كلمة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ بهجت غيث في مؤتمر "كلمة سواء" الأول: الإمام الصدر والحوار
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد له وحده وبه في جميع امورنا نستعين.
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه اجمعين.
اصحاب السماحة، اصحاب المعالي والسعادة، اصحاب الفضيلة والفضل، اخواننا الاعزاء، الحضور الكرام.
نحييكم ونبارك لقاءكم، ويسعدنا ان نشارككم في افتتاح هذه الندوة الفكرية الذواقة من مائدة الكلمة السواء، الغنية بأصناف موضوعاتها، ونبل اغراضها وغاياتها، وسمو توجهاتها وتطلعاتها، مما يجعلنا نبادر بتوجيه كلمة شكر وثناء وتقدير لجهود القيمين على رعاية مؤسسات الإمام الصدر للابحاث والدراسات التي تولي الاهمية القصوى للمبادئ والقيم والثوابت التي كان يؤمن بها الإمام، الذي استطاعت ايدي الاجرام الخفية اخفاء اثر جسده، ولكنها لم تستطع اخفاء تأثير ما كان يؤمن به، ويجسده بقناعاته وممارساته وطروحاته الفكرية التي احدثت تغييراً جذرياً في ذهنية بني قومه وامته، وثورة تحررية مؤثرة بالاجيال الطالعة، اخرجتها من ضيق أفق الاقطاع والجهل والتخلف والتبعية العمياء في سجن الشرنقة الطائفية والمذهبية، إلى الرحاب الوطنية والقومية وآفاق التحرر والانفتاح على العلم والثقافة والحوار العقلاني المواكب لتقدم الحضارة المعاصرة التي نعيشها، بكل ما فيها من تناقضات ووجوه مختلفة وصراعات محتدمة ومتسارعة مع نهاية هذا القرن.
فالتقدم العلمي، في عصر غزو الفضاء، واكتشاف اعماق البحار، واستخراج كنوز الارض والتنعم بخيراتها، والتطور والرقي الذي بلغه الانسان في مختلف الحقول والميادين خلال النصف الثاني من هذا القرن، حيث اصبح هذا الكوكب الارضي الذي نعيش عليه اشبه بقرية كونية احياؤها شديدة القرب والتأثر بعضها ببعض.
هذا التقدم في سلم الحضارة المادية إلى اقصى درجاته واعلاها، قابله مع الاسف تخلف وتقهقر خطيران جداً في مفاهيم القيم والمبادئ الروحية والاخلاقية، انها لمفارقة عجيبة تسترعي الانتباه والتأمل والبحث عن اسبابها وبذل الجهود لتشخيص الداء ووصف الدواء قبل فوات الاوان.
كيف استطاع انسان هذا العصر التغلب على كل ما اعترضه من صعوبات، وبذل الجهود المضنية والعمل الدؤوب لتحطيم جميع السدود، والتغلب على كل العقبات لبلوغ هذا القدر من المعرفة بأسرار الوجود المادي، ووقف عاجزاً حائراً امام سد معرفة نفسه ولم يستطع لذلك السد نقباً؟
وإذا كان الانسان عدو ما يجهل، فمن الطبيعي، ان يكون هو ذاته عدواً لذاته، لأن معرفة النفس امر عظيم، والجهل بها يؤدي إلى ظلمها، وبالتالي إلى جهل الآخرين وظلمهم، وهكذا حال انسان هذا العصر الذي انخدع بسراب المادة، واصبح اسيراً في قفص رغباته واطماعه وشهواته، واشتغل بالنعم ونسي المنعم، ونسي اوامره ونواهيه وكلمته السواء، وبالتالي اصبح في خسر إلا الذين عملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
هذا ما ينطق به كتاب النور والاشراق الذي اشرقت بأنواره الشمس المحمدية من مشارق الشموس الاحدية التي اضاءت الارض والسماء، ودعت إلى الكلمة السواء التي سمعتها ووعتها آذان عقول المؤمنين، من عائلة اهل الذوق والمعرفة واليقين من كل امة وشعب ودين. انها كلمة البدء والختام، كلمة الختام التي كانت منذ البدء، وكان بها ومنها الكون والتكوين لأمر المكون المبدع جلّ وعلا، كانت وما زالت واحدة موحدة في جوهرها رغم اختلاف مظاهرها في تعددية الاديان والمذاهب والكتب والرسل والرسالات التي انزلت وبعثت لتكمل بعضها بعضاً، وتنطق بكلمة واحدة، كأنها تخرج من فم واحد لغرض واحد في كون واحد.
