كلمة نيافة الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير في افتتاح مؤتمر "كلمة سواء" الأول: الإمام الصدر والحوار
مثله النائب البطريركي العام سيادة المطران بولس مطر
أيها الاخوة،
أولانا صاحب الغبطة والنيافة الكردينال مار نصرالله بطرس صفير، بطريرك انطاكية وسائر المشرق، الكلي الطوبى، شرف تمثيله في افتتاح هذا المؤتمر الذي تقيمه مؤسسات الإمام الصدر، بعنوان "كلمة سواء" وتخصصه لموضوع المسيحية والاسلام في اطار منهج عام يلحظ لقاءات فكرية سنوية تتناول القضايا العالمية الكبرى، وترسم دور العلم والدين في معالجتها رغبةً منها في خدمة هذه القضايا وفي تنوير الباحثين في مجالها في كل مكان.
وإننا إذ ننقل إلى القيمين على هذه المؤسسات الكريمة ادعية غبطته بالتوفيق والنجاح فيما هم مقدمون عليه، نعرب لهم باسمه عن الشكر العميق الذي يكنه لهم مع كل قادر لهذه المبادرة الثقافية المميزة التي يطلقونها عربون وفاء لسماحة الإمام السيد موسى الصدر وإكباراً لدوره الريادي في السعي إلى تقارب الاديان وتعاونها وتوافق اهلها في لبنان وفي الشرق العربي وفي العالم بأسره.
وقد استوقفنا بخاصة في سلسلة القضايا المدرجة على جدول اعمال هذا المؤتمر موضوع "النظرة التي يكونها كل من الاسلام والمسيحية في العالم الغربي" فرغبنا في اعطاء رأي متواضع حياله على امل الاسهام في توضيحه مع الاخوة الكرام المستفيضين في دراستهم.
ان هذا الموضوع لخطير، ولا يخلو من السلبيات إذا ما اكتفى دارسوه بالوقوف حياله على سطح الامور ولم يتوغلوا إلى اعماق الحقيقة التي تتناول منه كل أبعاده وقد يكون طرحه على هذا الشكل منقوصاً بالنهاية مما يستدعي استكماله بموضوع مقابل له وهو "الاسلام والمسيحية في لبنان" ودورهما المشترك في خدمة الغرب والشرق معاً. وفي تطورهما نحو الافضل دينياً وثقافياً وحضارياً.
1- النظرة المختزلة إلى الغرب عند المسلمين والمسيحيين
يتساءل البعض بكثير من الصحة عن امكانية تكوين نظرة موضوعية مجردة في أمور التاريخ والقضايا الانسانية بصورة عامة، لأن في مثل هذه الأمور كثيراً من الحماس للافكار الذاتية، وللتصورات المسبقة في غالب الاحيان. غير أن الاسلام يحاسب الغرب بصورة عامة على مواقف منه حيال هذه المنطقة المشرقية ويوجه اللوم اليه بالنسبة إلى قضايا باتت معروفة عبر تاريخ العلاقات فيما بينهما.
يتوارد إلى الذهن أولاً في هذا المجال موضوع الحملات الصليبية شوهت حقيقة الدين المسيحي المبني على المحبة والموعظة بالكلمة دون الاكراه والاستقواء بالغلبة المادية. ومن المعروف ان الحملات الصليبية ترتبط اصلاً بعقلية القرون الوسطى أكثر مما هي على علاقة بجوهر المسيحية ورسالتها. ومع ذلك فلقد اورثت هذه الحملات نظرة سلبية إلى العلاقات مع الغرب لم يكن سهلاً ازالتها من الخواطر.
وفي العصور الحديثة، خيمت على العلاقة بين الاسلام والغرب ظلال الامبريالية السياسية والاستعمار الفكري والاقتصادي مما قاد إلى سوء العلاقات، بينما ادركت شعوب بأسرها في وقت من الاوقات، انها باتت مسلوبة الارادة فيما يعود لحياتها ومستقبلها وحتى لهويتها الانسانية والتاريخية، وهذا ما ادخل بعض الارتباك في العلاقات بين مسلمي الشرق ومسيحييه نظراً لاعتبار مسيحيي الشرق، ردحاً من الزمن وكأنهم في بعض مواقفهم باتوا امتداداً لهذا الغرب المسيطر والدخيل على منطقة لها تراثها وحقوقها وكرامات شعوبها.
