كلمة رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين في افتتاح مؤتمر "كلمة سواء" الأول: الإمام الصدر والحوار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الذين اتبعوه، والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر﴾ وقال سبحانه وتعالى ﴿والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان﴾.
في هذا المؤتمر الذي ينعقد تحت شعار الكلمة السواء من قِبَل مركز الصدر للدراسات والأبحاث، وفي الموضوع الذي خصص له، يأتي المؤتمر في زمانه وفي اهله وفي مكانه وفي مرحلته، حيث يطرح القضايا الكبرى بكل ما تتضمنه مما يثقل ويشغل حياتنا العامة على المستوى الوطني والعربي والاسلامي والعالمي.
سأُلم إلمامة سريعة أضيء بها هذه المساحات، لأن الحلقات التي خصصها هذا المؤتمر لهذه الامور ستفيض في شرحها وبيانها.
الكلمة السواء على مستوى حياتنا الوطنية التي تُعيد طرح قضايانا دائماً، وهي يجب ان تطرح دائماً، ولعل من افضل مظاهر حياتنا الوطنية في لبنان أننا نقول الاشياء بأسمائها غالباً. كل العالم العربي بحاجة إلى أن يطرح قضايا الوحدة، وكل العالم الاسلامي كذلك. الوحدة الوطنية التي نعتقد أو كنا نعتقد أنها مريضة في لبنان، يبدو وبكل أسف بأنها مريضة في غير لبنان ايضاً، واذا كانت الوحدة ومقولاتها في العالم العربي والاسلامي تُصان بالقوة، فلا تظهر التنوعات والتناقضات ومظاهر الصراع، فإن هذا الوضع يشكل خطراً على الوحدة نفسها، فليس مهماً ان نتوحد في أي مجتمع وطني بالقوة، لأن الأساس في الوحدة هي في أن تنبع من الذات ومن الداخل، وان تكون هي حسن نفسها ولا تكون قراراً مفروضاً من الخارج.
ولعل من حسناتها في لبنان اننا نطرح دائماً قضية وحدتنا، لا شكاً فيها بل تبصراً فيما بيننا في افضل السبل التي تصونها. ومن هنا عصفت كل العواصف بلبنان، وتهدم فيه كل شيء، وتصدعت فيه كل البنى، ولكنه حافظ دائماً على رسوخ ذاته وكيانه في وحدته التي لم تنقسم قط، هذا المشروع الدائم الذي صنعه اللبنانيون بأنفسهم. واقول دائماً ان لبنان ليس وطناً مُعطى بل هو صنع دائم وخلق دائم من قلوب وارادات اهله وابنائه وفئاته.
هذه الوحدة هي بحاجة إلى حوار دائم نقوم به على المستوى الوطني الاسلامي المسيحي من اجل صون هذه الوحدة وإعادة صياغتها باستمرار، لتكوين مجتمع سياسي مستكين موحد في نظام مصالحه، وفي آفاق تطلعاته، ولأجل ان نعيد دائماً صياغة أنفسنا بما يوائم نظام مصالح وطنية واحدة ينتظم فيها الجميع فلا يكونون ممثلين لأنظمة مصالح شتى تنتظم فيها الطوائف. فهو اخطر ما يواجه الحكم بجميع مؤسساته واخطر ما يواجهه المجتمع بجميع مؤسساته، هو تكوين انظمة مصالح في لبنان تتصارع فيما بينها من خلال رموزها في المجتمع وفي الدولة وفي الدين. يجب ان نتجاوز هذا كله لبناء المصالح الوطنية الواحدة التي هي الاساس في وحدة لبنان.
