كلمة سيادة المطران كيرلس سليم بسترس رئيس اساقفة بعلبك وتوابعها للروم الكاثوليك في الجلسة الأولى من مؤتمر "كلمة سواء": الإمام الصدر والحوار
أولاً – نهج جديد في الحوار المسيحي الإسلامي
ان المسيحيين والمسلمين يعيشون اليوم معاً في الشرق العربي، وفي مختلف بلدان العالم، ولا يمكنهم أن يجهل بعضهم بعضا. فالحوار بينهم ضروري، وذلك على مختلف الأصعدة: على صعيد الحياة اليومية، وعلى صعيد الحياة الاجتماعية والحياة السياسية، وكذلك على صعيد العقيدة واللاهوت، اللذين هما على جانب كبير في اساس الفكر الاجتماعي والسياسي. هذا وان العالم، قد أصبح اليوم في وضع متقدم من التعارف والتقارب بين مختلف سكانه وأديانه، بحيث يبدو وكأنه صار بلداً واحداً، والبلدان، على تنوع لغاتها وتراثاتها، صارت تعاني من المشكلات عينها، بحيث أمسى من الضرورة بمكان تعاون جميع سكان العالم وجميع أديانه وبلدانه للعمل معاً على ايجاد حلول مشتركة للمشكلات التي يعاني منها الجميع على السواء، والكنيسة الكاثوليكية، في المجمع الفاتيكاني الثاني، قد نهجت في هذا الموضوع نهجاً جديداً، فانفتحت على سائر الاديان، واعترفت بما تحمل في طياتها من حقائق الهية ومن تعاليم مشتركة معها. وأصدر المجمع وثيقة في هذا الموضوع بعنوان "علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية" (1)، يمكن اعتبارها حدثاً هاماً في تاريخ الكنيسة، ونقطة انطلاق لمرحلة جديدة في تاريخ الفكر المسيحي.
1- وحدة الجنس البشري
تبدأ الوثيقة بتأكيد وحدة الجنس البشري ووحدة تساؤلاته ومشكلاته: "في هذا العصر الذي يتزايد فيه يوماً بعد يوم توثق اتحاد الجنس البشري، وتزداد فيه علاقات الشعوب بعضها ببعض، تنظر الكنيسة تبصر في ما تكون عليه علاقاتها بالأديان غير المسيحية. فإنها، في مهمتها الرامية إلى تعزيز الوحدة بين الناس، تنظر ههنا في ما هو مشترك بين الناس ويحدوهم على أن يحيوا مصيرهم المشترك" (2) . ترى الكنيسة أن مهمتها تقوم على تعزيز الوحدة بين الناس. أليس هذا هو هدف الدين أن يقرب الناس من الله وأن يقرب الناس بعضهم من بعض؟ ألم يقل السيد المسيح ان أولى الوصايا هي محبة الله، وان الوصية الثانية التي تشبه الأولى هي محبة القريب؟ وتشير الوثيقة إلى ما هو مشترك بين الناس: "ذلك بأن جميع الشعوب يؤلفون أسرة واحدة, فهم جميعهم من أصل واحد، أذ أسكن الله الجنس البشري كله على وجه هذه الأرض، ولهم جميعاً غاية قصوى واحدة، وهي الله الذي يبسط على الجميع كنف عنايته وآيات لطفه ومقاصده الخلاصية، إلى أن يجتمع مختاروه في المدينة المقدسة التي يضيئها مجد الله، وفي نوره تسلك الشعوب جميعا" (3) .
فالله اذن هو غاية جميع الناس، واليه تسعى كل الأديان، تضيف الوثيقة الفاتيكانية موضحة دور الأديان في تقديم أجوبة عن تساؤلات الناس: "وينتظر الناس من الأديان المختلفة جوابا على الألغاز الخفية لواقع الانسان التي ما فتئت في الامس، ولم تفتأ اليوم ايضاً، تدخل القلق البالغ على قلب الإنسان.
فما الإنسان؟ وما معنى الحياة وغايتها؟ ما الخير والخطيئة؟ وما اصل العذاب وغايته، ما الطريق إلى السعادة الحقة؟ ما الموت والدينونة، وما الثواب بعد الممات؟ وأخيراً ما السر القصي الذي يكتنف وجودنا ويسمو على الادراك، وهو المبدأ واليه المعاد؟" (4).
2- الأمور المشتركة بين الأديان – واجب الاحترام والتعاون بينها
في أجوبة الأديان المختلفة عن تساؤلات الناس هناك أمور كثيرة مشتركة يجب ابرازها، لتعزيز الاحترام المتبادل بين الأديان، يضيف النص: "والكنيسة الكاثوليكية لا تنبذ شيئاً مما هو في هذه الديانات حق ومقدس، وتولي تقديرها باحترام صادق هذه الطرق المسلوكة في العمل والحياة، وهذه القواعد والتعاليم التي، وان اختلفت في أمور كثيرة عما تقول به وتعلمه، تحمل غير مرة، قبسا من شعاع الحقيقة التي تنير جميع الناس. من أجل ذلك تحرض ابناءها على الاعتراف بالقيم الروحية والأدبية والاجتماعية والثقافية التي توجد عند اتباع الديانات الأخرى، والمحافظة عليها وانمائها، وذلك بطريق الحوار والتعاون معهم، بمقتضى الفطنة والمحبة، مع الشهادة للايمان والحياة المسيحية" (5). فمن جهة تحترم الكنيسة سائر الأديان وترى فيها قبسا من الحقيقة الالهية، وتتحاور وتتعاون مع أصحابها، ومن جهة أخرى تبقى تشهد لما يميزها عن سائر الأديان على صعيدي الايمان الذي تعبر عنه العقيدة المسيحية، والأخلاق التي تتجلى في الحياة المسيحية. فالحوار مع سائر الأديان يجب ألا يقود إلى التلفيقية والتسطيح الديني، بل يحافظ على التمايز ويعمل على الحوار والتعاون وكل ذلك في الفطنة والمحبة.
