إنسانية الطفولة والشباب في الفكر التربوي للإمام السيد موسى الصدر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أُسعدتم مساءً.
إن من يغوص في الفكر التربوي للإمام السيد موسى الصدر يجد نفسه أمام مورد عذب، ينهل منه الناهلون، فهل سمعتم أن منهلًا نضب ماؤه لأن الناس منه يشربون، إنما المنهل العذب مورد يتجدد.
وتقرأ فيه الرغبة في خدمة المجموع، ونفع الناس، وانضاج الناشئة وترشيدهم، وإسعاد الإنسانية، والإسهام بأوفى قسط مستطاع في تثمير إمكانات الحياة المتاحة للإنسان تثميرًا يترتب عليه سعادته وسعادة المجموع.
إن السيد ينزع إلى التغيير لا يرضى بالأوزان الدارجة ولا بالقيم الاستهلاكية الاستثمارية، ولا بالمعايير التسولية التي لا تحوج إلى رأي أو اجتهاد، إنه في حالة كفاح موصول ضد الجهل والفقر والمرض والمحتل الغاصب. ولا يترك فرصة إلا ويوجه وينبه وينشط ويشجع ويعلم بالقدوة وضرب المثل.
وصدق المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين عندما قال عن السيد أنه: "جعل نفسه قوة كبرى في مجال التنمية، لم يقبع في صومعته يعيد انتاج ما كتبه الآخرون في مستوى النظرية، وإنما نزل إلى الشارع ليفعَّل ما حمله في سبيل التنفيذ.
إن الناس الذين كانوا خارج وعي حقوقهم، أو خارج القدرة على المطالبة بحقوقهم وهم المحرومون بالمعنى الاقتصادي أو السياسي أو بالمعنى الإنساني العام جعلهم يتكلمون.
لم يتكلم عنهم، ولم يحبسهم ويختزلهم ويختزنهم، أعطاهم أصواتًا ينطقون ويتكلمون بها. فليس المهم أن نعي حاجات الآخرين، ولكن الأهم أن نهب للناس ما يجعلهم يتحركون".
أمام كل هذا دعونا ندخل في الإنسان جوهر التربية ولنأخذ نموذجان الطفل الإنسان، والشاب الإنسان في فكر السيد.
أساسيات منهج التربية الإسلامية:
يقوم منهج التربية الإسلامية على أسس أربعة هي: تصور الإسلام لحقيقة الألوهية، وتصوره للكون، وتصوره للإنسان وطبيعة الفطرة الإنسانية، وتصوره للحياة وتنظيماتها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعرفية، والارتباطات بين كل هذا. وهو وإن اتفق مع بعض مناهج الأرض في شكل هذه الأساسيات إلا أنه يختلف عنها جميعًا اختلافًا جوهريًا، وهذا الاختلاف نابع من خصائصه الفريدة، وهو أنه منهج رباني، وعالمي، وثابت، وشامل.
لقد تعرض السيد الي هذه العناصر، ولكني سأختار من هذه العناصر التصور للإنسان.
التصور الإسلامي للإنسان:
يقول السيد، إن الإنسان في رأي الإسلام خليفة الله على الأرض، عالم بالأسماء كلها، مسجود له من جميع ملائكة الله. ومفهوم الخليفة يوضح تمام الوضوح، استقلال البشر، وحريته في التصرف على الأرض، أما السبل المرسومة له والخطوط المكتوبة عليه، فهي النصائح التي قررها الله لخليفته للإنسان.
وتعليم الأسماء لآدم، الأسماء التي يعود إليها ضميرهم المختص بذوي العقول، وتأكيد الله لملائكته بعد اعترافهم بالعجز أنه يعلم غيب السماوات والأرض.
التعليم هذا والتأكيد يعكسان في الذهن إمكانيات الإنسان الهائلة، وتمكنه من معرفة جميع الموجودات والقوى المتفاعلة في دائرة خلافته، والتي جُعلت تحت تصرفه في حياته الرسالية.
وسجود الملائكة، وهم نخبة الموجودات، تأكيد صريح لخضوع كافة الموجودات للإنسان وإطاعتهما له. فالاستقلال بالتصرف، والامكانات الكبيرة، وخضوع عامة الموجودات، صفات ثلاث نفهمها من الآيات القرآنية في عبارات هي أقصى حدود التكريم.
والسيد هنا وفي كثير من المواضع يستشهد بالقرآن الكريم لآن القرآن كتاب الإنسان، فالقرآن كله إما حديث للإنسان، أو حديث عن الإنسان.
الإنسان عطاء إلهي، وهدف الوجود، وبداية المجتمع والغاية منه، والمحرك للتاريخ، الإنسان هذا يعادل ويساوي مجموعة طاقاته لا لما إتفقت عليه الفلسفة والفيزياء في قرننا هذا من إمكانية تحول المادة كل المادة إلى الطاقة، بل ما تؤكده الأديان والتجارب العلمية، فـ﴿ليس للإنسان إلا ما سعى﴾ [النجم، 39]، فالأعمال تخلد، وأن الإنسان عدا إشعاعاته في مختلف الآفاق لا يساوي شيئًا فبقدر ما صُنا طاقات الإنسان ونميناها بقدر ما كرمناه وخلدناه.
