كلمة الدكتور طارق متري في الجلسة الأولى من مؤتمر "كلمة سواء": الإمام الصدر والحوار
يرى دعاة الحوار بين المسيحيين والمسلمين وممارسوه ودارسوه، انه سلك، منذ ستينيات هذا القرن، طريقاً غير التي خطتها مواجهات الماضي. غير ان المترددين حياله والمتسائلين عن جدواه، ولأسباب متقاربة او متعارضة، ليسوا قلة. لذلك فإن الحديث عنه لا يستقيم اذا اكتفي بالكشف عما يعد به، بل هو مدعو إلى النظر في ما يحمل البعض على نقده او الحط من قدره.
قطيعة مع الماضي؟
لا يخفى على أحد ميل الكثيرين إلى التوكيد على جدية الحوار بل احياناً إلى حسبانه بمثابة لغة قطيعة مع الماضي.
صحيح ان الخبرات السابقة انطبعت بالرؤية الثنائية للعالم فطغت بوجه الاجمال على ما شهدته علاقات المسلمين والمسيحيين من مسالمة ومعايشة وتبادل. إلا ان للحوار تاريخاً لم يخلُ من محاولات التعرف والتفاهم الحق. ولم يغلق السجال على التعامل، المباشر وغير المباشر، في مجالات الفكر الانساني المتنوعة والمتصل بعيشة القربى في نواحي الحياة الاجتماعية والثقافية. لكن العوالم التقليدية كانت مكتفية بذاتها على الصعيد الديني تنزع إلى اقصاء الآخر. ورغم ما تجده في النصوص التأسيسية من دعوة إلى التعارف أو إلى تجاوز الحصرية، كان الواحد يفسر سواه منقصاً إياه وغالبا ما عمد إلى اسقاط صور للغير هي، في حقيقة الأمر، أقرب إلى مسوخ لصورة الذات.
بيد أن تاريخ المسلمين عرف، في اطوار بناء الحضارة العربية الاسلامية وازدهارها، تعاملاً مع الآخر الديني يرتكز على استيعاب ما عنده والافادة مما هو قادر عليه. وكشف المسيحيون العرب، من جهتهم، عن توقٍ فعلي للمساهمة في البنيان الحضاري المذكور وسعوا، بالوقت نفسه، دفاعاً عن معتقدهم او تجاوزاً لذلك، إلى الحوار مع المسلمين. واستقى الحوار من التفاعلات على الصعيد الشعبي. فالحياة اقوى مما تحده المنظومات والنظم. فكان للمسيحيين والمسلمين تأثير متبادل على مستوى طرق العيش والمشاعر وعرفوا وعياً، يكاد أن يكون واحداً، لتعالي الله. وكانت عند مؤمنيهم الثقة نفسها بالعناية الإلهية: الاتضاع امام الله واسلام النفس له (1) . كما احتكموا إلى العقل سبيلاً للتفاهم او ضبط الاختلاف، وفي الحالتين لغة للتخاطب في شؤون الدين والدنيا على حد سواء.
التعدُّد الديني والسباق الوطني
اما في العصر الحديث فإن تعاظم تأثير الفكرة الوطنية، في بلادِنا وغيرها من البلدان المتطلعة إلى التحرر من الحكم الاجنبي وصنع مصائرها بنفسها، فتح ابواباً جديدة.
فالفكرة الوطنية، بوجه العموم، افترضت، او جهرت بالتمييز، بل الفصل عند عدد غير قليل من معتنقيها، بين وحدة المعاش ورابطة الثقافة وشراكة المصير، من جهة، والولاء من جهة أخرى. ودفع ذلك إلى طي صفحة العداء التي شابت العلاقات بين المسلمين والمسيحيين عبر تقلّب الاحوال الفرنجة أو الحروب الصليبية.
وعلى الصعيد العالمي، اعاد نزع الاستعمار المباشر وانحسار بعض اشكال الهيمنة الغربية شيئاً من التوازن إلى العلاقات المسيحية الاسلامية فأنشأ ظروفاً، بدت أكثر ملائمة، لاعتماد الحوار بديلاً من الإخضاع.