3- الأمور المشتركة بين المسيحية والإسلام
وتشير الوثيقة عينها إلى ما هو مشترك بين المسيحية والاسلام: "تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحي القيوم، الرحمن القدير الذي خلق السماء والأرض، وكلّم الناس. انهم يسعون بكل نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله، وان خفيت مقاصده، كما سلم لله ابراهيم الذي يفخر الدين الاسلامي بالانتساب اليه. وانهم، على كونهم لا يتعرفون بالمسيح إلها، يكرمونه نبياً، ويكرمون أمه العذراء مريم، مبتهلين اليها احياناً بإيمان. ثم انهم ينتظرون يوم الدين الذي يجازي فيه الله جميع الناس بعد ما يبعثون أحياء. من أجل هذا يقدرون الحياة الأبدية، ويعبدون الله بالصلاة والصدقة والصوم خصوصا" (6) .
هناك اذن بين المسيحيين والمسلمين أمور كثيرة مشتركة على صعيدي الايمان والأخلاق.
فعلى صعيد الايمان، يتفق المسيحيون والمسلمون على عبادة الله الواحد الخالق، الذي كلم الناس بالأنبياء منذ ابراهيم إلى السيد المسيح، ويكرمون معاً مريم العذراء، ويترجون قيامة الأموات.
وعلى صعيد الحياة الدينية والأخلاق، هناك اتفاق على الصلاة والصدق والصوم، ويمكننا أن نضيف أن الاتفاق يشمل ايضاً معظم أمور السلوك الأخلاقي.
4- العلاقات بين المسيحيين والمسلمين:
استناداً إلى هذه الأمور المشتركة بين المسيحية والإسلام، يطلب المجمع من المسيحيين والمسلمين أن ينسوا المنازعات والعداوات القديمة، ويعملوا اليوم في التفاهم والتعاون على عمل الخير ونشر القيم الروحية والأخلاقية تقول الوثيقة: "ولئن كان قد وقع، في غضون الزمن، كثير من المنازعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين، فإن المجمع يحرضهم جميعاً على نسيان الماضي، والعمل باجتهاد صادق في سبيل التفاهم في ما بينهم، وأن يحملوا ويعززوا كلهم معاً، من أجل جميع الناس، العدالة الاجتماعية، والقيم الروحية، والسلام والحرية" (7).
تلك هي المبادئ الأساسية التي تطلب الكنيسة أن تسير بموجبها العلاقات بين المسيحيين والمسلمين. هناك أمور عقائدية لا نزال نختلف فيها، وربما سنبقى مختلفين فيها حتى يوم القيامة، كما جاء في القرآن الكريم: ﴿لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر، وادع إلى ربك، انك لعلى هدى مستقيم وان جادلوك فقل الله أعلم بما تعلمون الله يحكم بينكم يوم القيامة في ما كنتم فيه تختلفون﴾. [الحج: 67 –69]. ولكن هذه الأمور يجب ألا تعيقنا عن التعاون معاً على أعمال البر والتقوى، في سبيل احلال السلام والعدالة والمحبة بين الناس وبين الشعوب.
ثانياً: الحوار اللاهوتي بين المسيحيين والمسلمين
وان كان المسيحيون والمسلمون مختلفين في أمور الدين، لربما حتى يوم القيامة، إلا انهم لا يمكنهم، إلا أن يتحاوروا في تلك الأمور، لكونهم يعيشون جنباً إلى جنب، ولكون الحوار اللاهوتي يشكل الأساس لسائر أنواع الحوار، اذ ان الدين هو من العناصر الأساسية في تكوين الإنسان والمجتمع عامة، وخاصة في الشرق منبت الأديان التوحيدية الكبرى. إلا أن الحوار ليكون بناء يجب ان يرتكز على أسس ايجابية تشمل هدفه وأساليبه وتنقل المتحاورين من الرفض إلى القبول ومن الاحتقار إلى الاحترام.
1- أسس الحوار
أ- هدف الحوار اللاهوتي وأساليبه
والحوار في العصر الحاضر قد تغير هدفه وتغيرت أساليبه. اذ يسود أكثر فأكثر، بين الناس المنفتحين بعضهم على بعض، الاقتناع بأن هدف الحوار لم يعد، كما كان في العصور الوسطى، محاولة كل من الطرفين اقناع الطرف الآخر بأنه على ضلال، بل صار السعي إلى التفاهم المتبادل للوصول إلى الأمور المشتركة التي يجب التركيز عليها للعيش معاً في الاحترام المتبادل والسلام الدائم. كما أن اسلوب الحوار لم يعد التهجم على عقائد الآخر وتعاليمه، بل الاكتفاء بأن يوضح كل من الطرفين للآخر تعاليم دينه الخاص، والعمل على ازالة الالتباسات والأفكار المسبقة التي تكدست عبر الأجيال في ذهن كل طرف عن الطرف الآخر، اسلوب الحوار لم يعد الجدل، بل صار العرض الموضوعي لما يؤمن به كل من الطرفين والشهادة الشخصية لما يعتقد أنه يوصله إلى السعادة في هذه الحياة وإلى الخلاص في حياة الدهر الآتي.
ب- النظر بإيجابية إلى ايمان الآخرين
هذه الذهنية الجديدة هي التي عززها لدى الكنائس الكاثوليكية المجمع الفاتيكاني الثاني. وتطبيقاً للمبادئ الأساسية التي وضعها هذا المجمع، أصدرت أمانة سر الفاتيكان للعلاقات بغير المسيحيين وثيقة بعنوان: "توجيهات في سبيل الحوار بين المسيحيين والمسلمين" (8) ، هدفها: "مساعدة المسيحيين على انماء روح الحوار المشرب بالمحبة والاحترام، والذكاء والفهم. فالمسيحي الذي يروم أن يكون وفياً للانجيل يأبى الوقوف موقف اللامبالاة حيال ما يقوم به من بحث صادق أولئك الذين يقصدون الله مثله، وان كانوا غرباء عن ايمانه، ويحاولون ان يكرموه على طريقتهم" (9) .
وتبين الوثيقة كيف ان المسيحي لا يمكنه إلا أن ينظر بايجابية إلى ايمان الآخرين: "فما دامت السبل متشعبة، فالمسيحي مدعو إلى الاحترام والتفهم والتقدير لما ينطوي عليه الاختيار الديني الذي يختاره كل انسان من سر لا يدرك" (10) . وعندما ينظر كل مؤمن إلى الآخر نظرة ايجابية، يرى المؤمنون المتحاورون أنهم جميعاً يؤمنون بالله، وأن حوارهم هو أولاً وقوف في حضرة الله وكنفه، "وأن ربهم الواحد يدعوهم ويزداد حضوره فيهم على قدر ما يتقاربون". لذلك يدعوهم الله جميعاً إلى التوبة. "فلا مجال عندئذ لانتصار الواحد على الآخر، او لاحتمال ضم الواحد إلى الآخر، أو للتباري في المجاملة والملاطفة. ان الحوار هو تساؤل في الايمان وتنافس أخوي في العمل باسم الله" (11) .