والإنسان هذا الخليفة لله على الأرض له حرية التصرف على الأرض، وحرية التمكن من العلم والمعرفة، ويحاول الإسلام في مواضيع عديدة في الكتاب والسنة التنبيه على هذه النقاط، ليرفع معنويات الإنسان ويشعره بمقامه الكريم، وتفضيله على الكثير من الخلق، وأن ما في الأرض وما حولها خلق للإنسان ومسخر له. وهذا الإنسان حمَّله أمانة، ومهما كان تفسير الأمانة دينًا أو معرفة أو ولاية أو شرف، مسؤولية، مهما كان ذلك فاختصاص جعلها بالإنسان تكريم له واشادة بمقامه العظيم.
وهذا الإنسان الخليفة على الأرض تؤكد التعاليم الإسلامية أن الله قريب جدًا منه، وهو أقرب إليه من أي شيء، فعلى الإنسان أن يشعر بهذا القرب ويقبل على الله لكي يجد قوته واعتزازه. وهذا القرب من الله يرفع من معنويات الإنسان، ويبعد عنه الخوف والقلق والحزن والرذائل الخلقية.
هذا الإنسان الذي تتحدث عنه سجدت له الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر، وهو الذي أصبح شيطانًا رجيمًا بعد امتناعه عن السجود لآدم، يقود جنود الشر في حياة الإنسان. ويجعل الصراع محتدمًا في العالم كله، وفي نفس الإنسان، والمنتصرون في المعركة، المخلصون من عباد الله، هم ثمار الكون الذي من أجلهم خلق، وأصبح ميدانًا لخلافتهم، والإنسان صنع على يد الله، وفيه روح الله.
الطفل الإنسان:
تعتبر الطفولة المرحلة الأولى من مراحل العمر تبدأ من حين ولادة الطفل وتنتهي حين بلوغه سن الرشد، يقول سبحانه وتعالى ﴿وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم﴾ [النور، 59] ومرحلة الطفولة من أهم المراحل في حياة الإنسان وأكثرها خطورة، فهي تتميز عن غيرها بصفات وخصائص واستعدادات، فهي أساس لمراحل الحياة التالية، ففيها تتفتق مواهبه، وتبرز مؤهلاته، وتنمو مداركه، وتظهر مشاعره، وتتبين أحاسيسه، وتقوى استعداداته، وتتجاوب قابلياته مع الحياة سلبًا أو إيجابًا، وتتحدد ميوله واتجاهاته نحو الخير والشر، وفيها تأخذ شخصيته بالبناء والتكوين لتصبح مميزة عن غيرها من الشخصيات الأخرى.
أمام هذا يترتب على الوالدين في هذه المرحلة واجب من أكبر الواجبات الدينية والأدبية وهو تربيته جسميًا وعقليًا، وتدريبه فكريًا وعلميًا، وتثقيفه أدبيًا واجتماعيًا ليكتسب فيها العادات الفاضلة، وتنغرس فيه جذور الأخلاق الكريمة سواء عن طريق القدوة الصالحة، فلا يسمعانه إلا ما فيه الخير وحب الفضيلة، وكل ما يبعده عن الشر والعادات الرذيلة؛ أو عن طريق التلقين والتعليم والتفكير، فيربيانه ويوجهانه ويعلمانه ما يغرس فيه الإيمان ويحبب إليه الصدق والاستقامة وحب الخير.
وهنا لنقف مع السيد أمام أسرة العصر من أم وأب، فالطفل إذا وجد في بداية حياته أمه أمام عينيه، فتكون بالنسبة له.. النافذة التي يطل منها على العالم والعين التي يختبر بها الوجود، وعلى شاكلتها تكون رؤيته القائدة، ومشاعره الأساسية ومفهومه عن كل شيء في الطبيعة وفيما وراءها.
وحينما تبرز أمام الطفل مُطلَقة في الأمومة، متفانية في رعايته، ذائبة في عطائها منكرة لذاتها ولذاتياتها في سبيل طفلها... حينما تبرز الأم أمام الطفل هكذا يصبح التكوين الجديد... الطفل إنسانًا جديدًا.. مؤمنًا بالمطلق وبالقيم المثلى، مدركًا ذلك بعقله وقلبه، مرتبطًا بأمه، وبما تمثله من قيم وبمن تمثله من المجتمع.
والأب أيضًا عندما يتفانى في سبيل طفله والإنفاق عليه ورعايته وتربيته. وهكذا ينمو الطفل مؤمنًا بالمثل العليا مرتبطًا بذاته في المجتمع بحيث يصبح جزءًا من مجتمع أبويه مكملًا له. هذه الأسرة التي يريدها السيد لطفولة سعيدة.
أما إذا كان الأمر على العكس فيرى السيد أنه عندما يختلف وضع الأم عن هذه الصورة.. يشعر الطفل بعطائها المحدود وخدمتها الموقوتة بساعات محدودة توفيرًا لطاقاتها أو صرفًا لها في الذاتيات واستبدالًا عن رعايتها بالغير مقابل دفع عوض لذلك.
