كلمة العلامة السيد مصطفى محقق داماد في الجلسة الخامسة من مؤتمر "كلمة سواء": الإمام الصدر والحوار
أولاً: كما أن تأثير علم الكلام الاسلامي على المدرسيين المسيحيين واليهود، هو أمر متفق عليه من قبل كافة الباحثين والمحققين في تاريخ الفلسفة وعلم الكلام، فإن الأمر القائل بأن تعاليم المتكلمين المسلمين قد تكاملت في خلال نقاشاتهم وحواراتهم مع المسيحيين عن صفات الله وخاصة ما يتعلق منها بالتثليث، ليس أمراً بعيداً عن الواقع أيضاً، ذلك أنه مما لا شك فيه أن استعمال كلمة الصفة. وظهور قضية الكليات في القرون المسيحية الوسطى عن طريق الترجمة اللاتينية (1) لكتاب هداية المضلين لابن ميمون (530 – 601 هـ / 1135 – 1402)، كان متأثراً جداً بعلم الكلام لدى المسلمين فقد كان – بلو وحتى سعديا غاوون (سعيد الفيومي 271 – 331هـ/ 892 – 942 م) من قبله – يستقي معارفه عن الفلسفة اليونانية بواسطة الترجمات العربية والتفاسير الاسلامية، فكتبا للمسلمين ولغيرهم أيضاً موضوعات باللغة العربية، وكانت الأرضية اللازمة معدّة بواسطة سعديا – الذي من المناسب أن نسميه أشعري اليهودية الشرقية – لتقبل تعاليم المتكلمين المسلمين وخاصة الغزالي، إذ أنه لم يكن يكتفي باتباع أساليب الاشاعرة فحسب، بل كان يتبع براهينهم في التفاصيل ايضاً.
وقد ولد يهودا هلوي في طليطلة سنة 479 هـ، وعاصر الغزالي، وكان شأنه شأن الغزالي – مع الأخذ بعين الاعتبار التحولات التي كانت تطرأ على الدين في ذلك العصر – كثيراً ما يشعر بأن الفلسفة ليست التشكيك في أصول الدين وعدم الاهتمام بها وتعبيراً مجازياً عن المبادئ فحسب، بل أنها تزعزع أساس الدين بإحلالها البرهان محل التعبد والخضوع. وبناءً على هذا فقد انبرى لكتابة ردّ على الفلاسفة سماه (كتاب الخزري) الذي يدعى اختصاراً (الخزري) (2) ، وقد اتبع يهودا هلوي في هذا الكتاب نفس طريقة الغزالي وبراهينه ضد الفلاسفة بأسلوب يتقبله العامة، أي دون استخدام الاساليب المنطقية والغوص في الفلسفة.
الأهم من ذلك، فإن تأثير كتاب الغزالي (تهافت الفلاسفة) على مفكر آخر من متكلمي اليهود المدعو جداي كرسكا، هو أمر بديهي رغم أن ولفسون الاستاذ بجامعة هرفرد، نفى هذا الامر بذريعة ان ترجمة تهافت الفلاسفة إلى العبرية قد تمت بعد وفاة كرسكا على يد أحد طلابه (3)، إلا أن هذا الدليل ضعيف جداً، لأن تهافت التهافت لابن رشد كان قد ترجم إلى العبرية بواسطة قالونيموس بن داود الأكبر قبل سنة 729 هـ/ 1410 م. وقد ترجم الكتاب من العبرية إلى اللاتينية سنة 1328 م. وعلى هذا، اذا سلّمنا أنه لم يكن بإمكانه الحصول بشكل مباشر على أدلة كتاب تهافت الفلاسفة للغزالي، إلا أن المؤكد هو أن اطلاعه على أدلة الغزالي بشكل غير مباشر عن طريق ترجمة تهافت الفلاسفة، كان أمراً ممكناً.
ويمكن اعتبار رايموند مارتين أحد المتكلمين المسيحيين البارزين المتوفى سنة 1285 م، حلقة الوصول بين مسيحية اوروبا والغزالي، ذلك أنه قد اشار بشكل صريح في مؤلفيه: تحليل رموز الحواريين، وشفرة الايمان، إلى مؤلفات الغزالي.
أما تأثير ابن سينا على سبينوزا في كثير من نظرياته وخاصة نظرية الإفاضة، فهو حقيقة متفق عليها لدى مفكري الغرب والشرق (4).
