14 تشرين الثاني 1996
الكاتب:مهدي فيروزان
كلمة المهندس مهدي فيروزان في الجلسة الخامسة من مؤتمر "كلمة سواء": الإمام الصدر والحوار
تلتقي الأديان والمذاهب السماوية رغم تبايناتها على العديد من المواضيع والامور الثابتة، ومنها موضوع الاعتقاد بالله، وحتى لو تباينت عقائد الاديان في موضوع صفة الله وذاته وكيفية علاقَتهٍ بالإنسان إلا انها تظل ملتقية على حقيقة أن الله كامل ومنزّه من كل نقص او عيب.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما المقصود بالكمال وكيف يمكن إدراك الكمال، إن هذا الموضوع في حقيقته شديد التعقيد إلا أنه يمكن القول إن مفهوم الكمال، كمفهوم الوجود يعتبر من الامور البديهة، التي جعلت أهل الكلام يتجهون إلى إثبات الصفات الايجابية والسلبية. فمن خصوصيات مفهوم الكمال: السعة اللامتناهية والشمولية، وهو ما جعل الصفات الالهية تضم الأضداد في وقت واحد مما يشكل دليلاً على كمال الله تعالى، وما من شك في أن الله تعالى يتصل بالموجودات من خلال صفاته الالهية وأسمائه الحسنى. وكل موجود من موجودات العالم، يمثل مظهراً من مظاهر الحق تعالى.
إن عالم الملك هو انعكاس أو ظل لعالم الملكوت، الذي هو – حسب افلاطون – عالم المثال الاعلى، وحسب الفلاسفة المسلمين عالم الأعيان الثابتة التي تتدرج في الارتفاع، حتى تصل إلى مستوى الاعيان الثابتة المطلقة التي هي العلم الالهي، وصولاً إلى الذات الإلهية، وهذه هي مرحلة "كن فيكون".
إن لكل من الموجودات في عالم الوجود، سواء في الملك او الملكوت، ماهية محددة، وهي ليست سوى مظهر لإحدى الصفات الالهية. إلا أن الموجود الآدمي، وبحكم عامل التطور والتغيير الذي أودع في جوهره وفطرته، يشكل مظهراً جامعاً لكافة الصفات الالهية، بحيث يمكن اعتباره مرآة كاملة للباري عز وجل.
ووفق المنظار الالهي للعالم، خصوصاً من زاوية معرفة الإنسان كما وردت في كتب العهد القديم والعهد الجديد والقرآن الكريم، يعتبر الانسان الابن الرشيد لعالم الخلق، وهو خلافاً لسائر الحيوانات، يتصف بروح متسامية فيقول القرآن الكريم ﴿نَفَخْتُ فيه من روحي﴾ فلقد وضع الله ثلاث ودائع في الإنسان لتكامله ألا وهي:
- العقل،
- المحبة،
- والارادة في الاختيار.
- وضع العقل من اجل ان يتصل بعقل الكل او العقل الالهي Intellect ومن أجل معرفة الله في مراتب متعددة.
- وضع المحبة من أجل أن يحب الإنسان الخير المطلق Sovereign Good وكذلك الكمال والجمال وما يتعلق بها.
- وضع الإرادة من أجل العمل الصالح والحركة في اتجاه الكمال وتحقيق الفضائل الاخلاقية وتهذيب النفس Katharsis وتجريدها من المادة وصولاً إلى الالتقاء بالله والفناء فيه.
إن العقل يقود إلى معرفة الله، والعشق والمحبة هما نتيجة معرفة العقل، أي أنه يوصل إلى الحقيقة المطلقة والجمال والكمال المطلقين وكما يقول يوحنا، فإن الله هو المحبة.
إن العشق والمحبة يوجهان حركة الإنسان باتجاه الكمال المطلق. فتظهر إرادة العمل وتتجلى حركة الانسان نحو السماء والكمال. ذلك أن الإنسان كان في البداية عند الله، وفي "الحديث القدسي" عبدي أََطِعْني تكن مَثَلي أو مِثْلي، وفي القرآن جاء أن الإنسان هو مخلوق الله. وبتعبير آخر فإنه – أي الإنسان – يحمل الأمانة الالهية. وهو الذي علم أسماء الله، وفي وجوده عالم صغير يختزن كل اسماء الله وصفاته، وهذا ما يشير إليه العهد القديم في الباب الأول الآية 26 و27، حينما يقول إن الله قال إنني خلقت آدم على شاكلتي ليكون له سلطان على اسماك البحر وطيور السماء، وبهائم الارض وجميع الحشرات. إذن فإن الله خلق آدم على صورته. أي انه خلق الانسان على شاكلته.
