مثله فضيلة الشيخ غسان الحلبي
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين.
ممثل فخامة الرئيس،
دولة الرئيس،
ممثل دولة رئيس الحكومة،
أصحاب المعالي والسيادة،
حضرات المشايخ والآباء الأفاضل،
حضرة الحفل الكريم،
تحيات سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن في هذه المناسبة الكريمة.
الإمام الصدر ليس صوتًا نسمعه، ولا حكاية نرويها، وليس بالطبع تراثًا ليدَرس من الكتب.
ليس غيابًا نستذكره، ولا أثرًا نستعيده، وليس بالطبع كلمات ألقيت ذات يوم وزمان لنقرأها.
إنه لحظة الحياة كأنها لا لتخبو في زمن، ولا لتغور من المشهد،
لحظة مشحونة بطاقة الوعي حولتها طبيعة الرجل إلى فعل، هو الشهادة عينها بأن للمستضعفين في الأرض، ليس فقط حلم ملكوت السماوات، بل حقل التحقق الإنساني كاملًا بالحرية والعدالة والكرامة والمعنى الذي ليس بيد أي طاغية، ولا في حوله وصوله، طمس وهجه وقوة حضوره في الفطرة البشرية المودوعة من الله في سر خليفته على الأرض.
إننا بحديثنا عن "الإنسان في رؤية الإمام الصدر" كمن يشرك ببساطة الوضوح نصًا مركبًا. كان الإمام واضحًا شديد الإفصاح والوضوح خصوصًا لدى حديثه في الإنسان وإنسانيته. بل، وفي العمق وكنه المقصد، فإن النسيج الأساس في كلامه وأفعاله ورؤيته وحركته هو الإنسان، كمثل حبة البر في رغيف.
يخطئ المرء لو يبحث عن تلك الرؤيا في سود الصحائف وحسب، بل هي في كل حاله –حال الإمام- دارسًا عالمًا، متعبدًا، إمامًا باحثًا، رائيًا، مصلحًا، ثائرًا، محاضرًا، مناضلًا، مقاومًا، حسينيًا، وشهيدًا حيًا، باختصار الإمام الصدر إنسان كبير بإنسانيته التي لم يحاصرها ولع بسلطة، ولم يوهن كينونتها مجد باطل، ولم يصرفها عن مقاصد الرسالة هوىً دنيويًا، ولم يفتنها عن رؤية منافع الناس حب "أنا" ، بل كان كمثل غيث امتد إلى الجذور في جوف الأرض وفي سره الطبيعي مادة كل الفصول.
لم يحمل الإمام الناس بعلمه وموقعه الديني، بل بإنسانيته التي لم تستقر آمنةً داخل جدران المؤسسات التي كان له فضل الحث على إنشائها. ها هو كمثل ريح لاقح في كل قرية عاملية يوم كان البعض متحصنًا خلف ضعفه، وفي كل قرية جردية يوم كان البعض يوطد كرسيه في جمهورية "الطفار" – ليلهم الناس الإنابة من الركون في حال الفقر والحرمان والإستضعاف، إلى النهوض بعزم الرجال الرجال لبناء مقومات وطن. وهذا يعني ماهية علم الاجتماع إصلاحًا جذريًا للارتقاء بالمجتمع من المستوى السكوني الآسن إلى المستوى الإنساني الفاعل.
ولأنه كان حاضرًا في عين آلام الناس وقضاياهم المنسية حضور أب وأخ وقائد فإنه حقق التماس في الضمائر والنفوس، وهو التماس أحيا أمة باستنهاضها من كبوتها، وإرشادها إلى سبل تحررها، وإنباهها من تسليمها لواقع التخلف والإستنقاع. فأي مدى للإنسان أكثر أهمية من وعيه المتأجج في الصدر بأن التخلف ليس قدرًا، وبأن الإذعان للطغاة ليس فضيلة، وبأن الغفلة عن الحق هي عين الباطل؟
إنه لا يمكن لمن استشرف آفاق الإمكان الإنساني في حقيقته أن يأنس في الكهوف الطائفية، أو أن يتدرع المذهبية صونًا للمصالح والمنافع الفئوية. وحاشا الإمام الصدر من هذا التلميح. ها هو كمثل ذخر وطني جامع محاضرًا في كنيسة، ومنتديًا في صروح الثقافة الشاملة، وخطيبًا فوق منبر لبنان الواحد، بل صديقًا يعتز بصداقته والحوار معه هذا الزعيم وذاك الرئيس وذلك المثقف أو الفيلسوف أو المؤرخ. لم يعتصم الإمام نصرةً للمطالبة بمكسب مناطقي. منطقته المعروفة فوق رؤوس الأشهاد هي لبنان بأمدائه العربية والإسلامية والدولية. اعتصم نصرةً للضحايا الذين سقطوا، وللضحايا الأحياء الذين هيىء لهم الميدان أن يسقطوا. هذا شعور إنساني عارم، لا يفرق بين هذا الحزب أو ذاك، ولا بين هذه الطائفة أو تلك، كان يرى لبنان كما سماه: بلد اللقاء، هذا يعني بلد الواحد والآخر. فإذا كانت الفردانية المنعزلة بأناها لا تقيم إنسانًا، فإنه باللقاء الطيب مع الآخر تشع الإنسانية مكرمةً من الله سبحانه وتعالى: ﴿وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾. لذلك، سمى الإمام الصدر لبنان أيضًا: بلد الإنسان، حيث بالإمكان سماع النداءات الأصيلة السماوية لأننا نقترب فيه من الينابيع. وهذا درس نفهم منه أن "الكيان النهائي" متجذر في الإنسانية على النقيض تمامًا من كل نزوع عنصري سواء أكان سياسيًا أم طائفيًا أم شعوبيًا.
"الإنسان هدف الوجود، وبداية المجتمع، والغاية منه، والمحرك للتاريخ... ولا إيمان دون التزام بخدمة الإنسان... ولا جماعة فاعلة دون حريات..." هذه معادلات قالها الإمام استتباعًا لمسلكه وأدائه وفعل إيمانه الذي جسده في أرض الواقع. لذلك، فإنه في ضوء هذه الثوابت الراسخة في علمه وعمله، أدرك الإمام فورًا، بوضوح البصر والبصيرة، أن العدو لهذه الفسحة الإنسانية الفريدة هو الكيان الغاصب العنصري القائم فوق أرض فلسطين. واسمحوا لي أن اقول إنه نفخ في طين الوطن روح المقاومة.
لا يأنس الطغاة إلا بأناهم، لذلك فهم عديمو القدرة على استشعار رؤية إنسانية حية، بل هم على النقيض من أولئك الذين تأخذهم أحلامهم إلى عين الحياة.
والإمام، برؤيته الإنسانية التي عاشها في قلوب الناس وعقولهم، بل وفي عزمهم ودمهم، يبدو أنه أصاب كبد العلة التي بعلاجها تبنى الأوطان، لذلك، هم غيبوه، فلا نغيّبنه نحن جميعًا في لبنان. لا نغيّبنّ مقاربته الجامعة، ورؤيته الإنسانية الشاملة، ومعنى التزامه بالمحافظة – كما قال – "على وطننا لبنان، الذي يُحفظ- والكلام للإمام- لا لله ولا لإنسانه فحسب، بل يجب حفظه للإنسانية جمعاء. إن الحفاظ على إنسان لبنان- كما قال أيضًا هذا الرائي الكبير هو - حفاظ هذا البلد أمانة التاريخ وأمانة الله".
وشكرًا.