مسؤولية الإنسان الاجتماعية في فكر الإمام موسى الصدر
كلما أثيرت قضية الإنسان في أبعادها الفلسفية أو الدينية، ترافقت معها الأسئلة حول البعد الاجتماعي لهذا الكائن الذي لا يمكنه العيش وحيدًا بمعزل عن الآخرين. ولذا شغلت قضية الإنسان ومسؤوليته الاجتماعية الفلاسفة والعلماء والباحثين على مر التاريخ.
لم تتفق بطبيعة الحال الآراء أو النظريات حول طبيعة هذه المسؤولية الاجتماعية التي ستناط بالإنسان عندما يعيش في ما نسميه اليوم "المجتمع".
فقد ذهب البعض إلى أن المسؤولية الاجتماعية حاجة، في حين رآها آخرون قيدًا يطوق الإنسان لأن النقص الذي يعتريه يدفعه رغمًا عنه إلى الآخر لسد العجز الاقتصادي والأمني والغذائي... وثمة من رأى في المجتمع بما فيه من فساد ضررًا على الدين أو على الفطرة السليمة فدعا إلى العزلة من أجل تربية أفضل كما فعل "روسو"، أو من أجل عبادة أفضل كما ذهب إلى ذلك بعض أهل التصوف وبعض أهل العرفان، إلى من دافع من علماء الاجتماع عن أصالة الفرد في مقابل من دافع عن أصالة المجتمع.
الإسلام أيضًا لم يترك هذا الجانب من مسؤولية الإنسان، من دون الخوض فيه شأنه في ذلك شأن معظم القضايا الأساسية التي تمس ما يتصل بالخلافة والعبودية وهما جوهر الإنسان في المنظور القرآني. وقد كتب الكثير من العلماء والمفكرين عن هذا الجانب، خاصة من خلال ما ورد في الآيات القرآنية مما له علاقة مباشرة بعلاقات الإنسان الاجتماعية. كما ذهب آخرون إلى المقارنة بين الرؤية الإسلامية وبين ما كتبه الغربيون في هذا المجال أو الى المقارنة بين التجربتين الغربية والإسلامية في مجال العلاقات الاجتماعية والإنسانية...
تناول الإمام الصدر بدوره ومن موقعه الإسلامي، هذا الجانب المهم من مسؤولية الإنسان. وشارك علماء آخرين في رؤيته لهذه المسؤولية من خلال مرجعية الإسلام. لكن سوف نلاحظ أن ما تميز به الإمام، كما هو شأنه، هو الربط بين البعد النظري الديني في تفسير المسؤولية وبين الواقع الذي يعيشه المسلمون في لبنان تحديدًا. ولذا كان الواقع هو المقياس الذي يشير من خلاله إلى أنواع المسؤولية الاجتماعية التي يفترض بالإنسان الفرد أن يتحملها. وعندما نقول الإنسان/ الفرد يكون المقصود هو الإنسان الذي يعيش في المجتمع، وليس الإنسان كفكرة فلسفية مجردة.
ولذا يمكن أن نقول – كما سنبين ذلك – أن الإمام الصدر رأى مسؤولية الإنسان الاجتماعية من خلال:
1-الخلفية الدينية والقرآنية وما تعنيه تلك الخلفية من أبعاد تتصل بالعبودية والخلافة.
2-منظور شامل للإنسان ولهذه المسؤولية، تتصل بالأبعاد الروحية والجسدية من جهة، ومسؤولية الإنسان تجاه ذاته (كعمل فردي)، وتجاه الآخرين (كعمل جماعي أو مشترك).
3-الربط بين مسؤولية الإنسان الاجتماعية وبين العمل من أجل بناء المجتمع المسلم الذي يحتضن هذه المسؤولية ويحميها ويوفر لها أسباب الاستمرار والتقدم.
4-عدم التمييز بين الرجل والمرأة في تحمل المسوؤلية الاجتماعية.