وفي كتاب التوحيد للشيخ الصدوق الباب 6 الحديث 18 ورد أن الإمام الباقر سئل عن حديث لنبي الاسلام يقول فيه "فإن الله خلق آدم على صورته" فقال: هي صورة محدثة مخلوقة، إصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح فقال بيتي وقال ﴿ونفخت فيه من روحي﴾.
ونجد هذه الصورة نفسها في العهد القديم، الباب السابع والآية الثانية "عندما نقرأ: أن الله خلق آدم من تراب الارض ونفخ في أنفه روح الحياة فبدأ آدم يتنفس".
من جانب آخر، فإن طريق الوصول إلى الكمال وولادة الانسان الكامل مثل الانبياء والاولياء والائمة الاثني عشر، السيدة مريم والسيدة الزهراء عليهم السلام، توضحه النصوص الالهية العديدة التي تؤكد أن بإمكان الانسان أن يصبح إلهياً بالمعرفة العقلية والمحبة القلبية وإرادة العمل الصالح. وفي رسالة بولس جاء في معرض التوضيح أن الإنسان مظهر للصفات الالهية ومؤهل لدرجة الكمال الالهي، قوله: "إن عيسى هو وجه الله الذي لا يُرى".
في رسالة بولس الرسول إلى اهل "أفسس" نقرأ في معاني الكمال والقدرة على بلوغه ما يخاطب به المؤمنين داعياً إياهم إلى التجدد بروح أذهانهم وإلى تمثل الانسانية الجديدة التي خلقت على صورة الله في العدالة والقدسية الحقيقية.
"الجمال هو في عين الناظر" هذا المثل الانكليزي مأخوذ عن حديث لأفلاطون .. يقول أفلاطون الحكيم الالهي:
"العين يجب ان تكون لها طبيعة نورانية وصورة كالشمس، لكي تتمكن من رؤية النور. لذا فإن الحقيقة يجب ان تكون جزءاً من ذات العقل. والكمال يجب ان يكون في ذات المحبة الموضوعة في الانسان وإرادته. لكي يتمكن من معرفة الله. عند ذاك فقط يمكن للإنسان إدراك وحب الصور الجميلة التي تؤدي إلى الكمال المادي والمعنوي للإنسان، ذلك أنّ الجمال والكمال جزء من ذات روح الإنسان.
روح مجردة وغير مادية، والانسان يملك القدرة على بلوغ مرحلة التجرد، أي الكمال النسبي، فعندما تبلغ الروح مرحلة التجرد تصل إلى مرتبة العلم والقدرة على معرفة الحقائق المعلومة والصور المعقولة. فيعرف الانسان الاشياء كما هي وهذه هي المعرفة.
إذن، فهدف خلق الإنسان هو الوصول إلى الكمال الذي هو معرفة الحقيقة المطلقة والعرفان الإلهي هو الذي يأتي عبر العبودية بمعناها الواسع الذي يشتمل على الشرع والالهيات والحكمة. والله تعالى يجيب عن سؤال داوود عليه السلام عن سبب خلق الخلق، فيقول: كنت كنزاً مخفياً وأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أعرف.
إذن فجميع الاشياء، من جماد ونبات وحيوان وإنسان بإمكانها بلوغ معرفة الله وفقاً لمؤهلات كل منها وما يحمله من صفات الله. ومن الضروري هنا معرفة التعريف الذي يقدمه المفسرون الالهيون حول الإنسان. فهو حسب ارسطو، حيوان ناطق، وحسب حكماء الإنسان، موجود عاقل وصاحب قدرة على الحب والارادة. وحسب محي الدين ابن عربي، فإن الإنسان موجود خلق على صورة الله. وهو مظهر للاسم المبارك "الله" وجامع لجميع الاسماء والصفات الالهية. وبتعبير آخر فإن الإنسان الكامل هو التجسد الارضي لله تعالى وحركة الانسان هي باتجاه المطلق ونحو المساء "يمشي سوياً".
إن الله هو المطلق وشرط المطلقية هو اللانهائية وأول ما ينتج عن اتحاد البعدين المطلق واللامتناهي هو الكمال. كما أن الكمال يستلزم الجمال، والجمال يستلزم الكمال والكمال جميل في ذاته. والجمال هو الموجد للعشق والمحبة.