نريد الحوار الاسلامي المسيحي في لبنان لا لهدف الدين واليوم الآخر بل لهدف عيشنا المشترك وبناء علاقات اخلاقية فيما بيننا تقوم على الثقة والمصداقية وعلى توحيد المصائر في مجتمعنا. واكبر ما يواجهنا هو اعادة بناء المجتمع والدولة وهما القضيتان الكبريان في مرحلتنا الحاضرة. ومواجهة المشروع الصهيوني لا تتم فقط لتنفيذ القرار 425 بل اختراع رسالة للبنان او تجديد رسالته في عالمه العربي وفي المنطقة والعالم بما يواجه المشروع الصهيوني ضد المنطقة وضد المسيحي والمسلم معاً. حينما نتوافق على هذه المواجهة بكل تجلياتها في الدولة والمجتمع في المقاومة المسلحة والصمود وفي الموقف السياسي. على مستوى لبنان والعالم العربي، لا نريد فقط تحرير لبنان وانما نريد استعادة رسالته في مواجهة المشروع الصهيوني. مررنا في حالات توهم الآخرون فيها ان في لبنان رأيين تجاه المشروع الصهيوني، وتوهم البعض الآخر في الشرق والغرب ان في لبنان صوتين وفهمين واتجاهين، ولكن حينما تجلت الحقائق تبين ان لبنان يحمل عقيدة واحدة راسخة. ولم يكن نداء المسجد مختلفاً عن نداء الكنيسة، ولم يكن هتاف المسلمين مبايناً لهتاف المسيحيين، فقد انخرطوا جميعاً في مشروع واحد هو مواجهة الاحتلال. والقضية التي يجب طرحها برأيي ليست فقط مواجهة الاحتلال، هو امر سينتهي بالنهاية، ولكنها القضية التي يحملها لبنان، وربما لا يحملها اي عربي ولا اي مسلم، وهي مواجهة المشروع الصهيوني بكل مضامينه الفكرية والسياسية. وهذا اطار من اطر الحوار الذي ينبغي ان يهدف إلى تكوين "كلمة سواء".
المجال أو الإطار الآخر، هو التضامن العربي في مواجهة المشروع الصهيوني ومشكلات النمو والمعاصرة والحداثة، والمشكلات التي يثيرها انتصار الانسان وهزيمته في القرن العشرين والتي سيحملها معه إلى القرن الواحد والعشرين الميلادي. هنا نريد، وعلى هذا المستوى، ان يتوحد العرب ويتضامنوا في منطق يجمعهم على القضايا والقواسم المشتركة التي ترتهنهم جميعاً والتي تشكل في الوقت نفسه آفاق مستقبلهم، وهما قضيتان كبيرتان تتعلقان بالخارج وقضية كبرى تتعلق بالداخل، ألا وهي إعادة الاعتبار إلى الإنسان، بكل ما تعنيه إعادة الاعتبار هذه في كرامته البشرية وحقه في العيش الكريم وعدم ارتهانه للسياسات إذا اختلف معها، أي بأن يكون من حق الإنسان في العالم العربي ان يتنوع في الوقت نفسه الذي يحافظ فيه على مجتمعه وكيانه الوطني، وكل ما يعد قاسماً مشتركاً بينه وبين غيره من المواطنين. إذاً ان كرامة الانسان هي القضية الاولى التي نواجهها، وعلينا ان نزيد من انتصاراتنا فيها، ولا اريد بهذا الكلام نقداً، ولكن اريد به ما علمنا الله اياه وعلمه للبشر جميعاً من رسله الكرام، وإلى ابسط الناس شأناً حينما قال سبحانه وتعالى: ﴿وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾.
أما القضيتان الاخريان فهما قضية المشروع الصهيوني، ضد العالم العربي والاسلامي والموقف من الغرب. في المشروع الصهيوني نمر في ازمة تخوض انظمتنا تجربة فشلت فيها، لا بسبب عدم اخلاصها في هذه التجربة، وانما بسبب ان المشروع الصهيوني نكث بتعهداته، وبسبب ان النظام العالمي من خلال قواه الكبرى تواطأ مع هذا النكث أو غض البصر عنه، في الوقت نفسه نخوض امتنا في العالم العربي بمسلميها ومسيحييها، ويخوض العالم الاسلامي كله، ما دعوتها خيارات الامة. هذه التجربة بوجهيها على المستوى الفاشل فيما يتعلق بالانظمة وعلى المستوى الصامد فيما يتعلق بالامة. في هذا المجال نضع الغرب امام اختبار كبير لانسانيته ولادِّعاءاته.
