية أفكار وسيَر القادة العظام، لاحظت الدكتورة سعاد الحكيم أن الإمام الصدر لم يحظَ بعد بدراسة وافية لنقل فكره من إطار الثقافة الخاصة إلى الثقافة العامة، سيّما وأن نصوصه حرّة . وما يساعد في تحقيق هذا المشروع هو أن رؤية الإمام واحدة وثابتة.
وتحت عنوان " لبنان والانسان في رؤية سماحة الامام موسى الصدر"، تحدّث المحامي رشاد بولس سلامة، فرأى إنه خير من أن يكتب المرء فـي الامام موسى الصدر أن يقرأ ما كتبه الامام، إذ "لا أحد يستطيع أن يرقى الى المستوى الذي بلغه بخاصّة موضوع الانسان أو "قضية الانسان"، او "الانسان القضية". وعن الانسان في الاسلام، يقول الباحث بأن الاسلام يسعى الى تكريم الانسان، خليفة الله، وأنّه يعترف بجميع جوانب وجوده، ويهيئ الجوّ الملائم لنموّ مواهبه، وإعزاز كرامته عبر التربية والترقّي. ويتابع بأن الإسلام اشترط للمجتمع شروطاً رافضاً أن يكون مجتمعاً "شخصانياً" قاصداً بذلك الجانب الاجتماعي من حياته، وما فيه من القيم الاجتماعية والانسانية والوطنية، وأهمها الحرية والاستقلال. كما أن المجتمع - في الاسلام - يتكوّن من الانسان كله، بدون امتياز فيه لفرد، ولا لطبقة، ولا لعنصر أو فئة "حتى ولا أكثرية دون أقلية، ولا العكس". وما تمايز الشعوب في الاسلام إلاّ للتعارف، وللتبادل والتعاون، أي للتكامل في البعد الانساني كنتيجة.
وفي قراءته لرؤية الامام الصدر في القيم السماوية الجامعة، والمبادىء الوطنية، ووحدة المثل الانسانية، يرى الباحث أن إتصالات الإمام مع ابناء الطوائف الاخرى، وتعاونه معهم حول الاهداف المشتركة، هو من صميم الدين، وليس تنكّراً لمبادئه. وذلك في اطار حرصه على ترسيخ الوحدة الوطنية، كهدف سامٍ يستمد منه لبنان أحد أسباب تميّزه. لهذا جعل الوحدة الوطنية هدفاً محورياً لطبيعة دوره. "عناية الله جعلت تعددية المجتمع اللبناني تعددية متكاملة لا متناقضة". وتابع بأن الامام الصدر لم يعلّم بالكلمة وحدها بل علّم بالدور والممارسة، وبالمثال الشجاع خصوصاً، واستشهد بعظة الامام الصدر في كنيسة الكبّوشية التي "لم تكن كلاماً رائعاً معدّاً لمناسبة بعينها، بل كانت نظرية فلسفية متكاملة تختصر واقع هذا الوطن، وتحدد حاجاته، وتقدّم نموذجاً راقياً لفكر كان ليتكفّل وحده بدحض مذاهب المنظّرين لطبيعة الازمات في هذا العصر، وزعم هؤلاء أنه موعد البشرية مع صراع الاديان، وصدام الحضارات!!"
الجلسة الثانية
في الجلسة الثانية , والتي أدارها الأستاذ لؤي شرف الدين نيابة عن الأب الدكتور جورج مسوح، تحدث د. محمد منير سعدالدين تحت عنوان: إنسانية الطفولة والشباب في الفكر التربوي للإمام الصدر، وقال إنّ الإمام ينزع للتغيير والإجتهاد، فكان في حالة كفاح مستمر ضد الجهل والفقر والمرض والمحتل الغاصب، وجعل الناس الذين كانوا خارج وعي حقوقهم يتكلمون.
تقوم أساسيات منهج التربية الإسلامية على عدَة أسس أبرزها تصور الإسلام للإنسان كونه خليفة، أي مستقل، حرَ ومسؤول. وأن "يعلَم آدم الأسماء كلها" فهذا بعكس الإمكانيات الهائلة للإنسان. أما "سجود الملائكة لآدم" فهو إشارة إلى أن الإنسان هو سيد الكائنات.
الإنسان الطفل يجد في أبويه القدوة والمثال، من هنا أهمية مسلك الوالدين. والإمام الصدر تخوَف من الهوَة التي تفصل بين جيل الأباء وجيل الأبناء. وأرجع السبب إلى سيادة المعايير المادية والإستهلاكية كأنما المجتمع شركة تجارية تضم شركات أصغر بإسم الأسرة والطبقة والأمة. يرى الإمام الصدر أن تربية الطفل تعادل رسالة الإنسان في حياته، دون أن يغفل أهمية العمل كقيمة مطلقة تقرب الإنسان من تكامله وكماله.