ومهما يكن، فإن استفادة متكلمي الاديان السماوية الاخرى من المتكلمين المسلمين في القرون الوسطى، هو أمر بديهي، لكن ماذا عن تأثير المتكلمين غير المسلمين في المفكرين الاسلاميين؟
ثانياً: ادعى المعتزلة (5) بأن الاشاعرة من خلال أعلامهم بأن القرآن غير مخلوق، قد أيدوا في حقيقة الامر، المفهوم المسيحي (الكلمة) {LOGOS} ووقعوا في فخ الشرك. واستدل المعتزلة على ذلك بقولهم ان اصرار الاشاعرة على عدم خلق القرآن، يعني القول بقدمه مع ذات الباري وجعله شريكاً وجريراً من الذات الازلية، وبذلك جعلوا له شريكاً يقول الشيخ المفيد:
"وأحدث رجل من أهل البصرة يعرف بالأشعري، قولاً خالف فيه ألفاظ جميع الموحدين ومعانيهم فيما وصفناه، ورغم أن لله – عز وجل – صفات قديمة وأنه لم يزل بمعانٍ لا هي هو، ولا غيره من أجلها كان مستحقاً للوصف بأنه عالم حي قادر سميع بصير متكلم مريد، رغم ان لله عز وجل وجهاً قديماً وسمعاً قديماً وبصراً قديماً ويدين قديمتين، وأن هذه كلها أزلية قدماء".
وهذا قول لم يسبقه اليه أحد من منتحلي التوحيد فضلاً عن أهل الاسلام (6).
واللافت للنظر أن الاشاعرة كانوا هم أيضاً ينسبون تهمة كهذه للمعتزلة، ويصفونهم بأن أكبر الكفار مستدلين بأن كل من يصرّ على كون القرآن مخلوقاً، هو قريب جداً من معتقد الكفار الذين كانوا يقولون بأن القرآن من صنع فكر النبي، ويستشهد الاشاعرة بإحدى آيات القرآن التي قال الله فيها بشأن رأي المشركين في القرآن: ﴿ان هذا الا قول البشر﴾ ]المدثر: 25[.
قال الاشعري، "فمن زعم أن القرآن مخلوق، فقد جعل قولاً للبشر" وهذا ما أنكره الله على المشركين (7).
ورغم ادعاء المعتزلة هذا، الذي حظي بتأييد بعض المستشرقين أيضاً، والقائم على أن الأشاعرة أقاموا رأيهم بأزلية القرآن وعدم خلقه، على أساس المفهوم اليهودي أو المسيحي لكلمة (LOGOS)، فلا يمكن اعتبار ذلك صحيحاً، والدليل على ذلك أنهم قد اتخذوا من ظاهر بعض آيات القرآن الكريم أساساً لمعتقداتهم. وليس الأمر بأنهم اتخذوا هذا لمبدأ بعينه من الغير ثم طابقوه مع ظاهر القرآن. لكن يمكن القبول بهذا القدر، وهو أن البحوث المتعلقة بصفات الله بشكل عام وبحث (كلام الله) بشكل خاص، قد نمت وتكاملت خلال النقاشات والحوارات العلمية بين المتكلمين المسلمين وبقية الاديان والاطلاع على آثار بعضهم البعض. وهذا البحث قد دخل الفلسفة الحديثة لأوروبا من نصوص القرون الوسطى المسيحية بواسطة ديكارت، وفي نصوص فلسفة القرون الوسطى اليهودية بواسطة سبينوزا.
ثالثاً: كلمة الله. إن المقارنة بين رسول الاسلام الكريم محمد بن عبد الله (ص) في الفكر الاسلامي مع عيسى بن مريم (ع) في الفكر المسيحي ليست أمراً مقبولاً، ذلك أنه لا نبوة عيسى بن مريم في المسيحية بمعنى النبوة في الاسلام، ولا النبي في الاسلام بمعنى النبي في المسيحية، ولسنا بصدد الخوض في هذا البحث.
وإذا أردنا المقارنة بين بعض المقدسات الاسلامية وبين بعض المقدسات المسيحية، فينبغي لنا المقارنة بين عيسى المسيح في فكر المسيحيين وبين القرآن الكريم في فكر المسلمين – مع وجود أوجه شبه كثيرة – مقارنة صحيحة، ذلك أن كلاً من عيسى المسيح والقرآن يعتبر كلمة الله. إذ ورد في القرآن الكريم ﴿إذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين﴾ ]سورة آل عمران: آية 45[ وعيسى المسيح في المسيحية هو كلمة الله متجسمة ومتجسرة، وتجسمها وتجسرها هو كتنزيل القرآن، وفي النهاية تحوله إلى مصحف مدوَّن (8).