انها كلمة الحق الواحد الاحد الفرد الصمد، الذي اوجد الوجود ليوجد، وخلق الانسان على صورته بأحسن تقويم ليعرف به ويوحد، كما في قول الحديث القدسي الشريف "كنت كنزاً مخفياً لا أُعرف فأَحببت ان أُعْرَف فَخَلَقْتُ الخلق فبي عرفوني".
واية معرفة تسمو على معرفة الحقيقة التي اشرقت من مطالع شموس الاحدية، المتألقة منذ القدم من افق العزة الالهية بسرج التجلي، خلقاً بعد خلق من مرايا الهياكل القدسية التي اودع بها الحق سبحانه وتعالى سر قدرته القدوسية، وسر كلمته التوحيدية المضيئة بزيت تلك الشجرة اللا شرقية واللا غربية، ومهما تعددت الازمنة والالسنة والتجليات والاشراقات، ومهما تفرعت اغصان تلك الشجرة المباركة وتعددت ثمارها وسرج مصابيح انوارها. فزيت تلك السرج والمصابيح واحد، وانوارها واشعتها تبقى واحدة موحدة في مرايا عقول ذوي الالباب والنخبة الواعية المدركة لحقيقة ما يدعو اليه الكتاب، وكل الكتب والرسالات المجمعة في جوهرها على كلمة الحق والحقيقة الواحدة الجامعة لكل الحقائق والمعاني للامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكل ما يجمع ولا يفرق، وكل ما يعود بالخير والسعادة للعائلة الانسانية جمعاء ويجنبها مخاطر الشر والبؤس والشقاء.
أيها الأخوة المؤمنون! نولي الاهمية القصوى في كلمتنا لمعنى كلمة سواء التوحيدي الذي نحن بأمس الحاجة لفهم جوهره، والترفع عن اضاعة الوقت في البحث بقشوره، فنقول بكل صدق ومحبة واخلاص: ان العالم كله في واقعه وجوهره ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما، قسم في جنة العقل والسعادة، وقسم في جهنم الجهل والشقاء. وهذا حال المجتمع البشري في كل دين ومذهب وطائفة وشعب وامة على وجه الارض الكونية الواحدة، وتحت هذه الشمس الواحدة، ومظاهر الاديان والمذاهب والطوائف، وغير ذلك من تعدد الانتماءات والهويات ليس إلا ألبسة متعددة بألوانها وقياساتها واحجامها وانسجتها للجسم الانساني الواحد، وقد يلبس الجسم هذا الثوب ثم يبدله بذاك، ثم يعود ويرتدي هذا ويبقى الجسم جسماً مهما اختلفت معالم خلقته، وتبدلت وتفاوتت اماكن تواجده، وتغيرت قياسات والوان ألبسته. وانتماء الهوية الجسمانية لدى الخلق لا يغير انتماء الهوية الروحية لدى الخالق، ومن هنا ينضج المعنى العميق لجوهر الآية الكريمة: ﴿ان الدين عند الله الاسلام﴾.