ومن الجهة المسيحية، فلقد حصلت فعلاً اتصالات بين بعض المسيحيين والفرنجة القادمين إلى الشرق باسم الصليبية. وحدث من جراء هذه الاتصالات بعض الاختلاط بين السياسة والدين. لكن هذا الامر كان هو ايضاً مسجلاً في سياق تاريخ القرون الوسطى وعدم النضج في العلاقة بين أهل الشرق بعضهم مع بعض. وبعد ذلك اطل الغرب على الشرق بالثقافة العلمية والافكار التحررية التي كان يعيشها في بلدانه. فتعاطف مسيحيو الشرق مع القادمين اليه من الغربيين. وتمادوا في هذا التعاطف، إلى حد بلوغ الظن عند بعضهم مبلغ اعتبار التطور الفكري محصوراً بمكان من العالم، والتخلف محصوراً بأمكنة اخرى.
لكن الزمن قد فعل فعله معيداً الامور إلى نصابها، والحقائق إلى مواقعها الصحيحة فنهض الشرقيون، مسلمون ومسيحيون معاً، لاستشراف مستقبل جديد موحد الجهود والتطلعات، وعادوا يفخرون بتراثهم الشرقي الموحد على تنوعه، وانطلقوا في حياتهم السياسية إلى مطالبة الغرب بالاعتراف لكل ذي حق حقه، فاتحين لعهد جديد من العلاقات بين الشعوب، على اساس الاحترام المتبادل والتعاون الصحيح لما فيه خير انسانية متصالحة بعيدة عن الاستغلال والسيطرة على انواعها، ولكننا ندرك ان القرن العشرين على مشارف افوله لم يكن كافياً لقطف ثمار كل هذه الجهود، وان على الاجيال الطالعة ان تكمل مسيرة بدأت وقد هانت وتهون في سبيلها كل التضحيات.
2- النظرة الجديدة الاسلامية والمسيحية إلى الغرب
قد يطول الكلام بنا إذا ما اردنا النظر إلى التحولات الجذرية في هذه النظرة الجديدة إلى بلاد الغرب، إلا اننا نذكر ميزتين اساسيتين لها: أولاهما تقارب يذهب إلى التوحيد بين النظرة المسيحية والنظرة الاسلامية في هذا المجال، وثانيهما فتح باب الاستقامة في العلاقة بين الشرق والغرب، وبصورة خاصة في المجال الثقافي. لقد انتهى عهد استعلاء الثقافة الغربية وابتدأ عهد احترام الثقافات بعضها لبعض في كل منطقة من مناطق العالم. وفيما يخص الثقافة العربية والاسلامية فإننا اليوم، أكثر من كل يوم، امام احياء القيم السامية لها، وامام تفاعلها الايجابي مع غيرها من الثقافات اخذاً وعطاءً.
ويشرفنا في هذا الموقع ان نستشهد بسماحة الإمام السيد موسى الصدر عينه، ونحن اليوم في رحابه فكرياً ووطنياً واجتماعياً، لندرك عمق الحقيقة التي خلص إلى تبيانها في كتاباته ومداخلاته حول هذا الموضوع الخطير.
يقول سماحته في محاضرة ألقاها في الندوة اللبنانية في 24 ايار 1965 بعنوان "الاسلام وثقافة القرن العشرين": "ارجو ان نتفق جميعاً ... على تفسير الثقافة بالحياة العقلية، ويشمل هذا الاصطلاح التشريع الحقوقي، الفلسفة والتصوف، العلوم، الفن والادب". وهل لنا ان نقول في هذا السياق: حبذا لو كان هذا التحديد ماثلاً في اذهاننا جميعاً يوم سجل تباين ظاهري في اجواء السينودس من أجل لبنان حول موضوع الوحدة والتنوع في الثقافات. لأن سماحته يعود فيقول في محاضرته عن مفهوم الاسلام للمجتمع: "انه واحد في كثرته، شأن الكون كله وشأن الانسان نفسه، متعاون متسابق إلى رضوان الله". ويزيد سماحته قائلاً في الثقافة الاسلامية: "انها واجهت ثقافات غير ثقافتها في التاريخ فلاقت هذه الثقافات شيئاً من الاصطدام والتردد ثم انطلقت واصبحت جزءاً من الثقافة الاسلامية".