في هذا المجال، الحوار الذي يجب أن يقوم على مستوى عالمنا ومنطقتنا يجب أن يهدف إلى هذه الامور الثلاثة: صون كرامة الانسان في الداخل، وتحرير هذا العالم من الاخطار التي يوجهها إليه المشروع الصهيوني الذي يهدد كل البُنى فيه لا اقتصاده فقط، بل ثقافته وانسانيته وكياناته السياسية، ويهدد قبل وبعد كل شيء وحدته على المستويات الوطنية، او على مستوى الايمان الكبير، إيمان ابراهيم الذي يجمع المسلمين والمسيحيين معاً. والأمر الثالث كما قلت هو موقفنا ورؤيتنا للغرب، وهنا نأتي إلى التضامن العربي الاسلامي الذي يجب ان يكون نتيجة لحوار سميناه فيما مضى مشروع "المتحد القومي العربي الاسلامي"، وهي تسمية انطلقنا فيها في احدى احنك وأمجد مراحل نمونا ومعاناتنا، لا نريدها ان تنحصر بالعرب والمسلمين، فهي مع الاتراك والاسلام وايران والاسلام ومع كل قومية والاسلام ونحن نشاهد الآن مظهراً من تمظهرات التنابذ أو التلاقي بين التركية الطورانية وبين الاسلام. ونهدف أن تقوم هذه المصالحة، ونحن الآن نتحدث في اطار العالم العربي، نهدف ان تقوم إذاً هذه المصالحة وهذا التكامل بين هذين الوجودين والكيانين الحقيقيين الذين لا يمكن ان يلغي احدهما الآخر، وحينما لا يكون هناك مجال للالغاء يتعين ان يكون الخلاص بالحوار. هذا المتحد هو هدف طرحناه وهو يطرح نفسه ولم نخترعه، هو موجود ندعو ان يتابع على كل صعيد وبإخلاص كبير وعلى اساس الثوابت الكبرى، إن لم تكن متناقضة في وقت من الاوقات ولا في مرحلة من المراحل.
الحوار الاسلامي المسيحي على مستوى المنطقة والعالم هو كما سمعنا وكما نفهم، ليس ترفاً وليس فضولاً، بل هو حاجة حياة كانت قائمة ولا تزال حتى الآن في لبنان، ونحن الآن نتحدث من على منبر من منابر الإمام السيد موسى الصدر، كان هذا الحوار احد أنصع تجارب لبنان وأنقاها وأكثرها يمناً. وكان فيها الإمام الصدر فارساً كبيراً ورائداً كبيراً، وفي هذا المجال لا تزال ملامح مدرسته تتوالد وتتجلى مرحلة بعد مرحلة.
هذا الحوار الاسلامي المسيحي هو ضرورة لمواجهة المشروع الصهيوني، ولمواجهة التحدي الذي نستقبل به قرننا القادم. ومن هنا نطرح مشكلة علاقتنا بالغرب، وهذا المحور هو أحد محاور هذه الندوة.
فصورة الغرب في روحنا وعقلنا تجلت تجليين نريد التخلص منهما. أول ما تجلت منذ الصدام الكبير في الاحتلال النابوليوني لمصر، وحتى يومنا هذا تجلت في الاستعمار، ولا تزال هذه الصورة تتوالد حتى يومنا هذا، وأقول من دون مجاملة، الحوار يقوم على الصراحة المهذبة والاخلاص في النوايا ولا يقوم على المجاملة، هذه الصورة هي التي نحملها في قلوبنا وعقولنا وعلى مدى اجيالنا كلها لهذا الغرب القديم والجديد، لأن هذا الغرب بعد ان مَظْهَرَ نفسه من جديد في الاستعمار الجديد الامبريالي، لا يزال يرتكب نفس الاخطاء ولا اريد ان اسميها جرائم، ولكن لغة حوار، واقول لا يزال يرتكب نفس الاخطاء، هذا هو التحدي الاول. ما هو موقف الغرب منا؟ لا اقول ما موقف الغرب من نفطنا او مياهنا او اجوائنا. ما هي القيمة الحقيقية التي ينظر بها الغرب الينا هل ينظر الينا باعتبارنا بشراً أو باعتبارنا سوقاً للاستهلاك؟ هل ينظر إلينا باعتبارنا نجسد قيماً انسانية ام قوى تستهلك السيارات وكل السلع التي ينتجها هذا الغرب؟ هذه نقطة اولى.