وتداخلت المتغيرات في الوعي الديني مع نوع من الفكرة الانسانية والكونية النابعة من ثقافة عصر الانوار في الغرب وتأثيراتها خارجه. وتلازمت مع الانتشار المتزايد لاختلاط الناس من اهل الأديان المتنوعة داخل المجتمعات وفي حركة الانتقال بينها، ووجد المسيحيون أنفسهم، امام المسلمين .. حول ارتضاء التعدد الديني واستقراء معانيه وما يرتبه من اعادة نظر في الهوية المسيحية ذاتها. واستدعى كل ذلك مقاربة معرفية جديدة للآخر الديني، وللمسلمين بشكل خاص.
مبادرات جديدة وتجاذبات
لم تشق فكرة الحوار بين المسيحيين والمسلمين طريقها في العقود الثلاثة الاخيرة بقدر واحد من السهولة في الاوساط المختلفة.
لم يتلازم حوار المؤمنين، أو بالأحرى الدعوة إليه، مع التبدل في العلاقات السياسية والثقافية كما تلازم التبشير في السابق مع التوسع والسيطرة السياسية والثقافية.
كانت المبادرات الكنسية سباقة هذه المرة. ولم تعد، في الكثير من الأحيان، مهجوسة بنشر المسيحية، كما في الماضي، أياً كانت الوسائل المتاحة. أكثر من ذلك، تزايد القائلون بالشهادة لإيمانهم بظل احترام ايمان المسلمين ومعه الحرص، مبدئيا على مساءلة الدوافع ومراجعة الكيفيّات. وتنامت، نسبياً، الرغبة في المعرفة الموضوعية الهادئة، وفي طلب القربى الروحية، وفي السعي إلى لقاء انساني عن طريق المشاركة في التربية والمجتمع. وترافق ذلك مع فهم للتعدد الديني بوصفه مستقلاً في مقاصد الله للبشريّة. مما يفترض بالطبع مقاربة لخلاص غير المسيحيين وصلتهم بالحقيقة غير مرهونة لما اختصره التأكيد العقائدي القديم، في تفسيره التقليدي خصوصاً، والقائل إن "لا خلاص خارج الكنيسة".
وعندما اطلقت الكنيسة الكاثوليكية ومجلس الكنائس العالمي (2) وعدد من الكنائس، في الغرب خصوصاً، مبادراتها الحوارية تجاه المسلمين، لم تكن مدركة تمام الإدراك عمق التغيير الذي أصاب العقليات والأحاسيس اللاهوتية ولا واثقة، على نحو كافٍ، بسرعة التجاوب معها في صفوف المسيحيين. ولم يكن بوسعها، من جهة اخرى، أن تستبق كل ما سوف تثيره الحركة التي دفعتها من أفكار تتجاوز النصوص العقائدية أو التوجيهات الرعائية. وسرعان ما وعت انها، في حقيقة الأمر، اختارت الدخول في ما يشبه المجازفة. وتبين لها ان التجاذب حول مواقفها المعلنة، داخل الجماعة المسيحيّة واقع لا محال. ولم يقتصر التجاذب هذا على المواقف اللاهوتيّة الجديدة أو على تسويغ الحوار بل طال ايضاً اختيار مواضيعه والشركاء فيه، من المسلمين والمسيحيين، بمن فيهم بالطبع من مسيحيين عرب.
لقد واجه الحوار مقاومة من هنا وتحفُّظاً من هناك. ولم يكن يسيراً ان يبدّل المسيحيون نظراتهم إلى ذواتهم وإلى المسلمين مفلتين من قبضة التاريخ. ولم يكن سهلاً ان يضرب المسلمون صفحا من الماضي المثقل بمشاعر الريبة والعداء وان يحلّوا الثقة محل الشك بنوايا الكنائس حيالهم. ذلك ان علاقات القوى الاقتصادية والسياسيّة والثقافية، على الصعيد العالمي، ورغم التغيير النسبي الذي سبقت الاشارة إليه، ظلت مفتقرة إلى التوازن الذي يسمح للحوار ان يكون منزّهاً عن المصالح، وفي مقدمها ما يخص تثبيت السيطرة الغربيّة وإنْ بأشكال جديدة.
ويصعب ايفاء كل المواقف المعترضة على الحوار او المتحفظّة تجاهه كامل حقّها. فهي تتنوّع بتعدّد اصحابها، غير انها تتجمع، بوجه الإجمال، في أربعة.
