* مؤتمر “كلمة سواء” العاشر "التنمية الانسانية ابعادها الدينية والاجتماعية والمعرفية"
بسم الله الرحمن الرحيم
أستمحيك عذراً، أيها الإمام المغيب، من كثرة الكلام حول غيابك القسري عنا، وقد مضت السنون السبعة والعشرون ونحن نكرر أنفسنا في كل مناسبة، نستنكر ونهاجم ولكننا ندور في حلقة مفرغة. فما زلت أنت في أسرك وما زلنا نحن نعيد الكلام ونكرر مواقفنا حتى كدنا نستعمل كل عبارات الإدانة والتجريم والاستهجان ولا زال الوضع على حاله. أستمحيك عذراً أيها القائد الموهوب بأن البذرة التي زرعتها فينا أينعت مؤسسات وأوجدت مقاومة وخلقت ديناميكية سياسية يصعب تجاهلها ولكن هذه البذرة لم تؤد للأسف إلى استعادتك من أسرك.
واجه اللبنانيون إسرائيل والاستكبار وقاوموا الإسترهان والاحتلال والذل والتبعية، أعطوا للعرب والمسلمين نموذجاً في مقاومة الاحتلال والإعتداءات ولكنهم لم يفلحوا في استعادتك من بيت أبيك الذي منه ضربت وفيه أُسرت.
كل المحبين والأصدقاء والحلفاء أجمعوا عليك ولكنهم عاجزون عن التأثير على آسريك.أنت ورفيقيك تنظرون إلينا ربما الآن بشفقة لأننا عاجزون عن تحريركم بالرغم من كل المشاعل التي أضأتها فينا وعن إخراجكم من أسركم بالرغم من كل الأفكار التي زرعتها في محيطك.
لم يعد أمامنا سوى توسل طريق العدالة ربما هي السبيل الأخير لإلزام المجرم أن يقر بجريمته وأن يحاسب على هذه الجريمة الإرهابية وضد الإنسانية حتى لا تبقى دون عقاب.
إنني أنتهزها فرصة لأحيي إخواني أبناؤك وأهل بيتك الذين ينظمون سنوياً حلقات دراسية في مؤتمر كلمة سواء وعنوانها لهذه السنة "التنمية الإنسانية وأبعادها الدينية والاجتماعية والمعرفية".
أيها الإخوة والأخوات،
محور جلستنا الآن هو "التنمية الإنسانية في فكر الإمام الصدر وتجربته". والتنمية الإنسانية هي مشروع الإمام الصدر وهذا المشروع هو بحجم معنى لبنان ودوره الذي شغل الإمام منذ بداياته. وقد انطلق الإمام الصدر في توصيفه من الواقع البائس الذي كانت عليه شرائح واسعة من المجتمع اللبناني ومناطق كبيرة في لبنان، وقد عمل الإمام المغيب على فضح هول هذا الواقع الذي عاشته وتعيشه مناطق تمركز فيها البؤس والحرمان والفقر، ولم يكتف بالدراسات والتقارير بل جال وشملت جولاته طول البلاد وعرضها وانتقل من بيت إلى بيت ومن قرية إلى أخرى وأنشأ الجمعيات والمؤسسات، وحاضر وناقش وتحدث في كل الأمكنة ومن على كل المنابر وشارك في إطلاق الحركة الاجتماعية مع المطران غريغوار حداد وحوارات الندوة اللبنانية مع د. ميشال أسمر والأب يواكيم مبارك والمطران جورج خضر والشيخ صبحي الصالح وندوة الدراسات الإنمائية مع د. حسن صعب. هذا فضلاً عن العديد من الجمعيات والمنتديات التي كان لها لاحقاً الفضل والدور في بناء كوادر المحرومين (مهنية جبل عامل على وجه خاص) وإطلاق المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي. وقد سعى الإمام للاستفادة من جميع العناصر الإيجابية في لبنان بهدف توفير الشروط المؤدية إلى بناء شخصية سياسية مؤمنة ومتوازنة للشيعة في لبنان تكون قادرة على مواجهة التحديات وتساهم في إنهاض حركة الناس قاصداً المجتمع الأهلي والمدني على السواء على قواعد التعاون والتضامن والاعتماد على الذات والمبادرة والتنظيم المؤسسين. كل ذلك بغية تكريس سعيه في تحقيق التنمية الإنسانية ليس قولاً أو خطاباً أو موقفاً عارضاً بقدر ما هو ممارسة وتنفيذ وعمل على الأرض.