كيف تترجم نصوص الإمام هذه الرؤية المتعددة الأبعاد للمسؤولية الاجتماعية؟
ليس من السهولة والبداهة أن نعثر على ما قاله الإمام مباشرة عن المسؤولية الاجتماعية للإنسان، للدلالة على وجهة نظره في هذا المجال (على الرغم مما قام به مركز الإمام الصدر للأبحاث وللدراسات في جمع وتوثيق تراث الإمام) إذ لا بد من العودة إلى معظم ما كتبه أو قاله الإمام حول الإنسان، لنستنتج منه ما له علاقة بالمسؤولية الاجتماعية. فلا يمكن أن نفصل على سبيل المثال رؤية الإمام لـ"لمسؤولية الاجتماعية" عن رؤيته لـ"كرامة الإنسان وحريته"، ولا عن العلاقة بين المسؤولية الفردية والمسؤولية الاجتماعية... ولا عن حديثه عن "العدالة الاجتماعية والاقتصادية"، ولا عن أسباب "تخلف المسلمين" في عالم اليوم. خصوصًا وأن الفكرة نفسها مسؤولية الإنسان الاجتماعية لا تنفصل عن قضية الإنسان نفسه من جهة وعن قضية المجتمع/ وما هو اجتماعي من جهة ثانية، وهي قضايا لم يتوقف النقاش الفلسفي والديني والاجتماعي حولها منذ قرون، كما لم ينحصر النقاش حول هاتين القضيتين في علم محدد دون سواه.
كرامة الإنسان:
تبدأ الفكرة بالنسبة الى الامام الصدر مع "خلافة الإنسان". الإنسان خليفة الله على الأرض ﴿اني جاعل في الأرض خليفة﴾ [البقرة، 30]، أي لا مسؤولية بلا هذا التكريم المهم للإنسان. والكرامة هنا هي شرط أساس لاستقلال الإنسان وحريته في التصرف، ليختار الطريق الأقوم. وبحسب قول الإمام الصدر: "إنها صورة واضحة عن الجوانب الوجودية الشاملة في الإنسان، والتي تمتد من الأرض إلى السماء" ، وهذا تعبير مهم عن الكرامة التي يتمتع بها الإنسان.
فإذا كان كل ما في الأرض، وما حولها خُلق للإنسان وسخّر له، وكذلك الليل والنهار والشمس والقمر، وإذا كان الله قد فضّل الإنسان على كثير من الخلق... فمعنى ذلك أن المسؤولية بمستوياتها كافة ستكون أعظم، بما فيها المسؤولية الاجتماعية، وستكون محط تطلع واهتمام، نظرًا لموقع الإنسان وكرامته من جهة، ولموقع من يقوم بخلافته من جهة ثانية. ولذا يقول الإمام الصدر "إن القلم ليس خليفة الإنسان ولا الكتاب، بل الخليفة هو الذي يمتلك الإرادة والخطة والاختيار ينفذ من خلالها أهداف صاحب المشروع الأصلية" (1) .
ومن تجليات كرامة الإنسان التي ستجعل مسؤوليته الاجتماعية أكثر رقيًا وأكثر إنسانية هي قدرته على الحد من اندفاع النفس للسيطرة على السلوك والعقل. أي القدرة على محاصرة "حب النفس" وغلبة الهوى. ﴿أرأيت من اتخذ إلهه هواه﴾ [الفرقان، 43] معنى ذلك أن هواه هو قدس الأقداس والمؤثر الأول في حياته والدافع الأهم وراء تحركاته" (2) ، "ومن ترك الشهوات كان حرًا"... تلك القدرة على "الترك" هي من تجليات كرامة الإنسان. ومن دون هذه التجليات لن يكون للمسؤولية الاجتماعية أي مصداق ولا أي أفق في خدمة الحق من خلال خدمة عباده.
هذه الإشارة المهمة التي تربط بين كرامة الإنسان وبين قدرته على "الترك" لم يلتفت إليها الكثيرون من العلماء الغربيين ومن علماء الاجتماع الذين تحدثوا عن البعد العلائقي والاجتماعي للإنسان.