من هنا، وعلى أساس التعاريف التي وضعتها الاديان، وخصوصاً الاسلام والمسيحية، فإن للإنسان قوة إلهية. والإنسان الكامل بإمكانه أن يصبح ظل الله ولسانه وكلامه على الارض.
إن القدرة والعلم والارادة والكمال والجمال أمر ذاتي وأبدي لله تعالى, أما في الإنسان فهو عرضي غير ذاتي.
ولهذا فإن الله تعالى يرشد الانسان إلى الكمال عن طريق وسطائه الذين هم الانبياء المرسلون والكتب المقدسة والوحي والشرائع ورحمته التي ينزلها على الإنسان ليوصله في النهاية إلى الجنة. فالجنة ليست المقام النهائي الوحيد للإنسان، ولهذا فإن أفلاطون كان يقول: إن الموسيقى على الارض يمكن ان تمثل تذكيراً للإنسان بالالحان السماوية الجميلة باعتباره مطروداً من السماء إلى الأرض. ويشارك أفلاطون في هذا الرأي كل من الشعراء والعرفاء مولوي وحافظ وعراقي والعديد من اهل العرفان الاسلامي.
وفي انجيل يوحنا الباب الثالث، الآية 13 ورد: "أنه لا يصعد إلى السماء إلا من نزل منها، أما الحكيم اليوناني (أفلوطين) فيقول إن الإنسان شرب في الجنة من نبع النسيان وهبط إلى الأرض وكذا الحال في آيات قرآنية عدة منها الآية 25 من سورة البقرة التي تؤيد هذا المعنى، فقد ورد فيها: ﴿كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً﴾ ]البقرة: 25[.
وعلى أساس هذه النقاط المشتركة، فإن الاسلام والمسيحية يشتركان في القول بأن لله رؤية الجمال في هذا العالم، يجب أن تكون حالة سابقة لرؤية السعادة في العالم والجمال الارضي، يجب أن يذكر بالمثال الأعلى للجمال في الملكوت ويعكس الأعيان الثابتة لذلك العالم.
من هنا، فإن مفهوم الله وكماله وحقيقته المتعالية، والجمال المطلق، هي مفاهيم مشتركة بين الاديان الإلهية التي تنظر إلى الإنسان على أنه حامل للأمانة الالهية، والعلم الالهي، ومظهر لصفات الحق وأسمائه وخليفته في الارض. ولا بد من وجود صلة منطقية بين الخليفة ومن يعين هذا الخليفة، وهذه الصلة هي الروح الانسانية المجردة التي تسير بالإنسان إلى الكمال. والعقل هو الذي يقود إلى معرفة الحقيقة المطلقة والتحليق في عالم الملكوت الاعلى ومعرفة الله، والمحبة هي التي تقود إلى حب الكمال والجمال، والله كامل وجميل، والارادة هي التي تدفع الإنسان نحو الخير والتخلق بأخلاق الله والالتحاق بالملكوت المساوي والكمال.
ولعل الحديث النبوي الشريف "موتوا قبل ان تموتوا" هو بنفسه معنى الكمال الوارد في انجيل مرقس الباب الثامن، الآية 24 – 37 وانجيل متى ولوقا، حيث ورد على لسان الباري عز وجل: ان كل من يريد إطاعتي، عليه إنكار ذاته وحمل صليبه واتباعي ذلك ان من يريد خلاص روحه، عليه إهلاكها، وكل من قدم روحه لي وللانجيل، فقد أعتقها".
في ختام هذا البحث، لا بد ونحن نتحدث في مؤتمر للحوار الاسلامي المسيحي، يعقد باسم سماحة الإمام موسى الصدر، من أن نتذكر هذه الشخصية الفذة، فهو من البادئين في موضوع الحوار بين الاديان خصوصاً بين المسيحية والاسلام. ولعله أول شخصية في هذا القرن حققت نجاحاً عملياً كبيراً في ترسيخ التعايش الاسلامي المسيحي.
ولعل من دلالات نجاحه في هذا الطريق ما سمعناه في هذه الجلسات على لسان علماء الدين المسيحيين والمسلمين.