- فهناك من يؤكّد أوليّة "حوار الحياة" إلى حد الفصل بينه وبين حوار الأفكار، الدينيّة بوجه خاص. فكل مساءلة مسيحية للمسلمين ومساءلة اسلامية للمسيحيين ضرب من ضروب السجال او ايقاظ لمناظرات قديمة لا طائل تحتها.
وهناك ايضاً من يخشى ان يكون الحوار ملاطفة على حساب الحقيقة وتنازلاً عن مسؤولية اعلانها واقناع الآخر بها أكان ذلك عن طريق التبشير والدعوة المباشرة أم مداورة ومن خلال توسّل التربية والعمل الاجتماعي ونشر الثقافة.
ويذهب البعض عكس ذلك إلى اعتبار الحوار تبشيراً لا يفصح عن اسمه بل يرتدي حلة جديدة. ومن شأنه، في احسن الأحوال اي عند افتراض حسن النية لدى القائمين به، ان يمهّد للتبشير. ونجد أخيراً من يأخذ على الحوار "سذاجته".
فهو، برأيهم، ورغم إخلاص اصحابه أو العديد منهم، يعجز عن إخفاء العلاقة غير المتكافئة ويعرضه ان يتحول إلى نوع من "الزينة" تسهم في تغطية دوافع تخالف، في آخر الأمر، مقاصده المعلنة.
وتزداد المشكلات تعقيداً، حسب منتقدي الحوار، بفعل ما يشوب الصفة التمثيلية لأطرافه من التباس. فالمتحاورون لا يمثلون بالضرورة جماعاتهم الدينية، ولا هم قادرون على إلزامها بما يتفقون عليه. وليسوا، أنّى علا شانهم، اصحاب القرار في بلدانهم ولا ناطقين فعليين باسمهم. غير انهم، يعاملون، بما تقتضيه صفاتهم، ومواقعهم، وينظر اليهم، وان بنسب متفاوتة ومتحركة، من حيث هم رموز ومرجعيات، حسب التسميات التي يحلو للبنانيين تردادها. واما اذا ضم الحوار من شاؤوا الحفاظ على مسافة من الذين يحسبون ممثلين لهم فإنه يفتح الباب واسعا امام التشكيك بجدية وفاعلية وبأمانة المشاركين فيه.
وهناك، أخيراً، الأسئلة الدائمة حول هوية الداعين إلى الحوار واختيار مواضيعه. فللمسيحيين، على وجه العموم، حصة اوفر في المبادرة اليه ولشواغلهم اللاهوتية والمجتمعية نصيب أكبر في الحركة التي اطلقها. ولم يبدد الاهتمام الإسلامي المتزايد، في السنوات الأخيرة، كامل الحذر الذي يساور البعض من الانضمام إلى مسعى لم تستو} به بعد علاقة الند للند. وفيما يأخذ عدد من المسلمين على الحوار رجحان الدور المسيحي في تسييره، ترى فئة من المسيحيين ان واقع الامر يحتاج إلى تغيير. ويَرُدُّ البعض الخلل في التوازن، على هذا الصعيد، إلى تقصير المسلمين او ضعف التزامهم، اما البعض الآخر فإنه يحمّل المسيحيين مسؤولية أولى عن استثارة رغبة المسلمين في مبادلتهم الدعوة إلى الحوار. ولا يغيب عنهم ان القضية أبعد من حثّ الآخر على الاقدام: انها قضية إصغاء وتفهّم ومواصلة تعزيز الثقة بصدق الحوار وجدواه.
بالطبع، لم يكن بوسع اهل الحوار ان يتغافلوا عن الاعتراضات او ان يستخفوا بها. رغم انهم، اجمالاً، ولمدة غير قصيرة، عرفوا بالتفاؤل، مثلهم كمثل اصحاب النوايا الطيبة، والثقة بالنفس التي يتسلح بها الرواد.
إلا أنهم، مع تقادم الزمن وتراكم الخبرات ومعه الميل الطبيعي لتقويم ما تحقّق، أحلوا الواقعيّة محل الحماسة فارقة. ووقف المتمرسون به وقفة تأمل واستعبار ومراجعة.
المسيحيون العرب: مواقف وادوار
بعد هذه الجولة السريعة، لا بد من التفاتة صوب المسيحيين العرب. ذلك ان مواقفهم إزاء الحوار وادوارهم فيه تستدعي قراءة خاصة.
