بتاريخ 18/2/1975 يصعد إمام مسلم على مذبح كنيسة يلقي عظة الصوم، ليختصر مسافات من الصراع الطائفي، ويعيد بعضًا من ألق الأمل في وطن الإنسان. وما زال خطاب الإمام الصدر في كنيسة الكبوشيين يطغى على صوت الاقتتال الحاصل ناسجًا من تلاقي الأديان في لبنان ميزة حضارية أمّن الله عليها بنيه.
مقطع من عظة الصيام للإمام السيد موسى الصدر في كنيسة الآباء الكبوشيين- 18 شباط 1975 بمناسبة الصوم الكبير، كان اللبنانيون على موعد مع مشهد مهيب: يصعد إمام مسلم على مذبح كنيسة في لبنان، مصلٍّ وواعظٍ. صلاة الإنسان مع نفسه. وصلاة الإنسان مع الله. في 18 شباط 1975 في كنيسة الآباء الكبوشيين وبمناسبة الصوم الكبير، تكلّم الإمام الصدر عن الأديان ووحدتها، وعن الإيمان، وعن الإنسان -أمانة الله على الأرض- الذي يجب أن يكون الاجتماع دائمًا من أجله. كانت تلك لحظة إنسانية إستثنائية أغنتْ التجربة اللبنانية في التعايش، وأثبتت أن لبنان متميز بتجربته الذي يجب ان تكون نموذجا للعالم يقتدى بها كقيمة إنسانية حضارية. كان موقفًا من سلسلة مواقف تسم سيرة الرجل ومسيرته.
تعريف حسين نجيب حمادة:
هو صوته يلج القلوب ورأيه كالشمس معصوم عن الإبهامِ، هو صوته الآتي من الماضي على أرياش أجنحة من الأنسامِ، هو صوته لا صوت يشبهه ولا لسواه كان السبق في الإقدامِ، هو علّم النهر الهدير وزفّ أجنحة النسور حلاوة الآكامِ. مع مقطع من خطبة للإمام الصدر صوت وصورة:
كلمة الإمام موسى الصدر:
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم ربنا على أن وفقتنا بعنايتك، وجمعتنا بهدايتك، ووحدت قلوبنا بمحبتك ورحمتك. وها نحن نجتمع بين يديك في بيت من بيوتك، وفي أوقات الصيام من أجلك. قلوبنا تهفو إليك، وعقولنا تستمد النور والهداية منك، معتبرين أنك دعوتنا إلى أن نسير جنبًا إلى جنب في خدمة خلقك، وأن نلتقي على كلمةٍ سواء لأجل سعادة خليفتك. فإلى بابك إتجهنا، وفي محرابك صلينا.
اجتمعنا من أجل الإنسان الذي كانت من أجله الأديان، وكانت واحدة آنذاك، يبشّر بعضها ببعض، ويصدّق أحدها الآخر، فأخرج الله الناس بها من الظلمات إلى النور بعد أن أنقذهم بها من الخلافات الكثيرة الساحقة والمفرّقة، وعلّمهم السلوك في سبيل السلام.
كانت الأديان واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد دعوة إلى الله وخدمة للإنسان، وهما وجهان لحقيقة واحدة. ثم اختلفت عندما اتجهت إلى خدمة نفسها أيضًا، ثم تعاظم اهتمامها بنفسها حتى كادت أن تُنسى الغاية، فتعاظم الخلاف واشتد، فازدادت محنة الإنسان وآلامه.
كانت الأديان واحدة تهدف إلى غاية واحدة، حرب على آلهة الأرض والطغاة، ونصرة للمستضعفين والمضطهدين، وهما أيضًا وجهان لحقيقة واحدة. ولما انتصرت الأديان وانتصر معها المستضعفون وجدوا أن الطغاة غيّروا اللبوس وسبقوهم إلى المكاسب، وأنهم بدأوا يحكمون باسم الأديان ويحملون سيفها؛ فكانت المحنة المتعاظمة للمضطهدين، وكانت محنة الأديان والخلافات فيما بينها، ولا خلاف إلا في مصالح المستغلين.
كانت الأديان واحدة، لأن البدء الذي هو الله واحد، والهدف الذي هو الإنسان واحد، والمسير الذي هو هذا الكون واحد. وعندما نسينا الهدف وابتعدنا عن خدمة الإنسان، نسينا الله وابتعد عنّا، فأصبحنا فرقًا وطرائق قددًا، وأُلقي بأسنا بيننا فاختلفنا، ووزعنا الكون الواحد، وخدمنا المصالح الخاصة، وعبدنا آلهة من دون الله، وسحقنا الإنسان فتمزق.