يقول الانجيل كما يقول القرآن
أو يقول القرآن كما يقول الانجيل
لقد استلهم الإمام الصدر من سيرة اجداده، خصوصاً الائمة المعصومين، في عمله على طريق ترسيخ الحوار والتعايش، فأرسى بذلك نهجاً أخلاقياً قائماً على الاصول والمبادئ الالهية الراسخة.
إن أول خطوة على طريق الحوار الإسلامي المسيحي هو الحوار الذي دار بين الإمام علي عليه السلام وجاثليق حوالي العام 657 ميلادي. وذروة هذا الحوار كانت في أوائل القرن التاسع الميلادي أي القرن الثاني الهجري، في عهد الإمامين الصادق والرضا عليه السلام. وفي كتب الشيعة الكثير من الاحاديث عن المسيح عليه السلام وسيرة حياة هذا النبي الكريم وقبل ذلك، فقد وردت كلمة "المسيح" في القرآن ستاً وثلاثين مرة، وكلمة عيسى خمساً وعشرين مرة.
وفي كتاب البيان والتبيين للجاحظ ورد اسم المسيح تسع مرات، وفي كتاب تحف العقول عن آل الرسول نقل عن أبي محرر حسن بن علي بن حسين بن شعبه الحراني ست عشرة صفحة عن المسيح عليه السلام. وفي الخطبة 159 من نهج البلاغة يتحدث الإمام علي عليه السلام عن زهد الانبياء الكبار فيذكر السيد المسيح بقوله:
"وإن شئت قلت في عيسى بن مريم، فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن ويأكل الجشب، وكان أدامه الجوع وسراجه بالليل القمر ...
أما الإمام الصادق، فيستعير عن السيد المسيح بعض أقواله، من خلال نصحه لعبد الله بن جندب، وهي نفس الاقوال الواردة في انجيل متى الباب السادس الآيات 2-3-6-7-16-18.
هنا لا بد من تقديم الشكر لكل الذين ساهموا في الاعداد لهذا المؤتمر لإخراجه بالمستوى العلمي الرفيع، فكان فرصة ذهبية لاجتماع الروحانيين والمفكرين المسلمين والمسيحيين ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين للبحث في مستقبل الاديان وأسهها الميتافيزيقية وضرورة الالتقاء على المبادئ المشتركة.
كما أغتنم الفرصة لتوجيه الشكر لكافة العلماء والمفكرين المسيحيين والمسلمين الذين ساهموا بحضورهم وكلماتهم في ترسيخ وإغناء مفهوم الوحدة والتعايش بين الاديان ...
كما أشكر السيدة رباب الصدر على إقامة هذا المؤتمر العلمي الناجح.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما المقصود بالكمال وكيف يمكن إدراك الكمال، إن هذا الموضوع في حقيقته شديد التعقيد إلا أنه يمكن القول إن مفهوم الكمال، كمفهوم الوجود يعتبر من الامور البديهة، التي جعلت أهل الكلام يتجهون إلى إثبات الصفات الايجابية والسلبية. فمن خصوصيات مفهوم الكمال: السعة اللامتناهية والشمولية، وهو ما جعل الصفات الالهية تضم الأضداد في وقت واحد مما يشكل دليلاً على كمال الله تعالى، وما من شك في أن الله تعالى يتصل بالموجودات من خلال صفاته الالهية وأسمائه الحسنى. وكل موجود من موجودات العالم، يمثل مظهراً من مظاهر الحق تعالى.
إن عالم الملك هو انعكاس أو ظل لعالم الملكوت، الذي هو – حسب افلاطون – عالم المثال الاعلى، وحسب الفلاسفة المسلمين عالم الأعيان الثابتة التي تتدرج في الارتفاع، حتى تصل إلى مستوى الاعيان الثابتة المطلقة التي هي العلم الالهي، وصولاً إلى الذات الإلهية، وهذه هي مرحلة "كن فيكون".
إن لكل من الموجودات في عالم الوجود، سواء في الملك او الملكوت، ماهية محددة، وهي ليست سوى مظهر لإحدى الصفات الالهية. إلا أن الموجود الآدمي، وبحكم عامل التطور والتغيير الذي أودع في جوهره وفطرته، يشكل مظهراً جامعاً لكافة الصفات الالهية، بحيث يمكن اعتباره مرآة كاملة للباري عز وجل.