وتوضح الوثيقة أنه ليس من المحظور على المسلم أن يتمنى لصديقه المسيحي ان يصير مسلماً، كما انه ليس من المحظور على المسيحي أن يتمنى لصديقه المسلم أن يصير مسيحيا. فهذا دليل قناعة كل واحد بإيمانه الخاص، ودليل محبة. "ولكن الحوار الصحيح يفترض عند الطرفين العزوف عن السعي إلى حمل الآخر على تغيير دينه على وجه مصطنع، أو حمله على الشك في معتقده الديني. وسيكون ذلك مسخاً أو خيانة للحوار الحقيقي المعد للنمو في حضرة الله وبفعل الروح القدس. وهذا الحوار هو دعوة متبادلة للطرفين إلى تعاون يتزايد باطراد في سبيل التوبة إلى الله توبة شخصية افضل، وطاعته في كل ما يأمر به ضمير المؤمن" (12) . المسيحيون والمسلمون يقرون بأن الله يريدهم أن يسيروا معاً، وان كانوا على اختلاف كبير، يشهد كل منهم لإيمانه ويعيشه في احترام الحرية الدينية المبنية على كرامة الشخص البشري عينها تاركين لله سيد التاريخ أن يحقق الوحدة التي يريدها وفي الوقت الذي يريده.
ج- مراعاة العوائق الحالية
وتستعرض الوثيقة العوائق القائمة في نفوس المتحاورين من مسلمين ومسيحيين، والتي تضاءل في أيامنا حظ الحوار، بل تعرض للخطر كل سعي إلى التلاقي والتفاهم. لذلك، لا بد من تبني الخطوات التالية:
- الاعتراف بمظالم الماضي ونسيانها: هناك عداوات ومظالم لا بد من الاعتراف بها، ولكن يجب وضعها في اطارها التاريخي واظهار العوامل الاقتصادية والايديولوجية والسياسية التي استغلت الاختلاف الديني. وهكذا تحرر القيم الدينية من المظالم التاريخية التي ارتكبت باسمها.
- التحرر من الاحكام السلفية الخاطئة الأكثر انتشارا, ومن تلك الأحكام: هل الاسلام هو مذهب الاستسلام للجبرية؟ هل الاسلام هو مذهب الأحكام الشرعية؟ هل الاسلام مذهب الاباحية؟ هل الاسلام تعصب؟ هل الاسلام تحجر؟ هل الاسلام دين خوف؟
- معرفة رأي المحاور في المسيحية: فالمسلم المحاور، مهما كانت رغبته في الحوار، يتناول الحقائق المسيحية، وفي ذهنه سوابق من الأفكار عن النصرانية ومن ينتمون اليها، فإذا ما شرح المسيحي شرحاً أوفى هذه الأمور، في جو من الموضوعية الصافية النزيهة، جعل المسلم يعرفه كما هو، وكما يريد أن يكون. ومن تلك الأحكام المسبقة: الزعم أن كتب المسيحيين محرّفة. الزعم أن الأسرار المسيحية غير مقبولة أو على الاقل غير نافعة، الزعم أن التوحيد المسيحي ليس بكامل النقاء. الزعم أن الكنيسة ليست سوى سلطة دنيوية، الزعم ان المسيحيين خانوا رسالة السيد المسيح.
- عدم التغاضي عن العوائق الباقية من العوائق التي تبقى في الحياة، ولا يستطيع الحوار اللاهوتي ازالتها؛ الخلافات في موضوع "محرمات بعض المآكل والمشروب"، الخلافات في التشريع في الزواجات المختلطة، الاختلاف في موضع الحرية الدينية. فالشرع الاسلامي يحرم على المسلم "الردة" ويعاقب على تلك المخالفة بعقوبات شديدة جدا. وهناك ايضاً مشكلات الأقليات الدينية، والنظرة المختلفة التي ينظر بها كل فريق إلى العلاقات بين الدين والدولة. ولربما تكون هذه المشكلة أكبر العوائق في الحوار المسيحي الاسلامي. اذ كيف يحاور المسيحي مسلماً يريد ان يطبق على المسيحيين في الدولة المعاصرة "احكام الذمة"؟ ومع ذلك، ويمكن القول لأجل ذلك، تبدو ضرورة الحوار أكثر الحاحاً، حتى يبلغ الجميع إلى نظام يحترم التعدد الديني في اطار شرائع مدنية تحقق المساواة بين جميع الأديان.
ان الجو الجديد الذي نشأ في الفكر المسيحي بعد المجمع الفاتيكاني الثاني هو جو حوار واحترام ومحبة. في الختام تقول الوثيقة: "وهكذا يدعو الله المسيحيين والمسلمين، وهم معاً على الطريق، إلى تنمية حوارهم على المستويات الأساسية الأربعة للتواصل بين الناس, فلهم أن يمارسوا في حياتهم "حوار القلوب" السخي حيث يستطيع الفريقان المشاركة "كأخوة"، و"حوار الحياة" الشجاع، فيبذلون جهودهم في سبيل تعزيز القيم الانسانية، التي ليس لها من ضامن سوى الله وحده، و"حوار الكلام" الجريء الذي يصير تعبيراً عن الله وعن الإنسان في آن واحد، و"حوار الصمت" الجسور حيث يتكلم الله مباشرة في قلب كل واحد من المتحاورين. فالصمت، اذاً هو الاطار الذي فيه يبدأ وينتهي كل حوار حقيقي، لأنهم في "صمت الايمان" وحده يستطيع المؤمن ان يستشف ما هو مصير أخيه الأبدي" (13) .
2- مواضيع الحوار اللاهوتي
الحوار اللاهوتي هو حوار "الكلام الجريء"، المبني في الوقت عينه على الايمان وعلى العقل. فاللاهوت هو محاولة لتفسير عقائد الايمان بلغة العقل، فالمتحاورون هم أولاً مؤمنون بالله، وهم في الوقت عينه مؤمنون بأن الله يكلم الناس بلغة يستطيعون من خلالها فهم كلامه الالهي. وهذا الحوار اللاهوتي يجب أن يشمل مختلف العقائد التي تشكّل موضوع الايمان في كلتا الديانتين. سنقتصر في هذه المقالة على أربعة مواضيع اساسية: الوحي الالهي، الله الواحد، يسوع المسيح ابن الله، الخلاص الأبدي.