والآن نعود إلى الطريق، نعود إلى الإنسان ليعود الله إلينا؛ نعود إلى الإنسان المعذَّب لكي ننجو من عذاب الله. نلتقي على الإنسان المستضعف المسحوق والممزق لكي نلتقي في كل شيء، ولكي نلتقي في الله فتكون الأديان واحدة.
ها هو السيد له المجد في محبته الغاضبة يصرخ: "لا! لا يجتمع حب الله مع كره الإنسان". فيدوّي صوته في الضمائر، فيرتفع صوت آخر لنبي الرحمة: "ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانًا وجاره جائع". ويتفاعل الصوتان عبر الزمن، فإذا بالصدى يرتفع على لسان الحبر الأعظم وبمناسبة الصيام أيضًا، فيقول: "إن المسيح والفقير شخص واحد"...
وإذا كان الإيمان، ببعده السماوي، يعطي الإنسان اللانهائية في الإحساس، واللانهائية في الطموح، وإذا كان الإيمان، ببعده السماوي، يحفظ للإنسان الأمل الدائم، عندما تسقط الأسباب، ويزيل عنه القلق، وينسق بينه وبين بني نوعه من جهة، وبينه وبين الموجودات كلها من جهة أخرى؛ إذا كان الإيمان، بهذا البعد، يعطي الإنسان هذا الجلال وهذا الجمال، فإن الإيمان ببعده الآخر يسعى لصيانة الإنسان وحفظه، ويفرض المحافظة عليه، ويؤكد عدم وجود الإيمان دون الالتزام بخدمة الإنسان.
إن طاقات الإنسان كلها، وطاقات كل إنسان يجب صيانتها وتنميتها، ولبنان بلدنا، البلد الذي رصيده الأول والأخير هو إنسانه، إنسانه الذي كتب مجد لبنان بجهده وبهجرته وبتفكيره وبمبادراته، إنساننا هذا هو الذي يجب أن يُحفظ في هذا البلد. فإذا كان لغير هذا البلد بعد الإنسان ثروة فنحن ثروتنا بعد الإنسان، إنساننا أيضًا. لذلك جهدنا في لبنان يتجه في هذه الفرص، وينطلق من المعابد كما ينطلق من الجامعات والمؤسسات، يتجه جهدنا بصيانته، وصيانته بصيانة إنسانه، وإنسانه ذو كفاءات متفاوتة، وكل إنسانه، والإنسان كله يعيش في مناطق مختلفة.
لذلك إذا أردنا أن نصون لبنان، إذا أردنا أن نمارس شعورنا الوطني، إذا أردنا أن نمارس إحساسنا الديني من خلال المبادئ التي عُرضت، فعلينا أن نحفظ إنسان لبنان، كل إنسانه؛ وطاقاته، لا بعضها.
لبنان هذا، بلد الإنسان والإنسانية، يبرز واقعه الإنساني من خلال المقارنة المعاشة في هذا اليوم مع العدو، عندما نجد أنه يشكّل مجتمعًا عنصريًا يمارس السحق والتفرّق في جميع أنواعه المالي الثقافي والسياسي والعسكري، حتى أنه يتجرأ على تحريف التاريخ، وتهويد المدينة المقدسة، وتشويه الآثار التاريخية التي نشاهدها.
إذًا، وطننا ليس فحسب يُحفظ لله ولإنسانه، إنما يجب حفظه للإنسانية جمعاء، لإبراز الصورة الحقّة متحدية أمام الصورة الأخرى. وها نحن الآن نجد أنفسنا في فرصة العمر، في فصل جديد بدأه لبنان.
فلنلتقِ، أيها المؤمنون والمؤمنات، فلنلتقِ على الإنسان، على صعيد الإنسان، كل إنسان؛ والإنسان، كل إنسان ليس خارج الفرصة، ولا معزولًا ولا مصنفًا، فلنحافظ على إنسان لبنان لكي نحفظ هذا البلد، بلد الإنسان أمانة التاريخ وأمانة الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* النص الكامل لعظة الصيام للإمام السيد موسى الصدر في كنيسة الآباء الكبوشيين
* مقطع الفيديو لكلمة سماحة الإمام السيد موسى الصدر في مؤتمر "كلمة سواء" الحادي عشر على اليوتيوب مع ترجمة الى اللغة الفرنسية