وقد قال سبحانه وتعالى في كتاب الخلق والابداع: ﴿هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير﴾ ]التغابن: 2[ ﴿خلق السموات والارض بالحق وصوركم فأحسن صوركم واليه المصير﴾ ]التغابن: 3[ . وهو سبحانه وتعالى اعلم بخلقه وألطف بهم واقرب اليهم من حبل الوريد ولكن أكثر الناس لا يعلمون. امرهم بالتراحم، ورحمهم وامرهم بالتصادق، وصدقهم وامرهم بالجود، وجاد عليهم وامرهم بالعفو، وعفا عنهم وامرهم بالكلمة السواء، وساوى بالعدل فيما بينهم في قوله وقوله الحق: ﴿ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة﴾. فليس بقابل منهم إلا مثل ما أعطاهم ولا آذناً لهم بالخروج عما امرهم به ونهاهم عنه.
فأين إنسان هذا العصر، الغارق في مفاسد وشرور ما صنعته يداه من الحضارة المزعومة، والمخدوع بسراب المادة الذي خنق روحه، وألهاه بالنعم وانساه المنعم عليه، فنرى ونسمع كل يوم ما يحدث في هذا العالم من نزاعات وحروب وصراعات دولية وعرقية ودينية ومذهبية، وما يعيش هذا العالم من هواجس ومخاوف ومخاطر تتسارع وتتزايد وتقترب من الكارثة مع نهاية هذا القرن، وقد صدق من قال: إذا ذهب الوفاء نزل البلاء.
ونعيش في لبنان وسوريا والعالم العربي صراعاً عنيفاً مع الكيان الصهيوني يستحوذ على كل الاهتمامات، ويتصدر الاولويات، ويبقى الهم الوطني والقومي الاكبر من كل الهموم الداخلية الصغيرة. رغم ما يعاني الشعب اللبناني من هموم ومشاكل داخلية، وازمات معيشية، وضيق وارباك وخلل في الممارسة، والذهنية والادارة لشؤون البلاد اوصلنا لما نحن عليه من هالة لا نحسد عليها. وقد قيل الكثير في ذلك، وقلنا كثيراً وصبرنا ولم نزل صابرين مع الدعاء لهم بالإلهام الصواب، ومع القناعة بأنه لن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ويبقى الامل بالتغيير والاصلاح والوعي بخطورة المرحلة والجدية في إعطاء الاولوية للشؤون الحياتية للمواطن اللبناني الصابر على كل اصناف المعاناة، ايماناً منه وشعوراً بالمسؤولية الوطنية والمصلحة القومية التي تبقى ببقاء وحدة الشعب واصالته عبر تاريخه النضالي البطولي العريق، حيث تعود على اجتياز المحن وتجاوز المصاعب بصبره وايمانه وثباته ووقوفه إلى جانب الشعب السوري الشقيق واشقائه من الدول العربية في موقف الوعي لمكر العدو والتضامن والصمود مع لبنان المقاومة، وسوريا الاسد، حتى تحرير الارض المغتصبة والمقدسات، واسترجاع الحقوق والكرامة العربية سلماً او حرباً. ونحن على يقين انه لا بد في النهاية من انتصار الحق على الباطل مهما علا، ولا بد من الصبر بإيمان وصدق ويقين مع الحق، ليصنع كلمته السواء، ويعيدها كما بدأت في خلقه، ويملأ بها الارض عدلاً وقسطاً بعد أن يكون قد ملأها انسان هذا العصر بحضارته المزيفة جوراً وظلماً.
وختاماً، لن نطيل الكلام عليكم فيما هو موضوع ندوتكم، وموضوع اهتمامكم معشر العلماء والعقلاء والفهماء واولي الالباب والنخبة الواعية من عائلة اهل الذوق، نتمنى لكم التوفيق في ابحاثكم ومداخلاتكم واجتماعاتكم على الكلمة السواء وسبل الهداية لقطف ثمار شجرتنا المباركة الزكية، والاعتصام بعروتها الوثقى التي لا تنفصم، وعدم الاكتفاء بالقول بل بالعمل بها. ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾. والسلام عليكم وعلى كل من اتبع الهدى وصدق بكلمة الحق السواء وتجنب عواقب الردى.