أما المشكلة الثانية والصورة الثانية التي نحملها في عقولنا وقلوبنا للغرب فهي المشروع الصهيوني. وهو ليس منذ وعد بلفور، بل منذ المشروع النابوليوني القديم لفصل العالم العربي وشقه في قسمه الافريقي عن قسمه الآسيوي منذ القرن الثامن عشر، قبل ولادة ما يسمى بالمسألة الشرقية، والقضية الشرقية، والتي توالد فيها هذا المشروع وتمظهر إلى ان انتهى في آخر تجلياته عندنا في مجزرة قانا والقدس او الخليل قبل ايام، في النفق الذي حفر تحت بيت المقدس. هذه مشكلتنا مع الغرب، في اي صيغة يريدنا الغرب، سياساته وجامعاته ودوله وبنوكه وشركاته الكبرى، بأي صيغة يريدنا ان نتعامل معه، وبأي منطق يريدنا ان نحكم علاقتنا به، إن كان الغرب يريد ان يحكم علاقاتنا به ويبلورها بالصيغة التي بدأت امس، وهي مستمرة حتى اليوم في القاهرة، في المؤتمر الاقتصادي الشهير وفي كل ما بُنيَ عليه هذا المؤتمر، أعتقد اننا نواجه مستقبلاً صعباً مع هذا الغرب.
نحن نطرح هذا التحدي من خلال الدعوة إلى "كلمة سواء" مسيحيين ومسلمين، عرباً وغير عرب، في هذا العالم نطرح طموحنا إلى هذه "الكلمة السواء" في أن نبني مع هذا الغرب بتجلياته الحديثة في الاتحاد الاوروبي، او في الولايات المتحدة الاميركية، واقول حتى، وبالرغم من كل المخاطر في الصيغة الأطلسية بكلتا صيغتيها، نحن نمد يداً للمشاركة وللانفتاح ولتوحيد أنظمة المصالح ولكرامة الإنسان، بكل ما تعنيه هذه الكرامة من حفظ للحقوق والتزام بالواجبات، هدف هذا الحوار هو هذا. ونحذر انفسنا ونحذر الآخرين من ان يكون الحوار بيننا وبين الغرب حوار الضحية والجلاد، وحوار اللص وصاحب المال، وحوار الاجلاء والعزيز، هو حوار على ارض واحدة ومن منطلقات واحدة، ولا يدخل في هذا الحوار ابداً مسألة انهم اعلم منا، ويملكون اسلحة ذرية يسمحون بها للصهاينة ولا يسمحون لنا، أنهم يملكون ثروات اكثر منا، وتقنيات اكثر منا، وهذا لا يدخل في القيمة الانسانية ابداً فأبسط الناس واكثرهم غنى وعلماً يقطنان على ارض انسانية واحدة ولقد كرمنا بني آدم، "وهو المبدأ الاسلامي الكبير الذي لم يربط كرامة البشرية بدين ولا لون ولا لغة ولا عرق، بل جعل الآدمية هي الاساس الذي ننطلق منه نحو هذه "الكلمة السواء". إذاً يجب ان نرسم ارضية الحوار وآفاقه، حوار لا يرضينا ان يكون بين الشرق والغرب الذي نشأ تحت شعار شمال وجنوب وفقراء واغنياء، كما لو اننا مجموعة من الشذاذ والشحّادين نريد ان نسترزق من ميزانيات الاتحاد الاوروبي او من ميزانيات الولايات المتحدة الاميركية. المهم هي القضايا الاساسية التي يجب حلها، وفي مقدمتها المشروع الصهيوني في منطقتنا الذي نريد ان نحدد الموقف منه، لا على مستوى الكلمات فقط، واقول بصراحة، لا على مستوى خرق الأمور الواقعة والدعوة إلى التفاوض، كما جرى منذ مدريد وحتى مفاوضات الذل الأخيرة التي تحدث الآن من أجل ما يسمى اعادة الانتشار في الخليل، فهذا ليس حواراً بل هذا منطق الاقوياء على الاذلاء، وهو منطق لا يمكن ان ينجح بوجه من الوجوه، بالنسبة للنظام