أما الإشارة الثانية التي لا تقل أهمية عن الأولى في تجليات كرامة الإنسان، فهي ذلك الاتحاد "بين القوى الكونية التي هي طوع يد الملائكة التي تقوي الإنسان وتسانده وترفع وحشته". عندما يسير في طريق الحق، التي هي في الوقت نفسه طريق خدمة عباد الحق (3) ... أي أن كرامة الإنسان ترتبط بحسب هذا البعد بخدمة أناس الذين هم "عباد الحق" خصوصًا وأن الكون كله في منظور الدين هو محراب كبير، وكل جزء من أجزائه ساجد ومسبح ومصلٍ. وكما يقول الإمام الخميني في الإطار نفسه: "الكون كله محضر الله، فلا تعصوا الله في محضره".
حرية الإنسان:
لا تنفصل المسؤولية عن الحرية. إنها فكرة فلسفية نوقشت كثيرًا في إطار هذه العلاقة بين ما يريده الإنسان، وما هو مفروض عليه. بين حريته بمستوياتها كافة وبين واجباته ومسؤولياته القانونية والاجتماعية والأخلاقية. لذا ثمة من يتساءل من يسبق الآخر الحقوق أم الواجبات؟ حرية الفرد أم مسؤولياته؟
الإمام الصدر لا يرى المسؤولية الإنسانية، أو الاجتماعية، وسواها من المسؤوليات... إلا إذا تحققت للإنسان حريته، إذ ليس من المعقول أن يبادر الأسير أسير الشهوة، أو مكبّل الإرادة أو مطوق الفكر، إلى تحمّل مسؤوليته الإنسانية – الاجتماعية.
ولذا يقول الإمام الصدر: "لا صيانة للحرية إلا بالحرية" فالحرية بالنسبة إليه هي أفضل وسيلة لتجنيد طاقات الإنسان كلها. ولا يستطيع الفرد أن يخدم في مجتمع لا تسوده الحرية. ولا يستطيع أن ينطلق بجميع طاقاته وينمّي جميع مواهبه إذا أعوزته الحرية. الحرية اعتراف بكرامة الإنسان. ولا يقوم بتحديد حرية الفرد إلا من كفر بفطرة الإنسان، فطرة الله التي فطر الناس عليها... الفطرة التي هي النبي الباطني للإنسان (4).
كيف تتحقق المسؤولية الاجتماعية:
لا تنفصل في رأي الإمام الصدر المسؤولية الاجتماعية للإنسان عن مجموعة من العوامل أو الارتباطات التي يمكن من خلالها تحقيق هذه المسؤولية. بمعنى أن هذه المسؤولية ليست شأنًا فرديًا، كما قد يتبادر إلى الذهن، أو كما قد يعتقد البعض من خلال رؤيته لأولوية البعد الفردي في هذه المسؤولية.
يرى الإمام أن مسؤولية الإنسان الاجتماعية لا تتحقق إلا من خلال وجود الفرد كجزء حقيقي من مجتمعه، يتأثر به ويؤثر فيه بصورة واضحة. فالإنسان، في تكوينه، في حياته، في ثقافته، في حاجاته وفي كل شيء هو جزء من مجتمعه... وإذا لم يكن هناك تبادل بين الأفراد فلا يكون هناك مجتمع (5) .
أي أن مسؤولية الإنسان الاجتماعية هي عملية تبادل وليست في اتجاه واحد. وهي ليست من دون هدف. والهدف كما يقول الإمام الصدر هو بناء "المجتمع الإسلامي". والمجتمع الذي يقترحه الإسلام هو المجتمع الإنساني الحي. يرتبط الأفراد فيه بعضهم ببعض من خلال عطاء مطلق لا يحد ولا يثمن (6). وبهذا المعنى تكون مسؤولية الإنسان الاجتماعية هي المساهمة في بناء المجتمع الإسلامي. ومن المعلوم مدى تشديد الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة وأحاديث الأئمة على هذا الترابط بين أفراد المجتمع في كل البنى التي تجمعهم وتضمهم، العائلية والاجتماعية، والقرابية، والمهنية، والدينية وسواها.
