مقدمة رئيس الجلسة فضيلة الشيخ سامي أبو المنى أمين عام مدارس العرفان التوحيدية ورئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز.
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
إنه لشرف كبير لي أن يوليني مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات والصديق الكريم السيد صدر الدين الصدر هذا الشرف لأترأس الجلسة الاولى من هذا المؤتمر بعد الافتتاحية الصباحية التي تميزت بكلماتها وبحضورها وبتنظيمها كما نُقِل إليّ، وأعتذر عن عدم تمكني من الحضور. ويشرفني أيضًا أن يكون في هذه الجلسة هناك باحثان كبيران: الدكتورة سعاد الحكيم والأستاذ رشاد سلامة أن اكون بينهما مترئسًا هذه الجلسة.
نلتقي اليوم حول الإمام السيد موسى الصدر، علمًا من أعلام الدين والفكر الإنساني، في موضوع الإنسان، والإنسان الذي لا ينفصل عن المجتمع والوطن والعالم بأسره. وفي رؤيته يحاول الإمام أن يتسع إلى أبعد من حدود طائفته، وهو وإن أسس لحركة المحرومين لم يكن يرغب في حصرها ضمن إطارها الشيعي، رغم كونه عالمًا وفقيهًا شيعيًا، كما يقول السيد هاني فحص في كتابه "الإمامان الصدر وشمس الدين ذكراة لغدنا" ولذا فقد شكل حركة السبعين مع بداية الحرب الأهلية عام 1975" من لبنانيين منتمين الى سائر المذاهب والطوائف والمشارب، لمنع تفاقم الحرب والتصدي لإعطائها أبعادًا طائفية حصرية" هذا هو الإمام المتسع الرؤيوي. شبهه البعض بكمال جنبلاط المفكر الموحد التقدمي الذي حاول مع رفاق له أمثال الشيخ عبد الله العلايلي أن يخرج الى أفق الإنسانية الأرحب. وفي ذلك شهادة له، كما يقول السيد فحص، على رؤيته المتقدمة للوطن وللإنسان، وعلى المساهمات التي قدمها المعلم كمال جنبلاط والإمام موسى الصدر والأمير شكيب أرسلان وسواهم من المفكرين والقادة في "إيقاظ عقل الأجيال اللبنانية على موجبات الاندماج والوحدة والحداثة الموصولة بأصولها".
"ليس صدفة أن يغيب الإمام الصدر بعد مقتل كمال جنبلاط"، كما يقول، وكأنه في ذلك تغييبًا للاعتدال وإفساحًا في المجال أمام التطرف، تغييبًا للغة الحوار التي اختارها الإمام، منطلقًا من إيمانه الديني والتزامه الإسلامي: "الحوار من أجل الدين، أي من أجل الإنسان" الذي من أجله – من أجل الإنسان- كان الدين وكانت الأديان، وبالتالي من أجل الجماعة ومن أجل الوطن، ذلك "أن الطائفية غير التدين، بل الإعتدال الديني والانفتاح على الآخرين هو التدين الحقيقي" واحترام الإنسان وكرامة الإنسان والإرتقاء به إلى مراتب إنسانيته العليا هو هدف وغاية الدين، كل دين.
وليس من الصدفة أيضًا أن نلتقي اليوم على تكريم هؤلاء القادة المعتدلين المتنورين، وأن نحاول الاستفادة من معين فكرهم ورؤيتهم، فبالأمس كانت ندوة في بعقلين تحدثت عن التنمية الإنسانية والاقتصادية في فكر كمال جنبلاط وفكر موسى الصدر، وأمس الأول نال أحد تلاميذ كمال جنبلاط شهادة الدكتوراة من الجامعة الإسلامية، التي هي وليدة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، الذي هو وليد الإمام السيد موسى الصدر تحت عنوان "الإسلام والعولمة: قراءة في فكر الإمام الصدر وفكر المعلم كمال جنبلاط"؛ واليوم بالذات يُقام احتفال تكريمي في الشويفات للأمير شكيب أرسلان بدعوة من وليد جنبلاط وطلال أرسلان معًا.
وها نحن اليوم هنا أيضًا لنتابع مؤتمر "كلمة سواء" حول "الإنسان في رؤية الإمام الصدر"، رؤية الإيمان والاعتدال والعقل التي جسدها الإمام في كلماته ومواقفه وحركته المقاومة وانفتاحه على الحوار وإيمانه بالإنسان، الإنسان المؤمن، العاقل التواصلي، حامل المسؤولية الأخلاقية والقيم العليا، المتمتع بملكة الحرية الصحيحة المرتكزة على العقل والإيمان اللذين يضعان حدًا لتجاوزات الهوى واللذين يقودان إلى عالم تسوده الطمأنينة والسكينة وبالتالي السعادة.