ووفق المنظار الالهي للعالم، خصوصاً من زاوية معرفة الإنسان كما وردت في كتب العهد القديم والعهد الجديد والقرآن الكريم، يعتبر الانسان الابن الرشيد لعالم الخلق، وهو خلافاً لسائر الحيوانات، يتصف بروح متسامية فيقول القرآن الكريم ﴿نَفَخْتُ فيه من روحي﴾ فلقد وضع الله ثلاث ودائع في الإنسان لتكامله ألا وهي:
- العقل،
- المحبة،
- والارادة في الاختيار.
- وضع العقل من اجل ان يتصل بعقل الكل او العقل الالهي Intellect ومن أجل معرفة الله في مراتب متعددة.
- وضع المحبة من أجل أن يحب الإنسان الخير المطلق Sovereign Good وكذلك الكمال والجمال وما يتعلق بها.
- وضع الإرادة من أجل العمل الصالح والحركة في اتجاه الكمال وتحقيق الفضائل الاخلاقية وتهذيب النفس Katharsis وتجريدها من المادة وصولاً إلى الالتقاء بالله والفناء فيه.
إن العقل يقود إلى معرفة الله، والعشق والمحبة هما نتيجة معرفة العقل، أي أنه يوصل إلى الحقيقة المطلقة والجمال والكمال المطلقين وكما يقول يوحنا، فإن الله هو المحبة.
إن العشق والمحبة يوجهان حركة الإنسان باتجاه الكمال المطلق. فتظهر إرادة العمل وتتجلى حركة الانسان نحو السماء والكمال. ذلك أن الإنسان كان في البداية عند الله، وفي "الحديث القدسي" عبدي أََطِعْني تكن مَثَلي أو مِثْلي، وفي القرآن جاء أن الإنسان هو مخلوق الله. وبتعبير آخر فإنه – أي الإنسان – يحمل الأمانة الالهية. وهو الذي علم أسماء الله، وفي وجوده عالم صغير يختزن كل اسماء الله وصفاته، وهذا ما يشير إليه العهد القديم في الباب الأول الآية 26 و27، حينما يقول إن الله قال إنني خلقت آدم على شاكلتي ليكون له سلطان على اسماك البحر وطيور السماء، وبهائم الارض وجميع الحشرات. إذن فإن الله خلق آدم على صورته. أي انه خلق الانسان على شاكلته.
وفي كتاب التوحيد للشيخ الصدوق الباب 6 الحديث 18 ورد أن الإمام الباقر سئل عن حديث لنبي الاسلام يقول فيه "فإن الله خلق آدم على صورته" فقال: هي صورة محدثة مخلوقة، إصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح فقال بيتي وقال ﴿ونفخت فيه من روحي﴾.
ونجد هذه الصورة نفسها في العهد القديم، الباب السابع والآية الثانية "عندما نقرأ: أن الله خلق آدم من تراب الارض ونفخ في أنفه روح الحياة فبدأ آدم يتنفس".
من جانب آخر، فإن طريق الوصول إلى الكمال وولادة الانسان الكامل مثل الانبياء والاولياء والائمة الاثني عشر، السيدة مريم والسيدة الزهراء عليهم السلام، توضحه النصوص الالهية العديدة التي تؤكد أن بإمكان الانسان أن يصبح إلهياً بالمعرفة العقلية والمحبة القلبية وإرادة العمل الصالح. وفي رسالة بولس جاء في معرض التوضيح أن الإنسان مظهر للصفات الالهية ومؤهل لدرجة الكمال الالهي، قوله: "إن عيسى هو وجه الله الذي لا يُرى".
في رسالة بولس الرسول إلى اهل "أفسس" نقرأ في معاني الكمال والقدرة على بلوغه ما يخاطب به المؤمنين داعياً إياهم إلى التجدد بروح أذهانهم وإلى تمثل الانسانية الجديدة التي خلقت على صورة الله في العدالة والقدسية الحقيقية.
"الجمال هو في عين الناظر" هذا المثل الانكليزي مأخوذ عن حديث لأفلاطون .. يقول أفلاطون الحكيم الالهي:
"العين يجب ان تكون لها طبيعة نورانية وصورة كالشمس، لكي تتمكن من رؤية النور. لذا فإن الحقيقة يجب ان تكون جزءاً من ذات العقل. والكمال يجب ان يكون في ذات المحبة الموضوعة في الانسان وإرادته. لكي يتمكن من معرفة الله. عند ذاك فقط يمكن للإنسان إدراك وحب الصور الجميلة التي تؤدي إلى الكمال المادي والمعنوي للإنسان، ذلك أنّ الجمال والكمال جزء من ذات روح الإنسان.