وقد طرح هذا الموضوع في تاريخ علم الكلام بهذا الشكل. فقد وصف القرآن نفسه بأوصاف تشير إلى أن وجود القرآن سابق للحدوث التاريخي لإيحائه إلى رسول الله (ص)، من قبيل كتاب مكنون ﴿إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون﴾ ]الواقعة: 77- 78[، ولوح محفوظ: ﴿وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم﴾ ]الزخرف: 4[.
فمن آيات كثيرة في القرآن الكريم، يستنتج بوضوح أن القرآن قد نُزِّل، وفي نفس الوقت تدل على أن وجوده كان سابقاً لنزوله.
رابعاً: في حالة اعتبار اللوح المحفوظ حادثاً أو مخلوقاً، فان قضية تحول القرآن إلى مصحف وتدوينه. بمعنى وجود علاقة بين الوحي المنزل وبين أم الكتاب، لا تؤدي إلى ظهور أية مشكلة فلسفية. فقد طرحت المشكلات الفلسفية في الوقت الذي اعتبر القرآن بالنظر إلى الآيات الكريمة – علماً مستقى من الله ﴿ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من وليّ ولا واقٍ﴾ ]الرعد: 37[،﴿ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم﴾ ]البقرة: 120[.
كما أن الآيات 1-3 من سورة سبأ، دعت مجموعة من المتكلمين إلى الخلط بين القرآن وصفة العلم احدى صفات الربوبية، وعللوا ذلك بأن القرآن حادث في الزمان، وأمر مدون متحول إلى مصحف من صفة العلم الازلي المقدم الوجود، وهذه المشكلة تشبه ما طرح في المسيحية بشأن تجسد وتجسم عيسى، والمثير أنها عُللت هي الأخرى بنفس الطريقة، فقد جسّم المتكلمون المسيحيون وجسّدوا عيسى في هيئة بشر واعتبروه الشخص الثاني في التثليث.
أما المتكلمون الشيعة، وبعد أن ووجه استخدام كلمة (مخلوق) وصفا للقرآن بمشكلة، فقد طرحوا – اتباعاً لأهل البيت (ع) – الكلمة التي استخدمها القرآن لنفسه مرتين: ]الانبياء: 2[ ﴿وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين﴾ ]الشعراء: 5[.
يقول الشيخ مفيد:
"وأقول ان القرآن كلام الله ووحيه، وانه محدث كما وصفه الله تعالى، وأمنع من اطلاق القول عليه بأنه مخلوق. وبهذا جاءت الآثار عن الصادقين عليهم السلام" (9).
خامساً: الصفات الالهيّة، اعتبرت الصفات الالهية من قبل بعض المتكلمين الاسلاميين (الاشاعرة) شبيهة بالاقانيم في التثليث المسيحي، ذلك أنهم كانوا قد اعتبروا الصفات الالهية ذوات متمايزة في الذات الالهية مثلها. الا أن متكلمي المعتزلة والمتكلمين في أتباع أهل البيت (ع) أيضاً أنكروا أزلية القرآن وحاولوا من خلال التحليلات الفلسفية العميقة أن لا يوجهوا مشكلات التجسيم الموجودة في المسيحية، فقد تقبلوا أزلية قدم الصفات الالهية، لكن ليس بوصفها ذواتٍ متمايزة، بل أعلنوا أن الصفات الالهية هي عين الذات دون أية كثرة. وبذلك برأوا من أية مشكلة أو قضية تشبه ما كان اعتراضات على التثليث المسيحي، وبرأوا من الشرك. وكانوا يعتقدون أن الاعتقاد بأن الصفات الالهية ذوات متمايزة أزلية سيجابه نفس المشاكل التي واجهها الاعتقاد بالتثليث في المسيحية، ذلك لأن أزلية الصفات، وكونها في نفس الوقت زائدة عن الذات وتعددها, يعني القبول بقدماء متعددين، مما سيجعل الاعتقاد بالتوحيد هذا يواجه مأزقاً، كما رأينا فيما مضى في تصريح الشيخ المفيد الذي نسب بشكل صريح الرأي المعارض إلى القبول بقدماء متعددين، وإلى نظرية يقول بها "غير منتحلي التوحيد عن أهل التوحيد" (10).