أ- الوحي الالهي والكتب المنزلة
المسيحية والاسلام ديانتان ترتكزان في ايمانهما على كتب تريان فيها وحي الله وتعتبرانها كتبا الهية وسماوية. إلا أن هذه الكتب الالهية السماوية مدونة في لغات بشرية من لغات أهل الأرض. فالسؤال الأساسي الذي يجب التحاور فيه بين المسلمين والمسيحيين هو التالي: هل ان هذه الكتب الالهية السماوية هي تسجيل حرفي لكلام الله المحفوظ منذ الأزل في لوح عنده تعالى، وينزله بلغته الأصلية المحفوظ فيها في السماء على الأنبياء الذين ينقلونه للناس نقلا حرفياً، اي دون ان يدخلوا عليه شيئاً من قبلهم؟ أم ان تلك الكتب الالهية تنقل الينا كلام الله في رداء بشري ولغات بشرية وتعابير بشرية مستقاة من البيئة التي عاش فيها الأنبياء الذين "أوحي اليهم"، كما يقول المسيحيون، أو "نزل عليهم"، كما يقول المسلمون؟ هذا السؤال أساسي في الحوار المسيحي الإسلامي على صعيد اللاهوت، ويجب على المتحاورين أن يبدأوا به دون قلق ولا خوف على مصير هذا الكلام الالهي من أن تنتهك قدسيته او يضمحل تحت الرداء البشري والتعابير البشرية.
المسيحيون والمسلمون يؤكدون أن كيان الله هو أسمى من كل ما يمكن ان يتصوره العقل البشري بشأنه. ألا يصح القول نفسه في الكتب الالهية التي تعبر في لغة بشرية عن ارادة الله الأزلية؟ الا يمكن اعتبار "اللوح المحفوظ" في السماء تعبيراً بشرياً عن تلك الارادة الالهية الازلية؟ فإذا كان المسيحيون والمسلمون يعتقدون ان الانجيل والقرآن ينقلان الينا حرفياً كلام الله، ووجدوا اختلافات بين هذين الكتابين الموحى بهما، لن يبقى للمتحاورين إلا أن يلقي كل منهمم على الآخر تهمة انعدام الوحي او التحريف. فالمسيحيون ينكرون على القرآن أي علاقة بالوحي الالهي، والمسلمون يتهمون المسيحيين بتحريف الانجيل. في وضع كهذا يتوقف الحوار، أو يتحول إلى جدل يغلب فيه منطق الشتيمة على منطق التخاطب العقلي الهادئ.
لذلك، اذا أراد المسيحيون والمسلمون أن يدخلوا حقاً في حوار لاهوتي ينتج منه تقارب للطرفين، لا بد لهم من الاعتراف بأن كلام الله يوحى للناس أو ينزل عليهم في تعبير بشري، وبأن الاختلافات التي يجدونها بين الأنجيل والقرآن ليست ناتجة من تحريف الانجيل أو من ضلال القرآن, بل من أن كلام الله الموحى للناس يصلهم من خلال تعبير بشري، فالاختلافات ليس من الوحي الالهي، بل من التعبير البشري.
اذ ذاك لا يعود موضوع الحوار الجدل حول صحة هذا التعبير أو ذاك أو تحريفهما، بل البحث الهادئ في التعليم الالهي الوارد في تعابير متنوعة، والدراسة الموضوعية للاطار التاريخي والاجتماعي والثقافي والسياسي الذي فيه وبتأثير منه كان التنوع في تلك التعابير. اذ ذاك لا يعود المسلمون يطلبون من المسيحيين الايمان بنبوة محمد في الشكل عينه الذي يرد عند المسلمين، أي ان الله أرسل محمداً خاتمة النبيين ليكمل ما نقص في رسالة السيد المسيح. فالمسيحيون يؤمنون ان السيد المسيح هو "كمال الوحي والانبياء". وأن محمداً لم يزد شيئاً على تعاليم السيد المسيح، ان موضوع نبوة محمد سيبقى نقطة اختلاف، لذلك لن يؤدي الجدل فيه إلى أي نتيجة مرضية، فمن الأفضل تجنبه، وحصر الحوار في تعاليم الانجيل الذي هو، في نظر المسيحيين، كلام اللّه دون أي تحريف، وفي تعاليم القرآن، الذي هو، الوارد في كلا الكتابين المقدسين، والتعابير البشرية التي ورد فيها هذا التعليم الالهي. لا شك أن الأصوليين، أكانوا مسيحيين أم مسلمين، لا يعجبهم مثل هذا الحديث، لأنهم يرفضون أي تمييز بين الجوهر والتعبير. لذلك لا يمكن ان يجري أي حوار لاهوتي مع الأصوليين، مسيحيين كانوا أم مسلمين.
ينتج من ذلك أن أي قبول بالحوار اللاهوتي يفرض على المتحاورين القبول بأن تخضع الكتب المقدسة، أي التوراة والانجيل والقرآن، إلى النقد الكتابي العلمي الذي لا يعود يعتبر انتهاكاً للقدسيات، بل يعتبر عملاً يجمع بين الايمان والعلم، وبين الدين والعقل، اذ انه ليس عمل ملحدين ينكرون الله وعلاقته بالعالم، وليس الهدف منه تحقير الكتب المقدسة، بل هو عمل أناس يؤمنون بالله وبِوَحْيِهِ، ويهدفون إلى فهم كيفية علاقة الله بالناس، وتوضيح الطرق التي يكلم الله الناس من خلالها.
استناداً إلى هذه النظرة المعاصرة المنفتحة، المؤمنة والعلمية معاً، للوحي الالهي والكتب المنزلة، يتمكن المسيحيون والمسلمون متابعة الحوار في مختلف العقائد وطرق التعبير عنها في المسيحية والاسلام، وأهمها: الايمان بالله الواحد، والتجسد الالهي في شخص يسوع المسيح ابن الله.