عندما يجد الطفل أمه بهذه الصورة فهو لا شك يتكون تكوينًا آخر.. تكوينًا لا يؤمن بالقيم والمثل التي لم يدركها أصلًا... وإذا آمن بها فالإيمان هو سطحي مهما حاول المربون.
وتبعًا لذلك – وهو شيء طبيعي – فإن الطفل ينفصل عن الأم وعن مجتمعها لأن علاقته معها تحولت إلى أمر نسبي ومحدد يمكن التعويض عنه.
أما الأب إذا كانت أبوته محدودة أو مقترة أو يستعاض عنها بمال، إن أمثال هذا الأب، يساهم مساهمة فعالة بهذه التصرفات في بناء كيان إنسان محدود مفصول فصلًا كليًا عن الماضي.
وأن الطفل بحاجة ماسة لرؤية وجه الله في أمه أولًا، ثم في أبيه، وذلك لكي يؤمن بالله، وبالقيم العليا، وإلا فالإيمان بالمطلقات وبالله يكون ينبوعهما تصور وافتراض.
ويحاول السيد كعادته البحث عن العوامل التي أدت إلى اهتزاز الأسرة، وإنعكاساتها على الأولاد ويختمها برؤية الإسلام للأسرة.
يقول السيد: تعيش الأسرة في مجتمع متطور وهي تتأثر بعوامل تنعكس بصورة واضحة في حياة الأسرة والعلاقات الأسرية، وتزايد حاجات أفرادها، كل ذلك أدى إلى غياب الرجل الأب عن المنزل بسبب الهجرة والنزوح، وغياب المرأة الأم وانهماكها في أعمالها واستقلالها المادي، كل هذا كان له مفعول عميق في العلاقات الأسرية، فتقلص مقام الوالدين ومقام الوجود كله في نظر الطفل وفي مشاعره، وأصبحنا نعيش جيلين متباعدين، وبدأت حركات عنيفة يمارسها الجيل الصاعد، وهو نتيجة التباعد الزماني والمكاني، وإلتهاء كل من الزوجين بعمله الخاص، وبأحواله الخاصة.
وهنا أقف مع السيد وأتساءل: هل هذا الجيل سيكون الأمل والمرتجى، أم الإعصار الذي يعصف في بنية الحضارة وبنية المجتمعات؟ وهل هذا الجيل سيكون معروضًا للضياع، إن لم تُحمل مشكلاته محمل الجد ويُسهم في حلها الجيل الصاعد مع الجيل السابق على حد سواء؟
وهنا يرى السيد أن الجيل الصاعد مغاير منطقيًا وعقليًا للجيل الذي سبقه، والفرد ينمو في الأسرة بمعزل عن الآخرين، نموًا عقليًا واجتماعيًا، يجعل التفاوت بين أفرادها ينمو فتحدث هوة تتعمق باستمرار بين الزوجين أنفسهما وبين الأولاد.
ويرى السيد أن المشكلة الحقيقية هذه لا تقف عند حدود العلاقات الوالدية والعلاقات الروحية، بل تقتحم العلاقات الاجتماعية كلها فتعطي صورة خاصة عن المجتمع. تقوم العلاقات بين أفراده على أساس عطاء محدود ومثمن، وتجعل التفاعل بين الأفراد تفاعلًا آليًا غير إنساني وبلا روح.
والسبب الحقيقي لهذه المشكلة، هو اعتماد المادة والمادية قاعدة لبناء الحضارة. إن المادة لا يمكن أن تكون مطلقة، ولذلك فالعطاء البشري الذي هو صلته لبني نوعه، والذي هو أساس تكوين مجتمعه هذا العطاء قائم على أساس مادي، فهو نسبي ومحدود حيث ينطلق من دافع مادي ومحدود، فكل فرد يقدم لمجتمعه عملًا يتحدد بنسبة الأجر الذي يأخذه من مجتمعه، وبمقدار المنفعة التي تعود إليه.
إن هذا المجتمع، يعيش كل فرد فيه غريبًا يرتبط مع الآخرين بحسب منافعه المشتركة معهم، فالمجتمع شركة تجارية تضم شركات أصغر منها باسم الأسرة والعائلة والطبقة والصداقة والوطن والأمة.
وفي هذا المجتمع يصبح التباعد الزماني أو المكاني خطرًا على الأسرة، وسببًا لاهتزاز العلاقات، حيث التفاعل يتقلص، والمصالح المشتركة تتضاءل من أجل مصالح أخرى مشتركة بين أفراد الأسرة والآخرين.
وبعد هذا العرض للواقع يطرح السيد الرؤية الإنسانية الإسلامية للأسرة وللعمل. يقول بالنسبة للأسرة: يؤكد الإسلام على الوالدين رعاية الأولاد بشكل الحضانة والولاية والتربية، ويؤكد أن تربية الطفل تعادل رسالة الإنسان في حياته حيث يكون الفرد من خلال تربية طفله مثالًا لنفسه يحمل الرسالة، ويوجب على الولد الإحسان والاحترام بالنسبة إلى والديه. ويعتبر بيت المرأة مسجدها، وحسن التبعل جهادها، ويعطي لعملها في البيت ولخدمة أولادها وزوجها طابع القداسة وعنوان السجود، وثواب الجهاد. ويصعد الإسلام تشجيع الأم في العطاء حتى يعتبر أن "الجنة تحت أقدام الأمهات".