الدين والمسؤولية الاجتماعية:
يرفع الدين لواء المسؤولية الاجتماعية ويدعو إلى التغيير وإلى الحرية. يستشهد الإمام الصدر على ذلك بسيرة الأنبياء والأئمة والعلماء، من إبراهيم (ع) وجهاده المرير ضد نمرود إلى موسى (ع) وجهاده ضد فرعون، إلى سيرة المسيح عليه السلام، وحربه ضد المرابين وأصحاب الامتيازات من الفريسيين، ثم سيرة النبي محمد (ص) وحربه ضد الأصنام وضد الطبقية القرشية وجهاده لخلق نظام بديل هو نظام الأخوة الإسلامية. ويورد الإمام الصدر في المجال نفسه الواقع المعاصر، من جهاد الأفغاني، وعبد الحميد بن باديس في الجزائر، وتلامذته الذين كانوا "القوة المحركة للثورة الجزائرية..." إلى علماء العراق الذين قادوا الثورات التحررية في العشرينيات إلى السيد عبد الحسين شرف الدين في لبنان الذي جاهد الاستعمار الفرنسي وعانى في سبيل ذلك الكثير (7) ... لذا يربط الإمام الصدر بين المسؤولية الاجتماعية وبين التحرر والانعتاق من الظلم ومن الاحتلال. وهو يؤكد أن نواة التحرر تشكل أساس الأيديولوجية الإسلامية. لذا على من اعتنق هذه الإيديولوجية أن ينهض لمواجهة الاستبداد والاحتلال حتى يحقق مسؤوليته الاجتماعية.
المسؤولية الاجتماعية، مسؤولية مشتركة:
يربط الإمام الصدر بين المسؤولية الاجتماعية وبين تحقيق العدالة. ويعتبر أن العدالة هي في صميم العبادات وضمن شروط صحتها... وبالنسبة إليه لا يعترف الإسلام بإيمان لا يثمر العدالة في حياة الفرد والجماعة.
وبما أن العدالة يجب أن تتحقق في المجتمع فهي تحتاج إلى طريقي الفرد والمجتمع معًا. فالفرد مسؤول عن سلامة المجتمع، استنادًا إلى "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته". خاصة وأن ما بلغه هذا الفرد من مال وتجارب وقوة ليس ثمرة جهده الشخصي فقط، بل شاركه في تكوينه الآخرون، من سبقه ومن معاصريه. مثل الشجرة التي ساهمت في إنتاج الثمرة ولكنها استفادت من الماء والهواء والشمس والأرض. وبهذا المعنى أن الفرد أمين على ما يملك، ومسؤول عنه أمام المجتمع. ولا يحق له، كما يرى الإمام الصدر، أن يحتكر ما عنده، ولا أن يتلفه، أو يهمل في شأنه ولا يجوز له أن يسيء إلى نفسه أو يؤذيها... لأن كل ذلك هو تفريط في حق الجماعة التي ينتمي إليها هذا الفرد.
وفي مقابل المسؤولية الفردية عن سلامة المجتمع، تأتي مسؤولية الجماعة عن الفرد. ومسؤولية الجماعة التي هي الوطن أو القبيلة أو القرية أو المدينة... هي حماية الفرد، وهي تأمين ما يحتاج إليه، فلا يتضور جوعًا في حين يشبع آخرون أو يتخم بعضهم...
ويعبّر القرآن أن الكريم بوضوح عن هذه المسؤولية المشتركة بين الفرد والجماعة عندما يصف جماعة المؤمنين بالجسد الواحد الذي يتداعى لحماية من يشتكي من أعضائه. ويشير الإمام الصدر إلى مسألة دقيقة عندما يعتبر استنادًا إلى القرآن الكريم أن مسؤولية الإنسان الاجتماعية تنطبق أيضًا على الجوانب الأخلاقية، وليس على الجوانب المادية فقط، فتجنب الغيبة على سبيل المثال هي أيضًا مسؤولية تجاه الآخر، مثلها مثل ﴿لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾ [البقرة، 188]. أي احترام العهود والمواثيق وعدم الخداع والغش، وتجنب الأذى المعنوي (الغيبة) يقع أيضًا في نطاق مسؤولية الإنسان الاجتماعية. وهذا ما لم تلتفت إليه الأدبيات الاجتماعية أو النفسية أو التربوية الحديثة.