فهم، تارة، وبنظر فئة من المسيحيين الغربيين والمسلمين، فريق اساسي رمزياً، لكنه ثانوي فعلياً. أكثر من ذلك، يكاد البعض يحسبهم، وان لم يجاهر بذلك، عقبة امام الحوار بين العالمين المسيحي والإسلامي. حكمهم، طورا، وبصرامة أخرى، وسيط لا يستغنى عنه والجماعة التي تتجمّع عندها احتمالات اللقاء ومخاطر المجابهة. في هذا السياق، يحضرنا، اياً كانت دوافعه الاخرى، القول البابوي ان لبنان رسالة.
بالمقابل، يأخذ بعض المسيحيين العرب على الحوار "مثاليته" وابتعاده المفترض عن قضاياهم الحياتية الحرجة. وقد ذهب نفر منهم، لبناني خصوصاً، إلى حد الامتعاض من النظر إلى بلادهم بوصفها مختبرا للعلاقات المسيحية – الاسلامية. غير انهم، فيما ينتقدون الحوار، يعملون على الافادة منه وعلى طريقتهم. فيتوسلون الاهتمام المسيحي العالمي بمحاورة المسلمين ليذكّروه بواجبه التضامني، مع اخوانهم في الدين، وخير مثل نضربه على ذلك، دعوة توجه إلى المسيحيين الغربيين لكي يصروا، لدى المسلمين، على مبدأ المعاملة بالمثل حين يتعلق الامر بأوضاع الاقليات الدينية. اما الفئة المسيحية العربية الاخرى فترى في الحوار المسيحي – الاسلامي قضيتها هي، في المقام الأول، وتعتبر نفسها صاحبة دور فريد، بل رائد في التقارب بين المسيحيين والمسلمين. فالمسيحيون العرب ذوو قدرة مزدوجة على مخاطبة طرفي الحوار العالمي تيسيرا للتعرف المتبادل والتلاقي. غير ان المسألة تتعدى، بالطبع، دور الوساطة الحياتية النزيهة. فبين المسيحيين الشرقيين والغرب علاقة مزدوجة ايضاً. صحيح أنهم افادوا منها على غير صعيد، إلا انهم ضحية ضغوطها على العالم الاسلامي مرتين. مرة لأنها تستهدفهم معه بسبب من شرقيتهم، ومرة اخرى لأن المقاومة الاسلامية للضغوط والرد عليها معرضة, كما كانت الحال في غير ظرف تاريخي، ان تأخذهم بجريدة من يحسبون حماتهم. يبقى، في كل حال، ان الموقف النقدي حيال المسيحية الغربية مشدود إلى روابط المواطنة والشراكة الحضارية مع المسلمين. وهذا ما يضفي على الحوار المسيحي – الاسلامي، بما فيه ما يتصل بمعالجة المشكلات، بعداً عربياً – عربياً (3) . ولا يعني ذلك، بالطبع، خصوصية محَلَّويّة تقلل من قيمته لدى غير العرب بل العكس فهو يؤهله، على نحو افضل، للاسهام في التأثير على العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في العالم، غني عن القول ان للبنانيين قسطاً لا يستهان به في كل هذا، فإن تجربة الحوار اللبنانية، رغم ما يشوبها من التباسات، بفعل انحدارها، هنا وثمّة، إلى السجال او المسايرة الطوائفية، تختزن معاني واحتمالات تتجاوز حدودها الضيقة، ومن شأن انفتاحها على التجارب الأخرى، عربية وغير عربية، ان يساعد في اخصابها. ولا يتحقق هذا الانفتاح على حساب الاهتمام بخصوصية لبنان، وقد ازدادت في السنوات الأخيرة. بل انه حافز له كي يضرب عميقاً فيها. ولعل ذلك يسمح لقول اللبنانية المستعادة والمتجددة ان يخاطب غير اللبنانيين بدل انزلاقه إلى نوع من مركزية الأنا (او النحن) لا يعوض عن عقمها ترداد الكلام عن رسالة لبنان العالمية.