إن هذا القول يحمل في طياته امكانية لقاء الثقافات في ثقافة واحدة، فتدخل الثقافة المسيحية إلى الاسلام في مكان، وفي مكان آخر تدخل الثقافة الاسلامية إلى المسيحية وتنفتح الآفاق نحو ثقافة عالمية تظهر في النهاية وحدة انسانية على تنوعها المقبول والمحبب لأنه ينبع من إرادة الله. إن في هذا القول ما يقوي وحدتنا الوطنية والثقافية في لبنان ضمن تنوع في مصادرها وفي تعابيرها، وما يجعلنا نتعامل مع ثقافة الغرب على مستوى التبادل الانساني الفعال، ونتعاون مع الغربيين في مواجهة القضايا العالمية المستجدة بقلوب منفتحة متقاربة على ما فيه خير الانسانية جمعاء. وإننا لنفخر بأن نذكر ثانية سماحة العلامة الصدر في تأكيده انفتاح الاسلام على كل جديد اذ فال في مقدمة لترجمة كتاب مفكر غربي: "إن القرآن الكريم هو حقيقة كونية بصورته الموجودة ويختلف بذلك تمام الاختلاف عن الكلمات البشرية" ويزيد قائلاً: "والكون والانسان حقيقتان تتجليان في كل مرحلة حضارية بصورة جديدة. والقرآن الكريم، هذه الحقيقة، تنكشف في كل مرحلة ايضاً بصورة جديدة تناسب الصور الجديدة للكون والانسان، وتوجه الانسان إلى خطوة ايجابية جديدة في الكون". ونحن نقول هنا بكل صراحة، ان هذا هو تماماً فهمنا لدور كلمة الله عند المسيحيين في تنوير الثقافات مع تطوراتها واتيانها بكل جديد، فتبرز تجاهها جدة الكلمة الالهية المحيية للضمائر والقلوب. ونقول في الخلاصة ان النظرة الاسلامية والمسيحية إلى الغرب مدعوة إلى ان تكون نظرة مصالحة وتعاون وأخوة حقة. انه وعد المستقبل، شرط ان يفي الناس بوعودهم تجاه ذواتهم وتجاه الآخرين، والعكس وبالعكس.
3- لبنان المسلم والمسيحي ودوره الانقاذي للشرق وللغرب في آن
ولكي لا نطيل الكلام نحوّل القسم الثالث والاخير من مداخلتنا إلى خلاصة لما سبق، وإلى دعوة لدراسة هذا الدور اللبناني الفريد في خدمة الانسانية العالمية عبر الاديان والثقافات والمواقف الصحيحة منها في كل مجال، فنسارع إلى القول ان الغرب، في نهاية هذا القرن، لم يعد مسيحياً بالمعنى الحصري للكلمة. هو لا ينكر الجذور المسيحية لثقافته، ولكن خياراته السياسية والاقتصادية وحتى الاخلاقية لم تعد تتبع حكماً من المستلزمات المسيحية في هذه الامور، وابتعاد الغرب عن مسيحيته خسارة له وضياع. يكفي الاشارة هنا إلى وضع العائلة فيه وتفككها المخيف. اما الشرق الاسلامي فإنه يفتش عن ذاته احياناً عبر الاصولية التي يخشاها الغرب ولا يفهمها حق فهمها. فالاصولية بحد ذاتها هي عودة إلى الاصول أو إلى الاصالة. وإن كانت هي هكذا فهي نعمة وليست بنقمة. اذ يحق للشعوب أن تفتش عن هويتها وأن ترفض التغرب الفكري والسياسي لأبنائها، لكنها ملزمة في كل حال بكل "كلمة سواء" تقال بين شعب وشعب، وبين ثقافة وثقافة. فعلى المسلمين في لبنان أن يقدموا للعالم الاسلامي بأسره نظرة كاملة تتصالح فيها الاصولية والحداثة في تناغم وتوافق كاملين.
ونحن جميعاً في لبنان، كوننا نحيا نعمة التلاقي بين المسيحية والاسلام في جو من الحرية الخلاقة والمسؤولة، بمقدورنا ان نقوم بدور عالمي شامل، ذلك بشرط عيش المسيحية الحقيقية والاسلام الحقيقي، وبشرط التفاهم العميق والمحبة المتبادلة، وبشرط الترفع فوق الآفاق الضيقة والمحليات الصغيرة. عندئذ ندخل في حوار مع المسيحية الحيّة في الغرب من اجل انقاذ القيم الانسانية فيه من الضياع، وفي حوار مع الاسلام الحي في الشرق وفي كل مكان من اجل حفاظه على قيمه، فتتفاعل معها كل الشعوب.
أيها الاخوة،
نحن في هذا المؤتمر امام فرصة للقيام بفعل ايمان بلبنان العالمي الدور والافادة، وإن لنا منه اليوم وعداً بغد مشرق بفضل الميامين من ابنائه ومحبيّه، فوق كل ظلمات الحاضر وظلاماته. فهنيئاً لمن يطلّون بروحهم وبشوقهم إلى منازل الغد. فهم ليسوا فقط اهل نظرة إلى الامور، بل يصيرون حيالها اهل رؤيا. فإليهم نكل قبل سواهم أمر المصير. وشكراً لإصغائكم.