ويتجلى المفهوم القرآني عند الإمام الصدر عندما يربط بين سعي الإنسان لتوفير فرص الحياة للآخرين، وبين عودة هذا الخير إلى نفسه. وهذا الربط هو من أهم ما قيل عن نتائج المسؤولية الاجتماعية المشتركة بين الفرد وبين المجتمع. خصوصًا وأن الإسلام يعتبر أفراد المجتمع أخوة وليس مجرد أفراد تربطهم مصالح أو منافع أو حقوق وواجبات ﴿إنما المؤمنون أخوة﴾ [الحجرات، 10] ومن رابط الأخوة هذا يمكن أن نشير إلى ما ذكره الإمام الصدر من الآيات والأحاديث التي تؤكد على علاقات الأبناء والآباء وصلة الرحم، والجار ذي القربى... حتى نتبين كل تفاصيل المسؤولية الاجتماعية التي أرادها الإسلام للإنسان في علاقته مع الآخر.
المسألة الأخرى ذات الأهمية الاستثنائية التي يؤكد عليها الإمام الصدر من خلال مرجعيته الدينية هي إشارته إلى "أن العلاقات البشرية تعتمد على أساس الكمال البشري. يعني عندما يقدم الإنسان خدمة فإنما يفعل ذلك ككمال وليس مقابل الأجر. لأن العطاء في المجتمع المادي تجارة. كل من يعطي يأخذ. هذا معناه، كما يقول الإمام الصدر، تجميد الإنسان وتنزيل نفسيته وروحيته، بينما في المجتمع الإسلامي الإنسان يعطي لأنه يعبد الله، وخلال ذلك هو يحقق الكمال (8) ...
التربية والمسؤولية الاجتماعية:
تبدأ المسؤولية الاجتماعية بالنسبة إلى الإمام الصدر مع تحديد مكونات المجتمع. يتساءل قائلًا: "ما هي الخلايا التي تتكون منها المجتمعات؟ في الإسلام، الخلية أو المادة تتكون من الأسرة، الأسرة هي الخلية الأولى لتكوين المجتمعات. ولكي يكون المجتمع كاملًا يحتاج إلى أسر متينة وقوية. وفي هذه الأسر ثمة تقسيم للوظائف وللواجبات الاجتماعية. ومن هذا التقسيم يخوض الإمام في شرح واجبات الأسرة وواجبات الرجل والمرأة فيها، ليؤكد على تأثير الأم القوي على الطفل.
ويستمد الإمام رؤيته هذه من الإسلام الذي يراه مدرسة فكرية إنسانية تعتمد على تربية الإنسان. ولا يمكن تربية الإنسان وصيانة إنسانية الإنسان إلا عندما يتوفر للإنسان مجتمع إنساني. يعني إذا أردنا أن نربي الإنسان وأن نجعله عنصرًا صالحًا علينا أن نربيه ثم نوفر له جوًا صالحًا لصيانة هذه الإنسانية. ولذلك يهتم الإسلام، بتربية الفرد وبتشكيل المجتمع. فحينما أراد الإسلام أن يربي الإنسان في مكة كان دوره تحضيريًا لتهيئة القادة. وحينما انتقل إلى المدينة شكل الإسلام المجتمع الإسلامي لصيانة الفرد. لأنك عندما تربي فردًا عليك أن تحافظ على تربيته بأن تصونه عن طريق خلق مجتمع إنساني. لأن الإنسان عندما يتحرك في مجتمع غير إنساني يذوب وينهار إذ لا يمكن أن يبقى الإنسان صالحًا في مجتمع غير صالح (9) .
ويؤكد الإمام الصدر أن النبي الأكرم (ص) عمل على صعيدين: وضع الأسس السليمة لتربية الفرد ووضع الأسس لتكوين المجتمع (10) ...
المسؤولية الاجتماعية على مستوى الأمة:
لا يفصل الإمام الصدر في تحقيق مسؤولية الإنسان الاجتماعية بين علاقة الإنسان مع ذاته وبين علاقته مع الآخرين. وفي هذه العلاقة الأخيرة لا يكتفي كما سبق وأشرنا بتوضيح التداخل في العطاء المتبادل بين الفرد والمجتمع. بل يذهب الإمام الصدر أبعد من ذلك. فالمسؤولية الاجتماعية بالنسبة إليه هي التصدي أيضًا لتغيير أحوال الأمة. وهي مسؤولية لا يمكن التهاون فيها أو التراجع عنها.