ب- الله الواحد
المسيحية والاسلام ديانتان توحيديتان تؤمنان كلاهما بوجود اله واحد خالق السماء والأرض وكل ما عليهما. فالسيد المسيح في كل تعاليمه أكّد ما جاء في كتب العهد القديم من وجود اله واحد وواجب عبادته، ورأى في محبته أعظم وصايا الناموس: "أحبب الرب الهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك هذه هي الوصية الأولى والكبرى" (متى 22: 37- 38). وقد كان محور تعاليمه التعريف بهذا الاله الواحد واظهار وجهه الحقيقي، الذي هو المحبة والرحمة والتبشير بملكوته. وقد رأى الحياة الأبدية في معرفة هذا الاله الواحد، كما قال في صلاته الأخيرة: "والحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الاله الحقيقي وحدك والذي ارسلته يسوع المسيح" (يوحنا3: 17). وبولس الرسول يؤكد وحدانية الله في كل رسائله فيقول مثلاً في معرض حديثه عن أكل الذبائح المقدمة لآلهة الأوثان: "فمن جهة أكل ذبائح الأوثان، نحن نعلم أن الوثن ليس بشيء في العالم، وأنه لا اله الا واحد. فإنه وإن وجد، في السماء كان أم على الأرض ما يقال له آلهة – ويوجد من هذا النوع آلهة كثيرون وأرباب كثيرون – فنحن انما لنا اله واحد، الآب الذي منه كل شيء ونحن إليه، ورب واحد، يسوع المسيح، الذي به كل شيء ونحن به" (1 كورنثس 4: 8-6). ويقول في رسالة أخرى: "ان الرب واحد، والايمان واحد، والمعمودية واحدة، والاله واحد، والآب واحد للجميع، وهو فوق الجميع ومع الجميع وفي الجميع" (أفسس 5: 4 – 6).
والدين الاسلامي جاء ليؤكد وحدانية الله هذه، التي هي أساس الديانتين اليهودية والمسيحية. وقول بولس الرسول: "لا اله الا واحد"، نجد صداه في قول القرآن: ﴿هو الله الذي لا اله الا هو﴾ ]الحشر: 22[. والتوحيد القرآني هو، بحسب القرآن عينه، استمرار لتوحيد أهل الكتاب، أي للتوحيد المسيحي: : ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن الا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل الينا وانزل اليكم والهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون﴾ ]العنكبوت: 46[. فالمسلمون اذن اسلموا لله الواحد الذي كان يؤمن به المسيحيون من قبلهم. ويميز القرآن بوضوح بين أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله الواحد والمشركين الذين يشركون مع عبادة الله عبادة آلهة أخرى هي أصنام "من صنع أيدي البشر". وان بعض الشك لدى محمد في هذا الموضوع، فليسأل أهل الكتاب: ﴿فإن كنت في شك مما أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكوننّ من الممترين﴾ ]يونس: 94[.
ولكن من جهة أخرى يكفّر القرآن الذين يقولون بالثليت. ولكن هذا التثليت الذي يكفّره القرآن ليس له أي علاقة بعقيدة الثالوث المسيحية. فالثالوث الذي يكفره القرآن هو: الله وعيسى ومريم. كما يبدو من مقطعين من سورة المائدة: ﴿واذ قال الله: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي الهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن اقول ما ليس لي بحق ان كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك انك انت علاّم الغيوب. ما قلت لهم الا ما امرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد﴾ ]المائدة 116 – 117[. هذا هو المقطع الأول.
والمقطع الثاني يتكلم على الثلاثة، ويوضح أيضاً أنهم: الله وعيسى وأمة مريم: ﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وما من اله الا اله واحد، وان لم ينتهوا عما يقولون ليمسّنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم. أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم. ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمّه صديّقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبيّن لهم الآيات، ثم انظر أنّى يؤفكون﴾ ]المائدة 73 – 75[.
وفي هذا المعنى عينه يجب فهم لفظة "ثلاثة" الواردة في سورة النساء: ﴿يا أهل الكتاب، لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق، انما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم انما الله اله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا. لن يستنكف المسيح ان يكون عبداً لله ولا الملائكة المقرّبون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم اليه جميعاً﴾ ]النساء 171- 172[.
من شأن الحوار المسيحي الاسلامي اللاهوتي البحث في الثالوث كما يفسره المسيحيون اليوم. اذ لا يعنينا ما كان يعتقده بعض أهل الكتاب في أيام تدوين القرآن، بل ما يؤمن به المسيحيون اليوم. وفي هذا الموضوع عينه، لا نخشى من القول ان الحوار في عقيدة الثالوث يجب ألا يرتكز على ما ورد في تفسيرات اللاهوتيين عبر العصور، بل على ما ورد في النصوص الانجيلية، على أن تخضع تلك النصوص عينها إلى النقد الكتابي المعترف به عالمياً في علم التفسير الكتابي المعاصر. فموضوع الثالوث هو اليوم من المواضيع الأكثر دراسة وتحليلاً في اللاهوت المسيحي. الذي يسعى إلى التمييز بين العقيدة التي يؤكدها الانجيل المقدس والتعبير الذي ورد في اللاهوت المسيحي اللاحق. فالجدل الذي جرى عبر العصور بين المسيحيين والمسلمين في هذا الموضوع لم يجر على أساس العقيدة الواردة في الانجيل، بل على أساس التعبير عنها الوارد في اللاهوت اللاحق، الذي هو تعبير تأثر بالفلسفة اليونانية، وجاء على أثر المجامع المسكونية التي اجتمعت للرد على اصحاب البدع الذين كانوا يستعملون مفاهيم وتعابير فلسفية يونانية، فاستعملت هي ايضاً تلك التعابير. فتحديد عقيدة الثالوث بالقول بوجود ثلاثة أقانيم في اله واحد هو تحديد فلسفي للتعبير عما ورد في الانجيل حول حضور الله في شخص يسوع المسيح وفي حلول الروح القدس ... فيجب ألا يقوم الجدل بين المسيحيين والمسلمين حول كيفية وجود ثلاثة أقانيم في جوهر الهي واحد. وهذا ما حدث عبر العصور في عشرات من كتب الجدل المسيحي الاسلامي التي لم ينتج منها الا ازدياد في التباعد بين المؤمنين بالله الواحد. الانجيل المقدس لم يستعمل لفظة الأقانيم الثلاثة، فلندعها جانباً. الحوار المعاصر يجب ان يركز على الله الواحد، الذي يؤمن به على السواء المسيحيون والمسلمون، وعلى كيفية ظهوره في التاريخ وفي كلام الأنبياء، وبنوع خاص في شخص السيد المسيح الذي هو "كلمة الله وابنه" بحسب التعبير الانجيلي، و"كلمة الله وروح منه"، بحسب التعبير القرآني.