ويضيف تعاليم لتنظيم العلاقات وتحديد واجبات الرجل تجاه المرأة، ويكرس هذا كله بفرض نفقة الزوج دائمًا، ونفقة الوالد على الولد، والعكس في حالة احتياج أحدهما إلى الآخر.
أما بالنسبة لعمل الأم والأب فإن المجتمع الذي يقترحه الإسلام هو المجتمع الإنساني الحي، الذي يرتبط الأفراد فيه بعضهم ببعض من خلال عطاء مطلق لا يحدد ولا يثمن، أن العمل هنا رسالة يجب تحقيقها ببذل كل ما في طاقة الفرد، فهو قطعة من وجود الإنسان ذابت فتحولت إلى العمل.
والعمل هي مثل الإنسان، عبادة، لا يمكن تجميده ولا تثمينه والمجتمع الذي يتكون من هذه الأعمال وهذه العلاقات مجتمع حي كمثل الجسم الواحد على حد تعبير الحديث الشريف.
والعمل بهذه الصورة ينبع من الإيمان بالمطلقات وبالقيم التي لا ينفصل الإيمان بها عن الإيمان بالله.
والمؤمن بالله يهدف من خلال عمله إلى هدف أسمى، هو كماله، ولذلك في عمله هو حركته التكاملية نحو الأفضل. ولا يقصد من خلاله الوصول إلى الأجر الذي يقدمه له مجتمعه بل الأجر هذا واجب مجتمعه تجاهه وليس ثمنًا لعمله.
وهنا نشعر بالصورة التي يرسمها الإسلام للمجتمع، إنه موجود حي وواحد متماسك الأجزاء.
ومن خلال صورة المجتمع وتبين أدوار جميع الأفراد المطلقة، تتلمس دور الأمومة والأبوة المطلقة، فنصل إلى علاج المشكلة المطروحة.
إن الوالدين اللذين يقومان بدورهما بصورة رسالية ومطلقة، وإلى درجة التفاني في خدمة الطفل – الوالدان هذان – يغمران مشاعر الطفل ويملاءان عقله إيمانًا، وقلبه حبًا، ووجوده رعاية، ويعيش الطفل وينمو في هذا البحر المتدفق مؤمنًا ملتزمًا مكملًا لرسالة والديه وفيًا لعطائهما ولجيلهما.
والزوجان أيضًا يشكلان وحدة متكاملة خلال العطاء المطلق الرسالي، الذي يقدمه كل منهما للآخر، ويقدماه معًا للأولاد.
المهم هو نوعية العطاء، لا حجمه، ولا كميته، فالمشكلة لا تحصل في الأساس.
الشاب الإنسان:
الشباب هم أعمدة المجتمع، ويقوم عليهم بناء الأمة، والاهتمام بهم يعود لأنهم أقرب إلى الفطرة، ويمثلون أغلبية الأمة، وهم رجال الغد وأمهات الجيل القادم، ودرع الأمة التي يدفع عنها الأعـداء، ويجمعون بين الحيوية والوعـي؛ فهم الطليعة والمحرك والمجدد والأمل.
يعيش الشباب في مجتمع استفحل فيه الفجور، واستشرى المجون، وبرزت تحديات وتحديات من الانحلال الخلقي، والفساد الاجتماعي، بحيث يتلفت الشباب حولهم فيرون ظواهر الفساد والفحشاء محيطة بهم، وأسبابها مهيأة لهم، وسبلها ميسرة لهم، فمن الصعوبة بمكان – وهم على هذه الحال – أن يتماسكوا على الأخلاق، وأن يتحصنوا بدرع الفضيلة، وأن يسيروا مطمئنين في طريق الاستضعاف والتسامي.
أمام هذا فإن بناء الإنسان في مجتمعنا وعصرنا مهدد، من وسوسة الشياطين المغوية، وايحاءات النفس الأمارة، ونزعات الهوى هذه العوامل الثلاثة هي أساس الشر والفتنة والمجون والانفلات.
إن بناء الشباب في مجتمعنا محفوف بالمخاطر، والطريق إليها تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، ومعنى هذا أن الجذوة والموقد في بناء مجتمعاتنا وحضارتنا في محنة وأزمة، وأن مستقبلنا كله في أزمة، ما دام الوقود لاهثًا مهددًا بالانطفاء.
أمام هذا الوضع الذي يعيشه الإنسان الشاب، توجه السيد للإعلان عنه، والعمل كعادته لاقتراح الحلول الإيجابية لذلك.
أولًا: الانفلات الجنسي:
كأني بالسيد يعلو بصوته مطالبًا بالرأفة والرحمة بالشباب فيقول، إن الجنس في حدوده مقدسًا في الإسلام ونعمة من الله وسببًا للإنجاب والسكن والراحة في حياة الإنسان من منطق القرآن.