العالمي الجديد. اقول وبكل مسؤولية لكل صيغة في الاتحاد الاوروبي وفي الولايات المتحدة الامريكية وفي الصيغة الاطلسية، الصيغة الاوروبية او العالمية، نحن مستعدون لأن نكون جزءاً من هذا النظام ولكن على اساس التكافؤ وليس على اساس التبعية، وعلى اساس تنويع وتوزيع الاختصاصات والاهتمامات في المجتمع العالمي وليس على اساس ان نكون منبعاً لتصدير الثروة وسوقاً لاستهلاك السلع، ولا يعنينا في شيء على الاطلاق ان تحل ما يسمى بمشكلة الشرق الأوسط خلال هذه السنة او ان تبقى خمسين سنة اخرى، لأن الصيغ التي تطرح الآن ليست صيغ حلول بوجه من الوجوه على وجه الاطلاق، وهو امر لا يمكن ان يستقيم عليه شيء على الاطلاق.
بكل اسف، وقد سمعت الآن كلاماً نبيلاً في كلمة الأخ السفير البابوي وفي كلمة غبطة البطريرك على لسان اخينا المطران العزيز، ان هذه الصورة للغرب في عقولنا وقلوبنا تلابست في زمن طويل جداً مع المسيحية، وقد ارتكز في القلوب والعقول ان هذه المسيحية التي هي دين الغرب هي التي ارتكبت فينا ما ارتكبت. بكل اسف تكّون هذا الشعور وتلابس لأن قوى الغرب التي لا تدين به لبست قناع المسيحية منذ الحروب الصليبية وإلى الآن وربما أقول بمعنى من المعاني إلى الآن، ولكننا علينا الآن أن نعي، وعلى المسيحية ان تعي أنه قد آن الاوان لنزع القناع المسيحي عن وجه الاستعمار ووجه المشروع الصهيوني بكل ما يعنيه ذلك الذي ينقذ الانسانية في القرن الواحد والعشرين من السلاح النووي والايدز.
ومما هو شر منهما هو خراب الانسان من الداخل، وخراب روحه وعقله وقيمه واخلاقياته. هو ليس الحلف الاطلسي، وليس أي حلف آخر، بل هو المسيحية والاسلام معاً بتركيزهما واحيائهما لقيم الايمان الابراهيمي العريقة التي تعيد صياغة الانسان من جديد. من هنا الآن توجد بعض التحديات البسيطة والملقاة على المسلمين في المسيحيين الذين يعيشون في عالمهم، لا اقول في لبنان فقط، بل في كل العالم العربي والاسلامي، هؤلاء المواطنون يجب ان يشعروا شعوراً حياً، وان تتكون في داخلهم قناعات راسخة بأنهم مواطنون مكتملو المواطنية والحقوق، يتحملون كل واجباتهم بكل المنطق والعدالة التي تفرضها الشراكة في الوطن والحياة والمصير. هذا التحدي تحمله وتواجهه الدول والحكومات الاسلامية ومراكز الفكر والتوجيه الديني الثقافي في العالم الاسلامي، من هنا يتوجه إلى الحركة الاسلامية العالمية، وإلى الصحوة الاسلامية المباركة هذا التحدي بأن تضبط ايقاعها وممارساتها، فلا ترتكب ما ينتهك هذا المبدأ الاساس في ديننا وايماننا واعمق قناعاتنا مع الله سبحانه وتعالى، فلا يتكرر ما نسمع به في مصر او الجزائر، اسر او قتل اي انسان مسيحي او كاهن مسيحي. هذا التحدي ان اقول للمسلمين جميعاً، حكومات وقيمين على المجتمعات المدنية والاهلية، هذا التحدي نواجهه وفي مقابلة العالم المسيحي في اعمق واقوى مواقعه، من الفاتيكان وإلى اصغر موقع من مواقع يواجه تحدياً كبيراً وانصاف الاسلام والمسلمين، عرباً وغير عرب، قبل كل شيء في مواجهة المشروع