أما الإنسان الشاب، يتابع د. سعد الدين، فهو العامود الذي يقوم عليه بناء الأمة. والشباب هم آباء وأمهات الغد، وهم درع الأمة وأملها. ثم يستعرض الباحث المخاطر التي تواجه الشباب حسبما شخصها الإمام الصدر، فمنها أن الأبوين فوضوا الكثير من واجباتهم ومسؤولياتهم إلى خدم المنازل، وأبرز تلك المخاطر الإنفلات الجنسي الناجم عن الإستغلال التجاري والإثارة، والتي حرفت الجنس عن وظيفته الطبيعية والأساسية نحو وظائف مغرضة... من مضاعفات ذلك الوضع: القلق وتفكك المجتمع بعد انفكاك الرباط العاطفي وانفصال الأجيال عن بعضها. وقد اقترح الإمام الصدر بعض العلاجات كأن توضع مشاريع مدروسة للتربية الدينية، ويخصص أسبوع للأخلاق، وتتخذ تدابير زجرية بحق المتفلتين، ويشكل مجلس وطني للأخلاق.
عن المسؤولية الإجتماعية للإنسان في فكر الإمام الصدر، تحدث د. طلال عتريسي، مستهلاً بتعدد المدارس الفلسفية حول المسؤولية الإجتماعية، ومبيناً ما تميز به الإمام الصدر لناحية تفسيره المسؤولية الإجتماعية تبعاً للواقع الذي يعيشه المسلمون في لبنان. فقد رأى الإمام الصدر تلك المسؤولية من خلال: الخلفية الدينية والأخلاقية؛ وعبر شمولية المنظور (الأبعاد الروحية والجسدية ومسؤولية الإنسان تجاه ذاته والآخرين)؛ ثم الربط بين المسؤولية الإجتماعية والعمل على بناء المجتمع؛ وأخيراً عدم التمييز بين المرأة والرجل في تحمل المسؤولية الإجتماعية.
كما إنّ المسؤولية الإجتماعية لا تنفصل عن كرامة الإنسان وحريته، ولا عن العدالة الإجتماعية والإقتصادية. عن البعد الأول، وحيث أن الإنسان هو خليفة الله على الأرض، فهذا تكريم وإستقلالية أو تخيير يرفعان من مستوى المسؤولية ويعطيان القدرة على محاصرة "حب النفس". هذه القدرة على "الترك" هي من أبرز تجليات الكرامة الإنسانية، إضافة طبعاً إلى ارتباطها بخدمة الإنسان.
الكرامة الإنسانية لا تنفصل عن حريته أيضاً. فلا يُعقل - حسب رؤية الإمام الصدر- أن يكون الإنسان مسؤولاً ما لم يكن حُراً وهو يركّز على الربط بين المسؤولية الإجتماعية والتحرر من الظلم والإحتلال كما تؤكده سير الأنبياء والمصلحين والقادة في التاريخ قديمه وحديثه. كما لا تتحقق المسؤولية الإجتماعية إلا من خلال المجتمع، وهي تتم بطريقة تبادلية بين الأفراد، وتهدف إلى بناء المجتمع الإسلامي. أيضاً، من المفاهيم المتلازمة مع المسؤولية الإجتماعية، العدالة. وبالنسبة للإمام الصدر ليس ثمَة من إيمان لا يُثمر عدالة في حياة الفرد والمجتمع وذلك باعتماد معايير الحق والأمانة والإنصاف. ويذهب الإمام الصدر إلى أن العلاقات البشرية تعتمد على أساس الكمال البشري.
على مستوى الأمة، تتصل المسؤولية الإجتماعية بمهمة التصدي الى تغيير أحوال الأمة نحو الأفضل، ولو استعرضنا التجربة الشخصية للإمام الصدر، لوجدناه: 1) رافضاً واقع الغبن والحرمان، ساعياً الى رفعه؛ 2) محاوراً لكافة الطوائف والتوجهات؛ 3) مواجهاً لإسرائيل، مساهماً في بناء مقومات المجتمع المقاوم؛ 4) كونه أساساً رجل الدين، سنجده نموذجاً مختلفاً ومسؤولاً إجتماعياً في أفعاله وأقواله.
ويلخص د. عتريسي بأن الإمام الصدر دمج في رؤيته لمسؤولية الإنسان بين أبعاد عدة. بين خلافة هذا الإنسان من المنظور الديني، وبين الكرامة التي أعطيت له لتحقيق هذه الخلافة. ولم يفصل بين المسؤولية وبين الحرية. إذ يستحيل على من كان أسيراً لهواه أو للظلم والطغيان أن ينهض للقيام بمسؤولياته الاجتماعية بالتعاون مع الآخرين. واعتبر الإمام أن المسؤولية الاجتماعية هي عملية تربوية تبدأ في حضن الأسرة. وأن هذه المسؤولية لاحقاً هي تفاعل مشترك بين الفرد وبين الجماعة، كل يقوم بدوره تجاه الآخر، لتحقيق العدالة الإنسانية.
+++
تجدر الإشارة إلى ورود العديد من المداخلات والتوصيات من قبل الباحثين والمشاركين، ممّا دفع المنظمين إلى تأجيل إصدار البيان الختامي. وهذا ما لفت إليه رئيس الجلسة في نهاية المؤتمر إذ أكدّ أن البيان الختامي هو قيد التداول والتشاور. وأنه سيوزّع على وسائل الإعلام فور إقراره في غضون الأيام القليلة القادمة.