أما في الحضارة المادية المعاصرة فقد استخدمت في خدمته جميع وسائل الإعلام والتجارب، والوسائل السمعية والبصرية، واستغلته التجارة من خلال الأزياء والإعلانات والأفلام، ووسائل الاجتذاب للبيع والنشر وغيره، حتى أصبح ينمو باستمرار على حساب كفاءات الإنسان الأخرى ومشاعره.
إن الرغبة في كسب المزيد من الأرباح في المجتمعات الحديثة تدفع إلى نشاطات تجارية واسعة النطاق تعجل بتطوير المجتمعات وتطوير الأسرة. وتعتمد النشاطات المتنوعة المذكورة لكسب المزيد من الزبائن، تعتمد على عنصر الاثارة الجنسية، وتستعمل كافة الوسائل العلمية لتحريكها وتنميتها.
إن هذا الانفلات في عصرنا هو مرحلة كما يسمونها من مراحل النمو الحضاري المادي، فالمستقبل لن يكون إلا للميوعة والتخنث، وفقدان الإرادة والقوة وانهيار كافة الطاقات البشرية في حفر الجنس الملتهب. ويعزو السيد هذا الانفلات إلى المسؤولية العالمية، وفي لبنان ساهمت الحضارة المادية في انحراف الأجيال الأخيرة.
الآثار الناجمة عن هذا الانفلات كما يراها السيد:
إن هذا المناخ الشامل في النضوج المبكر للأولاد من ناحية الجنس، يجعلها تنمو بسرعة على حساب سائر الكفاءات، وهذا الوضع بدوره يؤثر على العلاقات الوالدية والانسجام العائلي، كما يؤثر أيضًا على عزوف الفتيان والفتيات عن الزواج، حيث أن الأعباء الثقيلة التي يتطلبها الزواج من جانب، والاكتفاء الجنسي لوجود مناخ مناسب من جانب آخر، والاستهلاك لكثير من الطاقات الجنسية خلال العشرة العابرة من جهة ثالثة، كل هذا يحول دون رغبة الفتيان والفتيات في الزواج.
وفي مجتمعنا ساهم الآباء والأمهات في هذا المناخ عندما تخلوا عن اتزانهم واعتدالهم، فما كان للجيل الصاعد إلا أن يستمر في الطريق المرسوم.
وعودة من السيد إلى الأسرة ودورها التربوي، يرى أن الشباب فقد الرعاية البيتية في الغرب والشرق، وبعد أن وجد نفسه في رعاية الخادمات والممرضات، وفي حرمان كامل من الرعاية الأبوية وعاطفة الأم المطلقة، وبعد أن عاش المجتمع القاصر الذي وضع لكل شيء ثمنًا حتى للخدمات الدينية.
إن غياب الله والمثل العليا عن حياة وأعمدة الشباب المعاصر يساعد على ما يلي:
1- القلق الذي هو أثر للتحرك الشامل وتغير كل شيء حول الإنسان، فالعلم والصناعة والأنظمة الاجتماعية والاقتصادية.. في تغير دائم، مترابطة بعضها بالبعض، فنجد الإنسان ذاته في تحويل دائم، وعدم استقرار.
2- تفكك المجتمع وضعف العلاقات التي تربط بين أفراد المجتمع ببعضهم حيث أن اختلاف المبادئ يجعل القواعد متفاوتة والمصالح متضاربة فلا وحدة تربط بين الأفراد تجمعهم، ويتحول التنافس الذاتي في هذا الوضع إلى صراع طبقي أو فئوي مرير لا يبشر بنتائج مثمرة.
وفي عصر التقدم العلمي التكنولوجي وفي لجة الضياع العريض الذي تتخبط فيه الشبيبة، يحق للمرء أن يطرح تساؤلات منها:
هل يكون جيل الشباب جيل الحضارة، أم هو جيل انهيار الحضارة وأفولها؟
هل جيل الشباب هو الأمل والمرتجى، أم يكون الإعصار الذي يعصف في بنية الحضارة وبنية المجتمع؟
قرأنا وسمعنا عن ثورة الشباب في العالم، هذه الثورة سواء كانت ظاهرة أو خفية، هي نتيجة طبيعية وغير مباشرة للثورة الصناعية والتقنية التي اجتاحت عصرنا، والسؤال الذي يطرح ما الذي أحدثته في الشباب من قيم ومقاييس ومعايير وقواعد؟
وهنا نجد السيد يسعى للإجابة على هذه الأسئلة فيرى أن هناك تفككًا بين الماضي والحاضر، وبينه وبين المستقبل. إن التفكير والتقدم العلميان يفصلان بين الماضي والحاضر، ويدفعان الجيل الصاعد إلى عدم الخضوع لأفكار السابقين وعدم الرضا والاكتفاء بإنتاجهم الفكري.