سادساً: من أجل أن يحفظ الشيخ المفيد تميز الاوصاف الالهية وقدمها من جانب عدم الحاق ضرر بمبدأ التوحيد، وعدم نسبة أوصاف زائدة لذات الله من جانب آخر. فقد قدم طرح "المعاني المعقولات" الدقيق الذي سنبدأ بتحليله.
إذ قال الشيخ:
أقول: إن وصف الباري تعالى بأنه حي قادر عالم يفيد معاني معقولات ليست الذات ولا أشياء تقوم بها (11).
ولا يقصد الشيخ: "المعاني المعقولات" بأن المعاني صفات زائدة عن الذات وجودياً، بل إن المعاني زائدة عن الذات تصورياً وذهنياً. وقد فسر الشيخ بعد عدة أسطر ما كان يعنيه بذلك بالشكل التالي:
"وقولي في المعنى المراد به المعقول في الخطاب دون الاعيان الموجودات" (12).
وبإنعام النظر في قول الشيخ، يتضح بشكل لا يقبل اللبس أن مراده من "المعقول" الوارد لديه هو نفس "المفهوم المتصوَّر" وهو نفس المفهوم الذي استخدم فيما بعد في (الحكمة المتعالية) لبيان زيادة الوجود على الماهية وبيان العلاقة بينهما. وقد سمى الحكيم السبزواري بحثه: "زيادة الوجود على الماهية" وقال مستفيداً من العروض.
إن الوجود عارض المهيّة – تصوراً، واتحدا هوية (13).
أي أن الوجود والماهية رغم كونهما يخالف بعضهما الآخر في الذهن والتصور، ويوجد بينهما تعدّد، لكنهما واحد في العالم الخارجي العيني.
وعلى هذا المنوال أيضاً يمكن تبيان رأي الشيخ المفيد في الصفات، فالصفات يغاير بعضها بعضاً في عالم التصور، كما أنها مغايرة لذات الله، لكنها ليست كذلك في عالم الوجود، أي العالم الخارجي.
ويبدو ان السيد مكدرموت قد استنتج أيضاً من كلام الشيخ رحمه الله نفس هذا الاستنتاج حيث رأى أن طريقته تصورية (Concepualism) أو مفهومية تعبير أفضل (14).
سابعاً: كانت مسألة تحديد الصفات الالهية مع المحافظة على مبدأ التوحيد، والمحافظة في نفس الوقت على التغاير الحقيقي بين مراتب الصفات، مطروحة دائماً على بساط البحث لدى المفكرين الاسلاميين المتأخرين. ففيما يتعلق بأسماء الله اتجه ابن عربي والملا صدر شأنهما في ذلك شأن الشيخ مفيد، إلى أن يستنتجا شكلاً تصورياً. فقد انكر إبن عربي، بشكل لا لبس فيه، الحالة الوجودية للصفات، وهو ما توضحه العبارات التالية:
"وإنما هذا الذي نثبته إنما هو أعيان النسب، وهذا الذي عبر عنه الشرع بالاسماء، فما من اسم الا وله معنىً ليس لآخر، وذلك المعنى منسوب إلى ذات الحق، وهو المسمى صفة عند أهل الكلام من النظّار، وهو المسمى نسبة عند المحققين.
.... وهل لها أعيان وجودية أم لا؟ ففيه خلاف، إنها نسب وأسماء على حقائق معقولة غير وجودية. فالذات متكثرة بها، لأن الشيء لا يتكثر إلا بالاعيان الوجودية، بالأحكام والاضافات والنسب (15).
ويقول في موضع آخر:
"والنسب ليست أعياناً ولا أشياء، وإنما هي أمور عدميّة (16).
ويقول أيضاً في موضع آخر:
"لأنها – أي النسب – ليست أعياناً وجودية، ولا تتصف بالعدم المطلق لكونها معقولة (17).
أما الملا صدر الشيرازي فقد علل مرتبة وجود الاسماء كما يلي: "اذ ما من شيء إلا ويوجد في اسمائه تعالى الموجودة أعيانها بوجود ذاته على وجه أشرف وأعلى، الواجبات بوجوب ذاته ... (18).
... ان الجميع بسائط عقلية موجودة بوجود واحد واجب لذاته، وهذا من عجائب أسرار عظمة الله (19).