هذه التنمية التي شغلت الإمام الصدر كانت دوماً في فكره من أجل الإنسان الذي كانت من أجله الأديان على ما يقول وان الحرية هي أفضل وسيلة لتجنيد طاقات الإنسان كلها. فلا يستطيع الفرد أن يخدم في مجتمع لا تسوده الحرية ولا يستطيع أن ينطلق بجميع طاقاته وينمي جميع مواهبه إذا أعوزته الحرية. فالحرية بنظره أفضل وسيلة لاستثمار طاقات الفرد في خدمة مجتمعه والحرية أيضاً اعترافاً بكرامة الإنسان وحسن الظن بالإنسان، بينما عدم الحرية إساءة ظن بالإنسان وتقليل من كرامة الإنسان وبالتالي لا يقوم بتحديد حريات الفرد إلا من كفر بفطرة الإنسان، فطرة الله التي فطر الناس عليها، الفطرة التي هي النبي الباطن للإنسان. (من كلمة "لا صيانة للحرية إلا بالحرية" 31/05/1966).
التنمية في فكر الإمام الصدر هي لتعزيز دور لبنان الذي كان يحذر باستمرار من سقوط تجربته بما فيها من ظلم للحضارة الإنسانية لذلك فهو يقول " أن لبنان في هذه الفترة ضرورة حضارية أكثر من ذي قبل. لذلك فليسمح اللبنانيون لنا بأن نقول أن التعايش ليس ملكاً للبنانيين لكنه أمانة في يد اللبنانيين ومسؤوليتهم وواجبهم وليس معهم فحسب "ليخلص إلى التأكيد أن وحدة لبنان هي ميزة وجوده" (لبنان والحضارة الإنسانية 19/01/1977).
وهو إذ يخاطب العقل اللبناني بان يضع خطة عمل لتنفيذ الحلول حتى يكون لبنان هو المنتصر لا المسلمون ولا المسيحيون، لا الأفراد ولا الأحزاب، لا اليمين ولا اليسار بل الشعب وحده. (إلى العقل اللبناني 07/01/1976).
فالخطوة الأولى في طريق تربية الإنسان ورفع مستواه في جميع حقول التكامل هي في جعله يشعر بكرامته ويهتم بشؤون نفسه وإلا فسوف لا يولي لنفسه أي اهتمام ولا يبذل لإصلاح وضعه أي نشاط مهملاً حاضره ومستقبله حتى ماضيه، فتُفقَد في هذه الحالة إمكانية إقناعه بالسعي والعمل وإمكانية التأثير عليه في دعوته لتحسين أموره وأوضاعه والتحرك نحو الأفضل، يبقى خاملاً جامداً لا مبالياً، مفضلاً استمراره في وضعه على تحمل عناء الحركة وأعباء السعي والنشاط.(الإسلام وكرامة الإنسان).
أيها الإخوة والأخوات،
تلك ومضات من فكر الإمام الصدر وتجربته في الدعوى والعمل على تنمية الإنسان الذي هو بنظره خليفة الله على الأرض عالم بالأسماء كلها مسجود له من جميع ملائكة السماء. (الإسلام وكرامة الإنسان).
وكم نحن اليوم بحاجة لاستذكار هذه المفاهيم التي ناضل من أجلها الإمام المغيب، كما نحن بحاجة إلى الحرص على لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه ينعمون فيه بالحرية ويحافظون عليه لأنه أمانة بين أيديهم وليس ملكاً لهم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.