مقاصد الحوار
صار من البداهة القول ان قصد الحوار ليس ان يقنع الواحد الآخر ديانته ابتغاء "هدايته". انه لغة تعامل ونوعية علاقة تتسم بالديمومة فلا تتغير بانتفاء الحاجة الظرفية المباشرة اليها. وهو ارتضاء ان يسائل الشريك شريكه في احترام متبادل للقناعات وقبول، في الوقت نفسه، باحتمال الخطأ في ما يذهب كل اليه. وهو يفتح مساحة تدع الواحد يفسر ذاته ويستقبل الآخر مفسراً نفسه بنفسه.
لكن الحوار يفترض نوعاً من الشك المنهجي، او تعليق الحكم القيّمي، من غير ان يؤدي ذلك إلى زعزعة الايمان. ولا يعني ذلك نسبوية دينية او سعياً وراء التلفيق. غير انه يتطلب إقراراً بنسبيّة القول البشري، بما فيه اللاهوتي الذي قد يشوّه، هنا وثمة، الكلام الذي يؤمن الناس به الهي المصدر ولا يقوم الحوار بين الاديان بل بين المؤمنين الملتزمين، كل من جهته، الطاعة لله من داخل تراثه الديني والساعين إلى التحرر من كل اضطراب آت{ من جراح التاريخ ومن نواقص التفسير.
واذا كان من أول شروطه احترام آخريّة الآخر، فإن لا يجعله اسيراً لها فتحسب المغايرة الدينية مغايرة في كل شيء. ومن شأن التأكيد على الآخرية، من غير ادراك حدودها، ان يؤدي إلى ازدواج المعايير اي مقارنة ما لا تحسن مقارنته. فكثيراً ما تقابل المبادئ الدينية الاصلية عند جماعتنا الخاصة مع الواقع التاريخي للجماعة الاخرى.
ليس في الحوار، اذا ما اراده المؤمنون تطلعاً إلى لقاء وجداني، استيعاب من أحد لأحد. وهذا ما يحمل المطران جورج خضر، في تلمّس لمعناه الروحي، إلى القول: "فالعلي القدير المهيمن بمحبته وهو وحده يستوعبنا جميعاً وفي النهاية يعلو التطهير الكبير حوار الاذهان. ولكن لمكوثنا في العقل قبل ان يخطفنا العشق الالهي، لا نزال بحاجة إلى هذه اللغة أي إلى هذا اللوغوس الذي نحت منه اليونانيون كلمة ذيالوغوس وذيا هي البادئة التي تعني عبر، وكأنهم، ارادوا في عهد سقراط الالهي على فكرين انفتح احدهما على الآخر" (4) .
حوار المؤمنين وقضايا المجتمع والسياسة
قد لا يرى البعض مسوغاً كافياً ولا حاجة تدعوه للاهتمام بالبعد الروحي والديني لكل مبعث مسيحي اسلامي. وقد يرى فيه عجزا عن معالجة القضايا الساخنة او هروبا منها، وفيما يعتبر ان التصدي لمشكلات المجتمع والسياسة محك الارادات الطيبة، لا يتفهم، بل يتحفظ حيال الدعوة إلى الحوار في أمور الدين. وتذهب فئة إلى حد التشكيك في الدافع إلى ما يحسب اقحاما للدين في مجال ليس في الأصل مجاله.
بالمقابل، لا يطمئن نفر غير قليل من أهل الايمان إلى امكانية استغراق الحوار في السياسة. ويخشى عليه من ان يوظف لأغراض ليست، في الأساس، غرضه ومن ان يوقع في اسر اللحظة الراهنة وحسابات المدى القصير. ويأبى انقلاب الحوار إلى تفاوض تتحكم به بالدرجة الأولى علاقات القوى. ان هذا الاخذ والرد لم يعد بالحدة التي كان عليها في الماضي. ولعل الكثيرين أمسوا على اتفاق ان اخراج الدين من حوار المؤمنين يفقده روحه وان تجاهل امور المجتمع والسياسة يبعد الحوار عن موقع التأثير ويحجر على الإيمان دونه والحياة العامة وهذا ما يقود إلى مسأليّة أخرى ينشغل الحوار بها اليوم اكثر من الامس وهي تتصل بالواو بين الدين والدنيا والدولة.