وقال في موضع آخر:
"صفاته تعالى عين ذاته، لا كما تقول الاشاعرة من اثبات تعددها في الموجود ليلزم تعدد القدماء الثمانية، ولا كما قالته المعتزلة من نفي مفهوماتها رأساً وإثبات آثارها وجعل الذات نائبة منابها" (20).
فكما هو ملاحظ فإن محي الدين بن عربي والملا صدر الشيرازي قد تقبلا أساس نظرية "المعاني المعقولات" للشيخ المفيد المتعلقة بمسألة الصفات الالهية وأيّداها، رغم أن المسألة قد أصبحت في فكري ابن عربي والملا صدر أكثر اتساعاً وفي نفس الوقت أكثر اثارة للاعجاب، ذلك أنه وفقاً لرأيهما فإن جميع المخلوقات لها وجود عقلي. ووفقاً فإن جميع المخلوقات هي نظائر لأسماء الله ويمكن اعتبارها جميعاً كلمة الله، وهذا أمر يتطلب بحثاً خاصاً، فلا نقول في هذا المضمار شيئاً أكثر مما قلناه.
ثامناً: إن الاختلاف والتغاير بين مسيرة الفكر الاسلامي والتحولات التي طرأت عليه مما تحدثنا عنه بشكل موجز آنفاً، وبين مسيرة الفكر التثليثي في الغرب، والتحولات الطارئة عليه واضح جداً للعيان.
ففي الفكر الإسلامي ورغم أن الاتجاه كان دائماً – بميل نحو تعدد الصفات بصورة أكبر إلى الحد الذي اعتبرت معه جميع المخلوقات، وبشكل من الاشكال، في عداد صفات الله، إلا أن الصفات الالهية قد منحت مكانه خاصة تجعلها في أمان مما يؤدي إلى المساس بأي شكل بمفهوم الوحدة وتوحيد ذات العباري (21).
كان المتكلمون المسلمون الاوائل على اطلاع نظرية الوجوه (Modalist) في مبدأ التثليث، ولم يروا في النظرية المذكورة أكثر من بدعة جاء بها المسيحيون السطحيون.
تنسب نظرية الوجوه (Modalism) إلى شخص يدعى سابليوس (22) الذي كان يعتقد أن الله أقنوم واحد له ثلاث صفات في الظهور. أي نفس الشيء الذي طرحه فيما بعد بعض العارفين المسلمين، وورد في الادب الفارسي على لسان الشاعر هاتف الاصفهاني:
قلت لفاتنة مسيحية في الكنيسة يا من أصبح قلبي أسيراً لديك
إلى متى تظلين تائهة عن إدراك طريق التوحيد؟
وإلى متى – تُحمَّل أوزار التثليث على الواحد؟
ان اسم الحق واحد فلماذا دعي أباً وابناً وروح قدس؟
حين يدعى الابريسم بأسماء (پؤنيان)، (حرير) و(برند).
فإنه لا يصبح ثلاثة بل يظل ابريسماً.
إن الذي شعّ على المرايا الثلاث الازلية هو شعاع من وجهه المنير
وبينما كنا نتجاذب أطراف هذا الحديث انطلقت هذه الاغنية من الناقوس:
واحد ولا احد سواهُ وحده لا اله إلاّ هو
أما في مسيرة تحولات علم الكلام لدى المسيحية، فإن نظرية من الوجوه مبدأ التثليث الذي كان عادةً مرتبطاً بالكنيسة اليونانية، قد رفضت في الغرب بشدة، ذلك أن المسيحيين هناك كانوا على ما يبدو يعتقدون بشكلٍ من التثليث الامتدادي، بشكل يكون فيه الابن أباً على الدوام، وبالتالي فإن الابن الوحيد تام الالوهية. وفي مجال الرد على التفسير الوجوهي لمبدآ التثليث أعلن المتكلمون المسيحيون أن الله ليس ثلاثة في التصور والمعنى فحسب، بل هو وجود مثلث بالذات والوجود العيني (23) . وهذا هو الشرك لمحض من وجهة نظر المتكلمين الاسلاميين ﴿ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد﴾ ]النساء: 171[.
إن واحداً من الادلة التي قدّمها الكَنْدي لدحض نظرية التثليث، قد وردت بنصها في كتابات المسيحيين وانبرى بعضهم للرد عليها.