الصهيوني، وهي النقطة الحية التي يمكن عندها اللقاء، ويمكن ان يكون، لا قدر الله عندها التباين في مواجهة المشروع الصهيوني. لا يجوز بوجه من الوجوه ان تفشل المسيحية في هذا التحدي. نحن نعلم ان الغرب الاميركي فشل في هذا التحدي. نأمل بكل قوة، وهو ما عبرنا عنه لأصدقاء كبار، في مقدمتهم فخامة الرئيس شيراك، نأمل بكل قوة ألا تفشل اوروبا بهذا التحدي، ولكننا نريد من موقع الشراكة في الايمان ألا تفشل المسيحية في هذا التحدي الذي يعني ان يصحح الموقف وان يتكون موقف واحد في مواجهة المشروع الصهيوني من عروبة القدس إلى حق العودة وتفكيك المستوطنات وكل ما يتعلق بإنصاف الشعب الفلسطيني في مواجهة العدوان الذي لا يواجهه وحده، بل تواجهه الامة العربية كلها، ويواجهه العالم المسيحي الاسلامي معاً. نحن نعلم كل العمق والتأثر والاخلاص الذي تستبطنه المسيحية، في روما وغير روما، من حواضرها الكبرى في الفاتيكان وغيره من حواضره الكبرى، ولكن نريد ترجمة تتجاوز الكلام، عبرنا قبل اشهر في لبنان، في مؤتمر القدس، عن هذا التطلع وهذه الارادة الجامعة التي نريد ان تترجم، ونريد ان تأتي إلى وقت حينما يقول المسلمون والمسيحيون كلمتهم يجدون آذاناً صاغية في العالم الغربي لسماع هذه الكلمة وللوصول فيها إلى "الكلمة السواء".
هذه هي الحقول والاطر التي تشغلنا جميعاً بتقديري، ما هي الصيغ العملية واساليب الخطاب ونظام العلائق الذي يجب ان يتكون للوصول إلى بدايات هذا الطريق او نهايات مباركة، هذا ما يقع على عاتق اللجان او الندوات التي يتابعها هذا المؤتمر، وتتابعها مجامع اخرى مباركة ستنعقد في المستقبل، وقد تابعتها في الماضي، لأن هذا الهم هو هم اساسي وثابت في كل تطلعاتنا وليس مستحدثاً. من افضل ما يمكن ان يحدث هو انعقاد هذه الندوة من مركز الإمام الصدر، فهو محاور كبير من كبراء مشروع الحوار، لم يكن في هذا الموقع او ذاك، بل كان جسراً كما عبر عنه تراثه وفكره ومؤسساته. كان جسراً في هذا الحوار، كان الكلمة المتبادلة على الشفتين هنا وهناك، لم يكن في مقابل الآخر بل في موقعه، وفي موقع آخر كان يجسد الكلمة السواء ويتجدد دائماً في مثل هذه الندوة وفيما سمعناه عنه فيها، وفيما نكتنزه في ضمائرنا وقلوبنا عنه في لبنان وعلى مستوى التضامن العربي وعلى مستوى العالم في الحوار الاسلامي المسيحي المبارك. نسأل الله ان يبارك لنا في اعمالنا ويوفقنا في مرضاته آمين.
اخيراً من موقعي، انا اوجه من على هذا المنبر، وبواسطة حضرة الأخ سعادة السفير البابوي، الشكر العظيم لجناب البابا ولأمانة سر الدولة الفاتيكانية على الرسالة التي حملها سعادته إلى هذه الندوة، وإلى الاخت الجليلة السيدة رباب الصدر شرف الدين. ونشعر بالشكر والعرفان لهذا التحسس النبيل ولتعبير المشاركة الايمانية التي لم نفاجأ بها والتي حملتها هذه الرسالة، اشكره من على هذا المنبر وبصفتي إلى حضرة البابا الجليل وإلى امانة سر الفاتيكان وإلى سعادة السفير البابوي والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.