فإذا انفصل ذلك الرباط العاطفي فمعنى ذلك انفصال الأجيال بعضها عن بعض بصورة نهائية، وربما كان هذا هو السبب الأساس لعنف الثورات الشبابية، بل نجد في الحركات الأخيرة في العالم تحطيمًا كاملًا وإهانة لجميع انتاج السابقين [أي بدأنا نعيش أزمة جيل]. وتزداد المشكلة تعقيدًا عندما تزداد سرعة التغيير في المجتمع الإنساني العام في العلوم والصناعات والأنظمة الحياتية المتنوعة، حيث أن هذه السرعة مع فقدان المطلق، من شأنها أن تجعل الوجود الإنساني كله في تغيير وقلق سريع ودائم.
إن ما يحدث في العالم اليوم وما نراه بين الشبيبة المعاصرة هو نتيجة طبيعية لمجتمعنا، ولذلك فإن المشكلة ستزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم إذا استمرت الأحداث هكذا، ولا علاج لذلك إلا بتقوية التربية البيتية ودعمها، وبتحكم المبادئ المطلقة والمثل العليا في علاقاتنا.
ويؤكد السيد على ضرورة الاستفادة من طاقات الشباب لتكون بارتباط الشباب بالمجتمع القائم، لأن الشباب جديد ويريد شيئًا جديدًا، وهو لم يتعب ولم يكد في هذا المجتمع، لذلك لا يحب المجتمع ويريد أن يكون شيئًا جديدًا، وهذه الثورية عند الشباب تنبع من هنا، من ارتباطهم الضعيف بالمجتمع القائم. وهناك فقدان للارتباط العقلاني بين المجتمع والشباب أو ضعف. كذلك الارتباط العاطفي، فكثيرًا ما نرى الابن يتحرك إلى غير ما فيه أبوه أو مجتمع أبيه، ولهذا يجب أن نحاول المحافظة على الارتباط بين المجتمع القائم وبين الشباب، وهذا لا يتأتى إلا بالتربية البيتية.
نحن يجب أن لا ننسى أننا تجاهلنا واجباتنا البيتية، كل واحد يفكر أنه إذا وضع ابنه في المدرسة الداخلية، أو في المؤسسات، أو أخذ له معلمًا أو خادمًا يتفرغ هو أو هي لشؤونه الخاصة أو الاجتماعية، هذا غير كافٍ إطلاقًا لأن هذا يفصل بين الشاب وبين بيته. والشاب لا يشعر بارتباط عقلاني ولا ارتباط عاطفي ثم يعزل ويهمل أحيانًا، ولذلك نسمعهم يريدون تحطيم تراث الماضي.
أما العلاج فيطرحه في لبنان وفي كل بلد يقصد العلاج، فإنه لن يكون إلا نتيجة تخطيط ودقة، وأنه وضع مشروعًا عرضه على المسؤولين في لبنان في مقترحات على شكل خطوط عريضه؛ ويلفت النظر أن السيد يواجه الآخر بسمات العصر التي تستخدم، الدراسة، والتنظيم، والتخطيط.
1- توضع مشاريع مدروسة للتربية الدينية في المدارس والتدريب الإجباري العام، وتنشيط الحركة الرياضية والكشفية. ولإيجاد بديل عن الفساد الإعلامي توضع أفلام وقصص ومسرحيات ووسائل تسلية مهذبة، وأخيرًا إيجاد عمل تطوعي لجميع المواطنين بما لا يقل عن يوم في الأسبوع.
2- تخصيص أسبوع للأخلاق، تبدأ الحملة برعاية رئيس الدولة، وبالتعاون مع جميع العناصر المسؤولة يباشر بتنفيذ المشاريع التي ذكرناها في البند الأول ويضاف إليها محاضـرات وأحاديث في الصحف والإذاعة والتلفزيون والمساجـد والكنائس والنوادي.
3- خلال ذلك يتخذ تدابير زجرية بالنسبة للمنحرفين في حدود معقولة.
4- يتشكل مجلس وطني لمتابعة مطلب الأسبوع المذكور باسم مجلس الأخلاق لمراقبة التدابير واتخاذ ما يجب أن يكون فيما بعد.. هذه التدابير تخلق في لبنان جوًا خاصًا وتيارًا معاكسًا للتيار العالمي تصون لبنان من الانهيار الخلقي الدائم، ويعتبر لبنان مجتمعًا محاربًا فيجب أن يكون مجتمع حرب لا مجتمع تراخٍ وترف.
ولكن السيد وهو العالم والمفكر الإسلامي لا يترك الأمر هكذا، بل يتبعه بالعلاج الإسلامي لمشكلة الجنس فيقول:
إن الإسلام وضع مخططًا شاملًا لمعالجة هذه المشكلة ولمواجهتها، وبإمكان هذا المخطط أن يصون أيضًا الأسرة ضمن المجتمع المتطور مع إبقائها متفاعلة معه، ويعتمد هذا التخطيط الأصول الآتي ذكرها:
1- التربية الإسلامية منذ الطفولة تعتمد على تنمية مشاعر الطفل الجمالية وتوجيهها نحو الجمال الكوني المتجلي في الموجودات، نحو الجمال المعنوي البارز في الخدمات والترفع، وهذه المحاولة ظاهرة في القرآن الكريم. يقول سبحانه وتعالى ﴿إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها﴾ [سورة الكهف، 7] ويقول ﴿إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب﴾ [سورة الصافات، 6] وهذه التربية تساعد على بقاء غريزة الإنسان بحجمها العادي.