روح مجردة وغير مادية، والانسان يملك القدرة على بلوغ مرحلة التجرد، أي الكمال النسبي، فعندما تبلغ الروح مرحلة التجرد تصل إلى مرتبة العلم والقدرة على معرفة الحقائق المعلومة والصور المعقولة. فيعرف الانسان الاشياء كما هي وهذه هي المعرفة.
إذن، فهدف خلق الإنسان هو الوصول إلى الكمال الذي هو معرفة الحقيقة المطلقة والعرفان الإلهي هو الذي يأتي عبر العبودية بمعناها الواسع الذي يشتمل على الشرع والالهيات والحكمة. والله تعالى يجيب عن سؤال داوود عليه السلام عن سبب خلق الخلق، فيقول: كنت كنزاً مخفياً وأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أعرف.
إذن فجميع الاشياء، من جماد ونبات وحيوان وإنسان بإمكانها بلوغ معرفة الله وفقاً لمؤهلات كل منها وما يحمله من صفات الله. ومن الضروري هنا معرفة التعريف الذي يقدمه المفسرون الالهيون حول الإنسان. فهو حسب ارسطو، حيوان ناطق، وحسب حكماء الإنسان، موجود عاقل وصاحب قدرة على الحب والارادة. وحسب محي الدين ابن عربي، فإن الإنسان موجود خلق على صورة الله. وهو مظهر للاسم المبارك "الله" وجامع لجميع الاسماء والصفات الالهية. وبتعبير آخر فإن الإنسان الكامل هو التجسد الارضي لله تعالى وحركة الانسان هي باتجاه المطلق ونحو المساء "يمشي سوياً".
إن الله هو المطلق وشرط المطلقية هو اللانهائية وأول ما ينتج عن اتحاد البعدين المطلق واللامتناهي هو الكمال. كما أن الكمال يستلزم الجمال، والجمال يستلزم الكمال والكمال جميل في ذاته. والجمال هو الموجد للعشق والمحبة.
من هنا، وعلى أساس التعاريف التي وضعتها الاديان، وخصوصاً الاسلام والمسيحية، فإن للإنسان قوة إلهية. والإنسان الكامل بإمكانه أن يصبح ظل الله ولسانه وكلامه على الارض.
إن القدرة والعلم والارادة والكمال والجمال أمر ذاتي وأبدي لله تعالى, أما في الإنسان فهو عرضي غير ذاتي.
ولهذا فإن الله تعالى يرشد الانسان إلى الكمال عن طريق وسطائه الذين هم الانبياء المرسلون والكتب المقدسة والوحي والشرائع ورحمته التي ينزلها على الإنسان ليوصله في النهاية إلى الجنة. فالجنة ليست المقام النهائي الوحيد للإنسان، ولهذا فإن أفلاطون كان يقول: إن الموسيقى على الارض يمكن ان تمثل تذكيراً للإنسان بالالحان السماوية الجميلة باعتباره مطروداً من السماء إلى الأرض. ويشارك أفلاطون في هذا الرأي كل من الشعراء والعرفاء مولوي وحافظ وعراقي والعديد من اهل العرفان الاسلامي.
وفي انجيل يوحنا الباب الثالث، الآية 13 ورد: "أنه لا يصعد إلى السماء إلا من نزل منها، أما الحكيم اليوناني (أفلوطين) فيقول إن الإنسان شرب في الجنة من نبع النسيان وهبط إلى الأرض وكذا الحال في آيات قرآنية عدة منها الآية 25 من سورة البقرة التي تؤيد هذا المعنى، فقد ورد فيها: ﴿كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً﴾ ]البقرة: 25[.
وعلى أساس هذه النقاط المشتركة، فإن الاسلام والمسيحية يشتركان في القول بأن لله رؤية الجمال في هذا العالم، يجب أن تكون حالة سابقة لرؤية السعادة في العالم والجمال الارضي، يجب أن يذكر بالمثال الأعلى للجمال في الملكوت ويعكس الأعيان الثابتة لذلك العالم.