وتتطابق هذه الرؤية للمسؤولية الاجتماعية عند الإمام الصدر مع دوره هو نفسه. وهو يعبّر عن هذه الرؤية في إجابته عن سؤال التأخر الذي لحق بالمسلمين، فيراه في الاستعمار الخارجي وفي التخلف الداخلي. فيدعو إلى اللحاق بركب العلم والتقدم وإلى النهوض للتصدي للاستعمار بأشكاله كافة. وعندما ننظر إلى تجربة الإمام في لبنان، وما قام به عمليًا سوف نلاحظ أيضًا أن مسؤوليته الاجتماعية كانت مسؤولية شاملة متعددة الأبعاد والمستويات. فقد عمل من أجل:
- رفع الغبن والحرمان عن اللبنانيين، ليتسنى لهم تحقيق نهضة اجتماعية شاملة، يشارك فيها المجتمع من دون استثناء "لأن العدالة الاجتماعية تعزز الشعور بالمواطنية".
- فتح قنوات الحوار بين الطوائف المختلفة "لأن التعاون مع الطوائف من صميم الدين".
- ضرورة المواجهة مع إسرائيل، من خلال الاستعداد الذاتي. ومن خلال البعدين الوطني والقومي".
- بناء مجتمع مقاوم، سواء من خلال المؤسسات الاجتماعية والتربوية والتضامنية "لأن إرادة الحرب والكفاح من أجل الحفاظ على الوطن هي أولى الواجبات الوطنية" أو من خلال الاستعداد والتدريب لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية.
- قدم نموذجًا مختلفاً لمسؤولية رجل الدين الاجتماعية عندما جعل الاهتمام بشؤون الناس والمجتمع في صلب دوره الديني والتعبدي. لأن النشاط السياسي السليم بالنسبة إلى الإمام الصدر، "هو مشاركة في بناء المستقبل، والدين لا يعزل أبناءه عن المشاركة في بناء المستقبل، لأن "طاقاتي الاجتماعية – كما يقول – ليست ملكي، ولا يحق لي أن أتصرف بها إلا في صالح صاحبها الأصيل الذي هو الله والدين".
لقد دمج الإمام في رؤيته لمسؤولية الإنسان بين أبعاد عدة: بين خلافة هذا الإنسان، من المنظور الديني، وبين الكرامة التي أعطيت له لتحقيق هذه الخلافة. ولم يفصل بين المسؤولية وبين الحرية. إذ يستحيل على من كان أسيرًا لهواه أو للظلم والطغيان أن ينهض للقيام بمسؤولياته الاجتماعية بالتعاون مع الآخرين.
واعتبر الإمام أن المسؤولية الاجتماعية هي عملية تربوية تبدأ في حضن الأسرة. وأن هذه المسؤولية لاحقًا هي تفاعل مشترك بين الفرد وبين الجماعة، كل يقوم بدوره تجاه الآخر، لتحقيق العدالة الإنسانية التي هي هدف الأنبياء والرسل. من هنا للدين مكانة بارزة وأصيلة، في تحمل المسؤولية الاجتماعية وفي دعوة المتدينين خاصة والناس عامة إلى عدم التخلي عن تلك المسؤولية.
____________________
(1) الكلمات القصار ص 138
(2) الدين وحركات التحرر في العالم العربي ص 5
(3) الكلمات القصار19/3/1970
(4) تأسيسًا لمجتمع مقاوم، ص 11. حوارات صحفية (1)، طبعة ثانية، ص 207، مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات
(5) الجانب الاجتماعي في الإسلام، ص 64
(6) الكلمات القصار 165
(7) الدين وحركات التحرر في العالم العربي، ص 10
(8) تأسيسًا لمجتمع مقاوم، ص 381
(9) لماذا تأخر المسلمون عن ركب التقدم العلمي ص 111
(10) ن.م ص112