كان الكِنْدي قد قدم اعتراضه قائلاً: لا يمكن إدراك الأقانيم الثلاثة ضمن اطار المقولات التي ذكرها فرفوريوس في ايساغوجي. وقد أجاب المتكلم المسيحي يحيى بن عدي على هذا الاعتراض بقوله: ان الذوات المذكورة هي جواهر فردية (24).
وقد استخدم المتكلمون الإسلاميون – ومنهم الغزالي – البرهان التمانعي المستقى في القرآن الكريم في اثبات التوحيد، حيث كان لكل واحد منهم أسلوبه في شرحه، فقد قال الغزالي:
"حين يكون هناك إلهان، وأراد أحدهما القيام بعمل، عندها يكون وضع الآخر أحد سبيلين: إما أن يعينه في تحقيق ذلك العمل، فيكون عندها وجوداً تابعاً وليس الله القادر المتعالي، وإما أنه يهبّ للخلاف والمعارضة، فيكن هذا عندها هو القادر المتعالي وذلك الآخر ضعيفاً وناقصاً وليس الله المتعالي" (25) .
ان هذا الاستدلال الذي هو شكل من أشكال البرهان التمانعي قد استخدمه فيما بعد سكاتوس (26) ضد شكل من أشكال الفكر التثليثي المسيحي وهو المسمى بالتثليث الجماعي. ففي فكر التثليث الجماعي الذي هو شكل من أشكال تفسير عقيدة التثليث، تكون ذات الباري متضمنة لثلاث شخصيات وجودية متميزة، لكل واحد منها صفات لازمة لها فردياً، وكافية لها بالاشتراك لتكون رباً.
وقد شرح البرهان التمانعي في كتب المتكلمين المسيحيين المحدثين بشكل استدلال منطقي، نمتنع عن ذكره هنا مراعاة للايجاز (27) .
_________________________
(1) لمزيد من الاطلاع، انظر كتاب حوريك، طبعة نيويورك 193 ص 24. History of medieval jewish philosophy.
(3) ولفسون: Crasca’s Critique of Arestotle طبعة هارفرد 1929، ص 2.
E.I.J. Rosenthal “Avieenna’s influence on Jewish Though” Avieenna: Scientist and Philosopher, ed, Wiefens, London, 1952 Ch. Iv.
وكذلك “Spinoza” Emcyclopedia Britanica وكذلك كتاب سعيد الشيخ Studeis in Muslem Philosophy.
تربية السيد مصطفى محقق داماد، ص 142.
أما فيما يتعلق بنظرية الافاضة لدى سبينوزا، انظر الاخلاق، القسم الأول، القضية 17، الملاحظة.
(5) انظر مطالعات تطبيقي دار فلسفة الاسلامي، ترجمة السيد مصطفى محقق داماد، نشر دار خوارزمي، سنة 1369 ش، طهران، ص 48.
(6) أوائل المقالات، قم 1413 هـ ص 51 – 52.
(7) الابانة، ص 56.
(8) استخدم ولفسون Wolfson مؤلف كتاب Philosophy of calam كلمة Inlibration لهذا المعنى، الذي يمكن ترجمتها إلى التحول إلى مصحف او تدوينه.
(9) اوائل المقالات، ص 53.
(10) المصدر نفسه والصفحة.
(11) المصدر نفسه، ص 56.
(12) المصدر نفسه والصفحة.
(13) منظومة حكيم سبزواري بداية مبحث (أصالة الوجود).
(14) MC. Dermott, 1978, P.134ff
(16) المصدر نفسه، 2/516، السطر 34، السطر 34.
(17) المصدر نفسه، 3/362، السطر 5.
(18) الحكمة العرشية، ص 229.
(19) المصدر نفسه، ص 230.
(20) المصدر نفسه، ص 223.
(21) انظر مثال (تأثير غزالي بر متفكران مغرب زمين) (تأثير الغزالي في مفكري الغرب) للسيد مصطفى محقق داماد في مجلة (مقالات وبررسيها العدد 45 – 46).
(22) Sabellius.
(25) نقلاً عن كتاب وليم، ج، وين رايت: Rationality, Religious and moral Commitment طبعة سنة 1986، ص 301 – 302، حيث نقل النص أعلاه عن كتاب: Tract on dogmatic theology من تأليف تيبادي الذي هو ترجمة "رسالة في أصول الحقائق" للغزالي
(26) Scotuy