بعبارة أخرى، لم يعد موافقاً الا ينظر، حرصا على تقدم الحوار، في امكانية التمييز بين الديني والسياسي وحدوده. والتمييز هذا يبدأ بالإحجام عن تسييس الدين بشكل مصطنع او تسخيره لإضفاء الشرعية الدينية على المواقف السياسية. وليس ذلك دعوة للفصل بين الديني والسياسي، لا في الاسلام، بطبيعة الحال، ولا في المسيحية. ذلك ان المسلمين يشددون غالباً على العلاقة الوثيقة بينهما وان المسيحيين، بخلاف ما يعتقده البعض، لا يعون دينهم كشأن روحي خالص منفصل عن شؤون المجتمع والحكم. ان المسيحية والاسلام، وان حسب نهجين مختلفين يتأسس كل منهما على نصوص الوحي والخبرة التاريخية، يشهدان ان حقائق الايمان تنير الناس وترشد التزامهم شؤون الدنيا كلها، فضلا عن كونها مؤثرة في تشكيل الشخصية الجماعية، ومن ثم في اعادة النظر في السلوكيّات التي تنتسب إليها.
ويتبيّن لنا بوضوح كل ذلك اذا ما توقفنا، قليلا، امام الحالة اللبنانية. صحيح ان ما نسميه "العيش المشترك" ليس، في المقام الأول، مسألة دينية، لكنه بمعنى ما، شأن ديني ايضاً، فبقدر ما يغفلها الحوار المسيحي – الاسلامي من اجل تجديده (العيش المشترك)، كما نشهد غير مرة يتراجع امام منطق المشاركة الطوائفية، ليس القصد من ذلك ألا تكون العلاقات بين الجماعات الطائفية مدار حوار، بل ان يذهب الحوار إلى أبعد، نحو نقد النزعة "الجوهرية" الطائفية وهي التي تفترض ان لكل جماعة شخصية متجانسة وطبائع ثابتة تكونت في كنف الهوية الدينية وباتت قائمة بذاتها. ويستدعي هذا النقد العمل في سبيل تحرير الثقافة الدينية من سطوة الثقافة الطائفية، فيرد الدين إلى دوره الروحي ليعود ثانية إلى دوره المجتمعي، بوظيفة جديدة، إذا جاز القول. ومن شأن هذا الدور المستعاد ان يحول دون توظيف البنى الرمزية، المنبثقة عن الدين، في ترسيخ الهوية الطائفية التي تعترض الطريق إلى بناء علاقات المواطنة الحق.
وهكذا، لا يستقيم الحوار ولا تتنامى فاعليته ما لم يُحَاكْ الهمّ الديني الهمّ الوطني والانساني. وللشركاء فيه، أجاؤوا من بلد واحد ام تنوعوا، ان يخطوا معاً مسارهم، إلى ما هو مناسب وابقى.
______________________________
(1) راجع" البطريرك اغناطيوس الرابع، المسيحية ولقاء الأديان والثقافات، من خبرة انطاكية إلى دعوتها، بيروت 1985، ص 21.
(2) Maurice Borrmans, Orientations pour un dialogue entre Chrétiens et Musulmans, Editions du Cerf, 1989. (Compiled by) stuart Brown, Meeting in Faith: Twenty of Christian-Muslim Conversations, Geneva, WCC, 1989.
-Issues in Christian-Muslim Relations: Ecumenical Considerations, WCC, 1992. الكتاب الأول يشرح توجهات المجمع الفاتيكاني الثاني، وأهم هذه التوجهات ما جاء في الوثيقة Lumen Gentium الصادرة عام 1964 عن المجمع المذكور وفي الوثيقة المعنونة Nostra Aetate والصادرة عنه ايضاً عام 1965.
ويؤرخ الكتاب الثاني لمبادرات مجلس الكنائس العالمي منذ تأسيس قسم الحوار فيه.
ويعرض الثالث، وهو وثيقة رسميّة صادرة عن اللجنة المركزية في المجلس المذكور، مسائل الحوار الراهنة وسبل تناولها.
(3) يتناول المطران جورج خضر هذه المسألة في بحثيه:
المسيحية العربيّة والغرب، المسيحيون العرب: دراسات ومناقشات، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1981 ص 83 – 98.
العلاقات الاسلامية – المسيحية: قراءة في الراهن والمستقبل، العلاقات الاسلامية المسيحية قراءات مرجعية في التاريخ والحاضر والمستقبل، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت، 1994، ص 201 – 221.
(4) المطران جورج خضر، العلاقات الإسلامية – المسيحية .... مرجع مذكور، ص 218