من هنا، فإن مفهوم الله وكماله وحقيقته المتعالية، والجمال المطلق، هي مفاهيم مشتركة بين الاديان الإلهية التي تنظر إلى الإنسان على أنه حامل للأمانة الالهية، والعلم الالهي، ومظهر لصفات الحق وأسمائه وخليفته في الارض. ولا بد من وجود صلة منطقية بين الخليفة ومن يعين هذا الخليفة، وهذه الصلة هي الروح الانسانية المجردة التي تسير بالإنسان إلى الكمال. والعقل هو الذي يقود إلى معرفة الحقيقة المطلقة والتحليق في عالم الملكوت الاعلى ومعرفة الله، والمحبة هي التي تقود إلى حب الكمال والجمال، والله كامل وجميل، والارادة هي التي تدفع الإنسان نحو الخير والتخلق بأخلاق الله والالتحاق بالملكوت المساوي والكمال.
ولعل الحديث النبوي الشريف "موتوا قبل ان تموتوا" هو بنفسه معنى الكمال الوارد في انجيل مرقس الباب الثامن، الآية 24 – 37 وانجيل متى ولوقا، حيث ورد على لسان الباري عز وجل: ان كل من يريد إطاعتي، عليه إنكار ذاته وحمل صليبه واتباعي ذلك ان من يريد خلاص روحه، عليه إهلاكها، وكل من قدم روحه لي وللانجيل، فقد أعتقها".
في ختام هذا البحث، لا بد ونحن نتحدث في مؤتمر للحوار الاسلامي المسيحي، يعقد باسم سماحة الإمام موسى الصدر، من أن نتذكر هذه الشخصية الفذة، فهو من البادئين في موضوع الحوار بين الاديان خصوصاً بين المسيحية والاسلام. ولعله أول شخصية في هذا القرن حققت نجاحاً عملياً كبيراً في ترسيخ التعايش الاسلامي المسيحي.
ولعل من دلالات نجاحه في هذا الطريق ما سمعناه في هذه الجلسات على لسان علماء الدين المسيحيين والمسلمين.
يقول الانجيل كما يقول القرآن
أو يقول القرآن كما يقول الانجيل
لقد استلهم الإمام الصدر من سيرة اجداده، خصوصاً الائمة المعصومين، في عمله على طريق ترسيخ الحوار والتعايش، فأرسى بذلك نهجاً أخلاقياً قائماً على الاصول والمبادئ الالهية الراسخة.
إن أول خطوة على طريق الحوار الإسلامي المسيحي هو الحوار الذي دار بين الإمام علي عليه السلام وجاثليق حوالي العام 657 ميلادي. وذروة هذا الحوار كانت في أوائل القرن التاسع الميلادي أي القرن الثاني الهجري، في عهد الإمامين الصادق والرضا عليه السلام. وفي كتب الشيعة الكثير من الاحاديث عن المسيح عليه السلام وسيرة حياة هذا النبي الكريم وقبل ذلك، فقد وردت كلمة "المسيح" في القرآن ستاً وثلاثين مرة، وكلمة عيسى خمساً وعشرين مرة.
وفي كتاب البيان والتبيين للجاحظ ورد اسم المسيح تسع مرات، وفي كتاب تحف العقول عن آل الرسول نقل عن أبي محرر حسن بن علي بن حسين بن شعبه الحراني ست عشرة صفحة عن المسيح عليه السلام. وفي الخطبة 159 من نهج البلاغة يتحدث الإمام علي عليه السلام عن زهد الانبياء الكبار فيذكر السيد المسيح بقوله:
"وإن شئت قلت في عيسى بن مريم، فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن ويأكل الجشب، وكان أدامه الجوع وسراجه بالليل القمر ...
أما الإمام الصادق، فيستعير عن السيد المسيح بعض أقواله، من خلال نصحه لعبد الله بن جندب، وهي نفس الاقوال الواردة في انجيل متى الباب السادس الآيات 2-3-6-7-16-18.
هنا لا بد من تقديم الشكر لكل الذين ساهموا في الاعداد لهذا المؤتمر لإخراجه بالمستوى العلمي الرفيع، فكان فرصة ذهبية لاجتماع الروحانيين والمفكرين المسلمين والمسيحيين ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين للبحث في مستقبل الاديان وأسهها الميتافيزيقية وضرورة الالتقاء على المبادئ المشتركة.
كما أغتنم الفرصة لتوجيه الشكر لكافة العلماء والمفكرين المسيحيين والمسلمين الذين ساهموا بحضورهم وكلماتهم في ترسيخ وإغناء مفهوم الوحدة والتعايش بين الاديان ...
كما أشكر السيدة رباب الصدر على إقامة هذا المؤتمر العلمي الناجح.