2- منع المرأة من الإثارة بجميع أنواعها: نطقًا، يقول سبحانه وتعالى ﴿فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض﴾ [الأحزاب، 32]، ومشيًا ﴿ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها﴾ [سورة النور، 31].
3- الحدود الموضوعة في العلاقات بين الرجل والمرأة (الأجنبيات) مثل: غض البصر، وعدم العشرة الحميمة، والمغازلة، والتلذذ، والريبة.
4- صيانة الأسرة من عبث الآخرين، واعتبار العبت هذا من أهم المعاصي، ففي الحديث "ما بني في الإسلام بناء أحب عند الله من الزواج" والمفهوم المخالف لهذا الحديث حول موقف الهادم منه هو المطلوب هنا.
5- الحض على الإسراع بالزواج واعتباره إحرازًا لنصف الدين.
الحاجات الإنسانية للشباب:
ترتبط الحاجات الإنسانية بأهداف الحياة الإنسانية وغاياتها عمومًا. لكن الناس يختلفون فـي طرق إشباع حاجاتهم، كما يختلفون في أهدافهم وفي طرق تحقيقها تبعًا لاختلاف عقائدهم التي من خلالها يرون الكون والحياة، وعلى أساسها يفسرون السلوك الإنساني وغاياته.
وتندرج الحاجات الأساسية للإنسان من وجهة نظر الإسلام في مجموعتين: مجموعة الحاجات العضوية المتصلة بجانب الجسم ومنها الطعام والشراب، والجنس، والإسلام لا يعتبر إشباع هذه الحاجات غاية في ذاته، بل لإمداد الإنسان بالمتعة والقوة اللتين تحققان له التوازن وتعينانه على عبادة الله عن طريق أدائه لوظيفة الخلافة في الأرض أحسن أداء.
أما المجموعة الثانية فهي الحاجات الشعورية والانفعالية المتصلة بجانب الوجدان والضمير ومنها: الايمان بوحدانية الله والوهيته والاعتماد عليه والاستنجاد به وهي حاجة فطرية في النفس الإنسانية، والأمن، والاستقرار، والحب وتقدير الآخرين، والتقدير الذاتي والاجتماعي وتحقيق الذات.
والسيد يرى أنه من التعاليم الإسلامية المعتمدة على مبدأ تكريم الإنسان، أصل قداسة حاجات الإنسان كلها، فالإسلام يعترف بجميع هذه الحاجات ويعتبرها من نعم الله، ويضع أحكامًا لتوجيه هذه الرغبات ويعتبر أن السعي لتلبية هذه الرغبات بالصورة المشروعة عبادة. ولا يرحب الإسلام بترك تلبية الحاجات وتجاهلها.
فالإنسان إذا حاول أن يلبي حاجات جسدية، أو ينحرف مع عواطفه دون تردد، فسوف يكون متأثرًا بالعالم لا مؤثرًا فيه، ولا يتمكن أن يكون قائدًا للكون ولا خليفة لله في الأرض، إذ يصبح منقادًا ذائبًا بها. ورعاية الحلال والحرام، تحتفظ باستقلالية الإنسان، وتجعله مترفعًا عن الذوبان مصونًا من الضياع حيث لا يكفي لتلبية الحاجة مجرد الحاجة، بل كونها حلالًا.
ولا يقبل السيد الحاجات الإنسانية التي تنمو على حساب حاجات أخرى، تلك التي نسميها الشهوات، فلكل حاجة دافع ومحرك، بل وقود لتحرك الإنسان في الحياة، ولكن عندما تنمو هذه الحاجة على حساب حاجات أخرى تشكل كارثة. وهذا هو سبب المسؤولية الكبرى عن المال والجاه والنفوذ وسائر الإمكانات البشرية.
ثانيًا: الشيطان وايحاءات النفس الأمارة بالسوء والإغواء:
يطلب من الإنسان المسلم، ألا يقف جامدًا في حياته الأخلاقية، بل يعمل دومًا على إصلاح النفس وتطهيرها بالعمل الصالح والتخلص من المعاصي والعادات الضارة.
ومن المؤكد يقينًا أن الشاب الإنسان في هذا العصر الذي يتعرض فيها للإغواء والإضلال، هذا الإنسان إذا خالف النفس والشيطان والهوى، بعزة إيمان، واتباع حق، وقوة إرادة، وإلتزام بالإسلام.. فإنه – ولا شك – يصبح من المؤمنين الأبرار، والمتقين الأخيار، بل يواجه كل مفسدة خارجية بالنبذ والإعراض، ويقف أمام كل قتبة نفسية موقف الحسم والمخالفة.. دون أن يتأثر بمؤثرات الإغراء والإفساد والهوى.
ورحم الله من قال:
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محّضاك النصح فاتّهم
منازل النفس البشرية في صعودها في سلم الرقي الأخلاقي:
المنزلة الأولى: هي منزلة النفس الأمارة التي تطلب الرحمة من الله عز وجل لينقذها من السوء التي تسوق إليه، وهي منزلة يعيش فيها كل إنسان في حياته اليومية، وقد ورد ذكر هذه النفس في قوله تعالى: ﴿وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي إن ربي غفور رحيم﴾ [سورة يوسف، 53].