ج- يسوع المسيح ابن الله
ان الايمان بأن يسوع المسيح ابن الله هو النقطة الرئيسية التي على اساسها تم الانفصال بين تلاميذ السيد المسيح وسائر اليهود، وعليها نشأ الدين المسيحي. فمنذ بدء المسيحية كان السؤال الذي يطرح على من يريد اعتناق الدين المسيحي هو التالي: "هل تؤمن بأن يسوع هو المسيح ابن الله"؟ هذا السؤال طرحه الشماس فيلبس على قيّم كنداكة ملكة الحبشة، ولما ردّ بالايجاب عمّده فيلبس (راجع أعمال الرسل: 8: 37). والأناجيل في نصوصها الأربعة كتبت، كما يقول يوحنا في نهاية انجيله "لتؤمنوا ان يسوع هو المسيح ابن الله، وتكون لكم، اذا آمنتم، الحياة باسمه" (يو 20: 31).
هذا الايمان يرفضه القرآن رفضاً قاطعاً. فهو يعترف بأن يسوع هو المسيح، ولكنه ينكر عليه لقب ابن الله. من شأن الحوار المسيحي الاسلامي اللاهوتي توضيح نقطة الخلاف في هذا الموضوع بين المسيحية والاسلام، وذلك ليس بهدف ازالة الخلاف بل في سبيل تقريب وجهات النظر وازالة الأفكار الخاطئة التي ترد في أذهان بعض المسلمين حول معنى النبوة الالهية. فقد يظن البعض أن النبوة المقصودة هنا هي الولادة الجسدية، كما ورد في القرآن عينه: ﴿أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة﴾ ]الأنعام: 101[. ففي الحوار يتضح أن النبّوة المراد بها ليست ولادة جسدية كما كان يعتقد الوثنيون في تصورهم تزواج الآلهة بينهم أو مع البشر، بل هي تعبير عن العلاقة الحميمة التي تربط بين الله الواحد والسيد المسيح الذي هو ضياء مجده وصورة جوهره، كما نقرأ في مستهل الرسالة إلى العبرانيين: "ان الله، بعد اذ كلّم الآباء قديماً بالأنبياء مراراً عديدة وبشتى الطرق، كلمنا نحن في هذه الأيام الأخيرة بالابن الذي جعله وارثاً لكل شيء، وبه ايضاً أنشأ العالم، الذي هو ضياء مجده، وصورة جوهره، وضابط كل شيء بكلمة قدرته" (عب 1: 1). هذه العلاقة الحميمة يعبر عنها بولس الرسول بقوله ان المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والناس: "لأن الله واحد، والوسيط بين الله والناس واحد الإنسان يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فداء عن الجميع" (اتيموثاوس 2: 5 -6).
وهذه العلاقة ليست عابرة في الزمن، بل هي كائنة في أزلية الله، كما عبر عن ذلك القديس يوحنا في مستهل انجيله، حيث يدعو ابن الله ايضاً كلمة الله:
"في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، وكان الكلمة الله ..
والكلمة صار جسداً، وسكن في ما بيننا، وقد شاهدنا مجده،
مجداً من الآب لابنه الوحيد المملوء نعمة وحقاً ...
الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي في حضن الاب هو نفسه قد أخبر (يو 1: 1، 14، 18).
القول ان "يسوع المسيح هو ابن الله" هو تعبير بشري يجب فهمه كما هو، لا أكثر ولا اقل. لا أكثر، أعني أن المسيح ليس الها إلى جانب الله، ولا الهاً "من دون الله"، بحسب تعبير القرآن. في هذا تتفق المسيحية مع الاسلام. ولا أقل، بمعنى أن المسيح ليس نبياً كسائر الأنبياء بحيث يمكن أن يأتي نبي بعده، ويزيد على تعليمه أي شيء. بل هو الوحي الكامل لله، ولأنه الوحي الكامل لله، هو كلمة الله الأزلي الذي يتخطى كل زمن، أكان في الماضي، أم في المستقبل. في هذا تختلف المسيحية مع الاسلام، الذي يرى في محمد خاتمة الأنبياء.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل يتوقف الحوار هنا؟ الجواب الاول على هذا السؤال هو أن الحوار لا يهدف إلى إزالة الفروقات العقائدية، بل إلى حصرها وتوضيح النقطة التي يدور حولها الاختلاف وازالة الالتباسات الشائعة في شأنها، والجواب الثاني هو أن الحوار يجب أن يستمر لمعرفة امكانية وكيفية العيش معاً بالرغم من اختلافاتنا العقائدية. والعيش معاً ممكن بين مسيحيين يؤمنون أن يسوع هو ابن الله وخاتمة الأنبياء، ومسلمين "لا يفرقون بين الأنبياء" بالنسبة إلى منزلتهم، بحسب قول القرآن، فيرون في السيد المسيح نبياً كسائر الأنبياء وفي محمد خاتمة الأنبياء في الزمن. أما كيفية العيش معاً فتقوم على البحث معاً في تعاليم كل من الديانتين وفي طريقة تطبيق تلك التعاليم على الحياة الاجتماعية المشتركة، مع الاحترام المتبادل لعقائد كل من الطرفين، وذلك بالامتناع عن أي تكفير من قبل فريق للفريق الآخر، ومع منح الفريقين بشكل متساوٍ حرية ممارسة كل منهما شعائر دينه ومساواتهما في انظمة الدول الاجتماعية والسياسية. وهكذا تقودنا العقيدة إلى طريق البر والقداسة في هذه الحياة وإلى الخلاص في حياة ما بعد الموت.