وأسمح لنفسي هنا أن أستمر في هذه الافتتاحية بأبيات من الشعر موجهة إلى السيد الإمام موسى الصدر لأقول:
ألا يا سيدي طال المقامُ بعيدًا عن ديارك يا إمامُ
فكل الناس تشتاق التلاقي وتدعو أن يكلّلك السلامُ
يراعُك والعباءةُ في انتظار وأهلُك والأحبة والكرامُ
سقيت النهج إيمانًا وعلمًا فطاب النهجُ وانتصر الوئامُ
وعلّمت الرجال شموخ فكر فسار الأوفياء به وقاموا
وما زالت حروفُك لامعات وعينك المضيئةُ لا تنامُ
وتاجُك عمًةُ طهرت وعقلُ يجللها، وفي يدك الحسامُ
ومازال الفؤاد الحرُ حيًا وصوتك والتفاتك والكلامُ
وإنسان بروحك مستنيرٌ مُحبِّ صادقٌ شهمٌ هُمامُ
ألا بوركت رمزًا، لا تبالي أطال العمرُ أم حان الختامُ
فمثُلك لا تُغيّبه سنون ولا يُخفيه حقدٌ وانتقامُ
وأنت، كما الكمالُ، غناك باقٍ بفكرك، هكذا يبقى العظامُ
تلك كانت نفحات حب واعتراف بمكانة الإمام السيد موسى الصدر التي تراكمت لدينا نحن الشباب، جيلنا نحن، عامًا بعد عام، والتي أستطيع ونستطيع نحن أبناء الجبل وصانعي الشهادة أن ندركها. ولنا المثال الحاضر دائمًا في القائد الشهيد كمال جنبلاط الذي تصادف ذكرى ميلاده في مثل هذه الأيام، وقد عرف الإمام والمعلم الإنسان وعرفّاه بأنه محور الوجود وسرّه، وهو إنسان الإمام السيد موسى الصدر "الذي كانت من أجله الأديان... وهو أساس الوجود وبداية المجتمع والغاية منه والمحرَك للتاريخ"، كما تقول مقدمة كتاب "موسى الصدر والخطاب الإنساني" الذي يصدره حديثًا مركز الإمام للدراسات والأبحاث. "إنه الهدف الذي كلما ابتعدنا عنه، ابتعدنا عن الله وإذا عدنا إليه يعود الله إلينا" كما يقول الإمام. إنه موضعُ الالتقاء بين الأديان كلها، إذ هو الإنسان "المخلوق على صفة خالقه في الصفات" وهو "خليفة الله على الأرض"، إنه هو هو، وقد تميز بالعقل والوعي والقدرة على التمييز، ليكون أشرف المخلوقات وأجلّها، إذا حقق الغاية من وجوده وارتقى بإنسانيته إلى حقيقتها واكتشاف جمال الإنسان في داخله، وكانت حاجاته "نابعة من ذاته... لا مصطنعة اصطناعًا"، وطبائعه عقلية لا ضديّة، قائمة على الطاعة والقبول والمرونة لا على المعاندة والإنكار والمعصية، منسجمةً متوازنةً متكاملة.
أما الذي يُخرجُ الإنسان من إنسانيته وكماله فاختلال إيمانه وبعده عن الله وحبّ الذات ونمو هذا الحب ليصبح "عبادة الذات" على حد قول الإمام الصدر، وحيث تتحول الأنانية من الذاتية الى الجماعة فتكون الأنانية العائلية ثم القبلية ثم الطائفية التي "حولت السماء الى الأرض وأفرغت الدين والمذهب من سموّهما ورفقهما وسماحتهما.. وتاجرت بالقيم الروحية" إلى "الوطنية الأنانية العنصرية" التي تحاول البناء على أنقاض وحساب الأخرين، فإلى القومية الطاغية العدوانية، تلك هي أمراض الإنسانية.
وهذه الأمراض مصدرها جراثيم الشهوات والأطماع الكذب والطغيان وحب الجاه والمال والسلطة والرياء والنفاق والخداع والضغينة، تلك التي تخرج الإنسان من إطار إنسانيته لينسفل بدل أن يرتقي ويقترب من البهيمية بدل اقترابه من الملائكية، ولذا جاء الدين ليخلص الإنسان وليهديه إلى الصراط المستقيم، هو رابطة الإنسان مع الله، "وهو وسيلة سعادة الإنسان الواحد، في الوجود" كما يقول الإمام، والدين قائم على الإيمان بالله الواحد الأحد الموجود المنزّه، والإيمان بأنبيائه وشرائعهم التي هي مظاهر مختلفة لحقيقة الدين الواحدة، والإيمان بالإنسان وبدوره في الحياة، الإنسان الذي كرمه الله تعالى وفضله على سائر المخلوقات ﴿ولقد كرمنا بني آدم... وفضلناهم على كثير من خلقنا تفضيلًا﴾ [الإسراء، 70]، الإنسان المخير في أعماله، المسير في نظام الكون والحياة، والتخيير أساس العدل وروحه، لأنه قادرٌ أن يختار الخير أو الشر، قادرٌ أن يعقل الطبيعة ويتصرف بها، قادر أن يحب أو أن يكره، قادرٌ أن يحقق أفضليته بما أُوتي من الحكمة والمعرفة والقدرة، ولهذا جاء الدين لكي يرفعه من مستوى العلم والمعرفة إلى مستوى الحكمة والعرفان، لكي يُحرر الإنسان من ضديته وعبثيته وجهله فيهديه إلى الإيمان، إلى معرفة نفسه ومعرفة خالقه ومعرفة أخيه الإنسان أينما كان، ومعرفة الطبيعة. معرفة قائمة على المحبة، لا على الأنانية والغيرية، فالإنسان في الله والله فيه، تلك هي رسالة الدين، وهذا هو دور الإنسان: التناغم والتواصل والتحقق، بالعلم والحب والفكر والإرادة والعمل، وبتحقيق رسالة السلام، حيث السلام هو دعوة الله وحيث الله هو السلام ومنه وإليه السلام، وذلك ما قصده الإمام السيد موسى الصدر في قوله: إن الأديان واحدة جاءت لتعلم الإنسان "السلوك في سبيل السلام".
هذا هو خطاب الإمام الإنساني، نوافق عليه ونتعلم منه، لأنه ينطلق من روحية الأديان جميعها ويرتكز إلى حقيقة الإسلام التي هي أيضًا حقيقة الأديان، كل الأديان.
وشكرًا.