المنزلة الثانية: النفس اللوامة وهي التي تأبى فعل الشر وتلوم صاحبها وتحاسبه على أخطائه، يقول سبحانه وتعالى ﴿لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة﴾ [سورة القيامة، 1 - 2].
المنزلة الثالثة: النفس المطمئنة، وهي النفس التي استقرت وثبتت على الإيمان والتقوى والإسلام، يقول سبحانه وتعالى ﴿يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي﴾ [سورة الفجر، 27 - 30].
وهنا نقف مع السيد عند النفس الأمارة والشيطان، حيث يعتبر أن أهم النواحي التربوية هي إعطاء فكرة الشيطان واستلامه مهمة الإغواء والتضليل مع جنوده التي منها النفس الأمارة بالسوء، أهم هذه النواحي هي تكريس اختيار الإنسان والتأكيد على أنه مخير بين الخير والشر لا مسير لا يهتدي إلا إلى دورة الكون المقرر له. فالله سبحانه وتعالى أراد أن يجعل في الأرض خليفة، لا آلة مسيرة ولا شبه آلة، بل أراد خلق موجود يتصرف بإرادته ويمارس حريته.
حيث أن حرية التصرف لا تتم إلا مع وجود نزعتي الخير والشر في الإنسان، ومع وجود الخير والشر في الأرض، خلق الله الإنسان بهذه الخصائص ثم علّمه الأسماء، وأعده لمعرفة حقائق الكون، وسجدت له الملائكة بأمر من الله، وأصبح آدم خليفة الله على الأرض، وامتنع ابليس عن السجود له، وطرد من مقام المقربين، وأمهل إلى يوم القيامة بناء على طلبه، وبدأ هو وجنوده بإغواء البشر، وتفعيل النزعة الشريرة لدى الإنسان.
أمام هذا الكون الذي فيه ميدان خط مستقيم، وفيه الانحراف والضلال، والإنسان أمام هذا المفترق يسمع صوت الله بلسان عقله، وبلسان ضميره، وبلسان أنبياء الله، وبالطرق الأخرى للهداية، ويسمع صوت الشيطان بلسان نفسه الأمارة بالسوء، وبلسان عناصر السوء والفساد بين البشر وغيره، يستمع في حياته إلى النداء فيجيب بملء إرادته لنداء الخير أو لنداء الشر، وهكذا نرى أن الشيطان في مفهومه الإسلامي يقوم بدور بارز في تعميق التخير الإنساني.
ويطرح السيد تربية خلقية للإنسان قائمة على مجموعة من القيم فيقول: إن الأخلاق تجد في حقلها أحكامًا واسعة، وتعاليم مكررة، لأجل إيجاد شعور واسع في الإنسان وأنه أوسع من نفسه.
يريد الإسلام في تربيته الخلقية أن يوحي إلى الإنسان بأنك لست وحدك، بل أنت فرد ولكنك جزء من المجموعة، يكرس هذا في تعاليمه الخلقية، ثم بالأخلاق يسهل التعاون بين الأفراد بعضهم مع بعض. فمن الأخلاق السامية التي يطرحها: محبة الناس – الكرم – التواضع – حسن الظن – لين العريكة – الصدق – عون الضعيف – تعليم الغشيم – إكبار الكبير – ترّحُم الصغير – إفشاء السلام – بشاشة الوجه – إخفاء الحزن – عيادة المريض – الأدب في المحضر – تقدير الصالحين – تأنيب الفاسدين – الحياء – العفو – قبول العذر – قبول النصيحة – الخدمة للرفيق – إسماع الأصم بدون تضجر – توسّع في المجالس، وآلاف من هذا النوع، التي كل واحد منها يقوي شعور الإنسان بالاتساع والسمو ويسهل التعاون والتحابب وتقوية الصلات الاجتماعية بعضها مع بعض.
ونختم في نظرة السيد لأساليب التربية ومؤسساتها المعاصرة، في العالم العربي والإسلامي حيث يصاب الإنسان بصدمة عنيفة لما آلت إليه من تصدع وانهيار بحيث يغيّب فيها العنصر الإنساني في مختلف المظاهر التربوية كما هو الحال في التربية المؤسساتية، وتعيش الأجيال العربية والإسلامية أكثر حالات الاغتراب التربوي التي تتمثل في إسقاط مطالب الروح والجوهر الإنساني.
إن الأسلوب التربوي المستخدم على سبيل المثال كما يراه السيد هو توجيه الأمر والنهي إلى موضوع التربية (المربى)، حيث له التأثير المحدود والمضاعفات السلبية أحيانًا سيما عندما يستعمل العنف في سبيله وعندما لا يؤخذ وضع المربى النفسي بعين الاعتبار، ويقترح السيد أن نعود إلى القرآن الكريم بما يستخدمه من تعابير ووسائل وأدلة، واعتماده على الفطرة والعبر والمشاعر.