د- الصراط المستقيم والطريق إلى الله والخلاص الأبدي
المسيحية والاسلام ليسا مجموعة نظريات، بل هما طريقان يقودان إلى الله، فالمسيحية هي اتباع السيد المسيح الذي قال: "انا الطريق والحق والحياة. لا يأتي أحد إلى الآب إلا بي" (يوحنا 14: 16).. والقرآن جاء يعلن للناس "الصراط المستقيم". والمسلمون يبتهلون إلى الله عدة مرات في اليوم قائلين في سورة الفاتحة: "إهدنا الصراط المستقيم". وهذا الصراط المستقيم لا يعني الدين الذي يحتوي وحده دون سائر الأديان على الحقائق الالهية المنزلة، بل هو الطريق الذي يقود إلى الله. في الحوار اللاهوتي لا بد للمسيحيين والمسلمين من الاعتراف معاً أولاً بأن المسيحية والاسلام هما طريقان يقودان إلى الله، فهما اذن كلتاهما ديانتا خلاص.
منذ العصور القديمة حتى أواسط هذا القرن، كان كل دين يعتبر أتباعه وحدهم الخالصين، ويحكم على جميع أتباع الأديان الأخرى بالهلاك الأبدي في جهنم النار. "زد على ذلك، كما يقول الدكتور محمد الطالبي، أن مجموعة المؤمنين الفائزين بالخلاص في نطاق الدين الواحد يقلّ عددها باعتبار أن اصحاب البدع المختلفة محكوم عليهم بالنار وبالخسران الأبدي. وهكذا يؤول بنا الأمر إلى أن نفكّر أنّ الأغلبية الساحقة من البشرية باستثناء بعض المحظوظين المصطفين مآلها جهنم وبئس المصير. ونجد مع ذلك الأديان كلها تؤكد أن الله عدل ورحمة ومحبة. وفي هذا الميدان بالذات نشعر بالحاجة إلى التجديد في نطاق علوم اللاهوت وإلى تغيير العقليات تغييراً جذرياً، اذ كيف يتسنّى الحوار في جو من التفتح والثقة المتبادلة اذا شدّ كلّ من الطرفين صاحبه، مسبقاً ومنذ البداية، إلى عمود من أعمدة جهنّم دون أن يسمح له بأمل الخروج منها، وما ذلك إلا من اجل معتقداته الخاصة" (14).
ان المجمع الفاتيكاني الثاني قد أحدث تغييراً جذرياً في موقف الكنيسة من خلال غير المسيحيين، فقال: " انّ الذين، على غير ذنب منهم، يجهلون انجيل المسيح وكنيسته، ويطلبون مع ذلك الله بقلب صادق، ويجتهدون بنعمته ان يتمموا في أعمالهم ارادته كما يمليها عليهم ضميرهم، فهؤلاء يمكنهم أن ينالوا الخلاص الأبدي. وكذلك الذين، على غير ذنب منهم، لم يبلغوا بعد معرفة الله معرفة صريحة، وانما يجتهدون، لا بمعزل عن مؤازرة النعمة، أن يسلكوا مسلكاً مستقيماً، فإن العناية الالهية لا تحبس عنهم المساعدات الضرورية لخلاصهم" (15) . وعن المسلمين أكّد المجمع: "ان تدبير الخلاص يشمل ايضاً اولئك الذين يؤمنون بالخالق، وأوّلهم المسلمون الذين يعلنون أنّهم على ايمان ابراهيم، ويعبدون معنا الله الواحد، الرحمن الرحيم، الذي يدين الناس في اليوم الآخر" (16).
وهذا التعليم يجد له جذوراً عند آباء الكنيسة في القرون الأولى الذين، إلى جانب قولهم مع اغوسطينوس: "لا خلاص خارج الكنيسة"، رأوا في جميع الأديان وعند الفلاسفة اليونانيين "بذور كلمة الله"، المنتشرة في العالم قبل المسيحية. فكل ما هو خير وصلاح في العالم هو من عمل الله وعمل الكنيسة بحجة أنها تملك وحدها الحقيقة الدينية الكاملة. أما اليوم، فبفضل انفتاح الأديان بعضها على بعض، يسود أكثر فأكثر الاعتقاد بأنه لا يجوز لأيّ دين احتكار الحقيقة. فالأديان كلها هي سبل للدخول في الحقيقة التي هي الله، وهي بالتالي طرق متنوعة للخلاص. لا شك أن كلا من أتباع الاديان يعتبر دينه افضل الأديان، وهذا طبيعي ليتمكن كل متدين أن يجد في دينه سلامه واطمئنانه، ويسعى من خلال تعاليمه إلى تحقيق ارادة الله والوصول اليه تعالى. فكل طريق هو لأصحابه أفضل الطرق. ومع قولنا هذا نؤكد أيضاً ضرورة احترام الحرية الدينية، التي هي حق من حقوق الانسان المعترف بها اليوم دولياً، والتي تتيح لأي انسان أن يغيّر دينه اذا رأى في دين آخر طريقاً افضل للوصول إلى الله. وهذا ما يعنيه القرآن بقوله ﴿لا اكراه في الدين﴾ ]البقرة: 256[. في هذه الذهنية المنفتحة المتسامحة، ينتفي الجدل الديني العقيم الذي ساد الشرق والغرب قروناً طويلة، وكان كل دين يحاول فيه تحقير الدين الآخر واظهار ضلاله، يكفي اليوم أتباع الأديان المختلفة أن يشهدوا لإيمانهم الخاص بشكل موضوعي ويعيشوا بمقتضى تعاليم دينهم. ومن خلال شهادتهم وحياتهم تظهر حقيقة الله، وهذه الحقيقة ليست بحاجة إلى من يدافع عنها بالقوة، ولا يجوز فرضها بالعنف. وكل قتال لأجلها بالسيف لن يؤدي الا إلى كبت الحريات، وان كتب له النجاح، فنجاحه لن يدوم طويلاً، والحقيقة لا بد أن تظهر يوماً.
في الدين الاسلامي أيضاً يسود اليوم أكثر فأكثر الاعتقاد بخلاص غير المسلمين، وذلك استناداً إلى قول القرآن: ﴿انّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ ]سورة البقرة 62، راجع ايضاً 111 و112، وسورة المائدة 69[. يسرنا أن نذكر هنا ما قاله محمد الطالبي في هذا الموضوع، مع تأييدنا التام لانفتاحه وتسامحه: "فليس اذن من المستحيل على الاسلام ولا على الدين المسيحي ولا على بقية الأديان الكبيرة الأخرى بلا شكّ أن نستخلص، بالاعتماد على النصوص المقدسة وحتى بالاعتماد على بعض السنن الدينية القديمة، علم لاهوت يوفّر المجال لإمكانية تعدد سبل الخلاص، ولو لم يكن لهذا من داعٍ سوى أنَّه لا يمكن أن نمنع الرحمة الالهية من ان تفيض في عدل ورأفة ومحبة فتتعدّى نطاق الدين الواحد لتعدّ أصحاب الهمم والأخلاق الفاضلة جميعاً. ويبقى الاله لا محالة في النهاية الحاكم الوحيد والمطلق الحرية، ويجب علينا ان نفوّض أمرنا اليه وأن نثق كل الثقة في حكمته. وليس لنا مهما كان الأمر أن نحلّ محله في اصدار احكامه". ثم يضيف الكاتب: "وليس من الحتميّ أن تكون نتيجة الاستسلام إلى نعيم الراحة واعتبار الحقيقة ضبابية هوائية لا قرار لها متنقلّة بين المذاهب. فالخطر الذي قد ينجرّ عن فكرة تعدد الطرق المؤدية إلى الخلاص هو أن تصبح كلّ الأديان نسبية. وأظنّ أنّ القارئ فهم أنّ هذا الخطر لا يوجد، حسب مفهومنا، الا خارج قلب المؤمن الخالص الايمان الذي ما زال ولن يزال، رغم ذلك، يعتبر نفسه قطب الدين المطلق الذي يؤمن به ويشهد على صحته. ويجب علينا في هذا المضمار الذي يهمنا بالذات، ولكي لا نزيّف ظلما وجهات النظر، أن نبرز بوضوح أنّ القرآن يدعو بقوة والحاح وبالاكثار من الحجج والانذارات إلى اعتناق الاسلام باعتباره آخر الاديان السماوية أنزل تأييداً واكمالاً لها ولما جاء في الكتب المنزّلة السابقة للقرآن. بل يدقّق بدون أدنى لبس أنّ كلّ من اقتنع في قرارة نفسه اقتناعاً طبيعياً بصحة الرسالة القرآنية وأراد بدافع الانتهازية أو غيرها أن يمارس دينا آخر، هذا لن ﴿يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾[آل عمران: 85] (17) .
المنطق نفسه نجده في الانجيل المقدس الذي ينقل الينا ايمان الرسل بأن السيد المسيح هو كمال الوحي، وبأن "من آمن بالانجيل واعتمد يخلص، ومن لا يؤمن يقضى عليه" (مرقس 16: 16). لذلك، بحسب قول السيد المسيح، "من وضع يده على المحراث ونظر إلى الوراء فليس بأهل لملكوت الله" (لوقا 9: 62). فالقبول بتعدد طرق الخلاص لا يعني أيّ مساومة في الايمان. في هذا الموضوع نميّز بين الامر الالهي وسبل الخلاص: فمن جهة الامر الالهي، كل مؤمن مقتنع بايمانه لا يمكنه إلا أن يلتزم الحفاظ عليه والتبشير به. وهذا ما يطلبه الانجيل من المسيحيين والقرآن من المسلمين. ولكن من جهة سبل الخلاص، فلا يجوز لأيّ مؤمن أن يحلّ محلّ الله للحكم على أتباع الأديان الأخرى.
خلاصة
يقول السيد المسيح في الانجيل بحسب متى: "ليس كل من يقول لي: يا رب، يا رب! يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يعمل إدارة أبي الذي في السماوات" (متى 7: 31). ويقول القديس يعقوب في رسالته: "انّ الديانة الطاهرة الزكية في نظر الله الآب هي افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقهم، وصيانة النفس من دنس العالم" (يع 1: 27)، ثم يضيف: "ان الايمان، ان خلا من الأعمال، ميت في ذاته" (يع 17: 2). وفي المعنى عينه يقول القرآن: ﴿ليس البّر أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم اذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا﴾ ]البقرة: 177[. هناك حديث شريف يقول: "ليس كلّ مؤمن بمسلم ولا كلّ مسلم بمؤمن".
الايمان الحقيقي يمكن أن يوجد في الاسلام والمسيحية على السواء عند الذين يؤمنون بالله ويتقونه ويعملون الصالحات. والحوار اللاهوتي الحقيقي والمنفتح من شأنه الاسهام في تقريب الأذهان والقلوب ليتعاون المسيحيون على البرّ وعلى عمل الصالحات لتمجيد اسم الله القدوس وبناء عالم يسوده السلام والعدالة في التآخي بين جميع "أبناء الله"، كما يقول الانجيل المقدس: "سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوّك. أما أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم، وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات: فإنه يطلع شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والأثمة. فإنكم ان احببتم من يحبّكم، فأي أجر لكم؟ أليس العشارون أنفسهم يفعلون ذلك، وان تسلّموا إلا على إخوانكم فقط، فأي عمل خارق تصنعون؟ أوليس الوثنيون أنفسهم يفعلون ذلك؟ "فأنتم اذن كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل" (متى 5: 43 -46). وفي المعنى عينه يقول القرآن: ﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيّئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم﴾ ]فصّلت: 34[ وكذلك يقول الحديث الشريف: "الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله".
_______________________
(1) المجمع الفاتيكاني الثاني، "بيان مجمعي في علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية"، منشورات المكتبة البوليسية، جونية لبنان، 1992، ص 623 – 632.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع السابق.
(5) المرجع السابق.
(6) المرجع السابق.
(7) المرجع السابق.
(8) موريس بورمانس، أمانة سر الفاتيكان للعلاقات بغير المسيحيين، توجيهات في سبيل الحوار بين المسيحيين والمسلمين، نقله إلى العربية المطران يوحنا منصور، منشورات المكتبة البولسية، جونية، لبنان، 1986.
(9) المرجع السابق، ص 19.
(10) المرجع السابق، ص 55.
(11) المرجع السابق،ص 158.
(12) المرجع السابق، ص 61-62.
(13) المرجع السابق، ص 157
(14) محمد الطالبي "الاسلام والحوار: أفكار حول موضوع يشغل بال العصر الحديث" في: وثائق عصرية في سبيل الحوار بين المسيحيين والمسلمين، المكتبة البولسية، جونية، لبنان 1992، ص 56.
(15) المجمع الفاتيكاني الثاني "دستور عقائدي في الكنيسة"، 16.
(16) المرجع السابق.
(17) محمد الطالبي، المرجع المذكور، ص 57 – 58.