ليس في قاموسنا الهدم

calendar icon 17 شباط 1974 الكاتب:موسى الصدر

تحلُّ ذكرى وفاة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في هذه الأيام، ويستحضر الإمام الصدر دروسًا عميقة من هذا الإمام القدوة، رابطًا الواقع المُعاش للمحرومين بالمطالبة بالحقوق الحياتية. وهنا النصّ كاملًا:

* خطبة للإمام موسى الصدر في ذكرى وفاة الإمام علي بن الحسين زين العابدين في النادي الحسيني في بدنايل، الصحف اللبنانية 18 شباط 1974.
إن زين العابدين في مفهومنا الديني رمزُ عدم الوقوف، ورفضُ الاستسلام في مختلف الظروف. فالمؤمن على طريقة آل البيت لا يسكت أبدًا، ولا يضعف أبدًا. هذا هو مفهوم الحديث الشريف: أكثر الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الأوصياء، ثم الأمثل فالأمثل.
ولذلك، فهو يسعى في سبيل خلق مجتمع أفضل وسعيد. إن هذا يصطدم مع المنتفعين، مع المساومين، مع الذين يشدّون الناس إلى الذل والمسكنة والاستسلام لكي يستفيدوا ولكي يأخذوا حقوق الناس حكرًا لهم.
نحن لا نريد أن نصطدم مع الحكم، مع أولئك الذين يتناسوننا. هذا هو اليوم الذي سنرفع فيه الغبن اللاحق بنا، تلك الغيمة التي لازمتنا منذ تاريخنا. بعد اليوم لن نشكو ولن نبكي. يقولون بأننا متاولة، اسمنا ليس المتاولة فنحن اسمنا الرافضون، المخالفون، الثائرون، الخارجون على كلّ طغيان، الواقفون في وجه كلّ طغيان من أيّ جهة أتى، ولو كلّفنا ذلك روحنا ودمنا وحياتنا... لن نبكي أو نتباكى، سنتحرر.
لقد وقف الحسين ومعه سبعون شخصًا ضد أعدائه الكثر آنذاك. أما اليوم فنحن أكثر من سبعين، وعدونا أقلّ من ربع العالم. أسطوانة البكاء تزيد هذه الغيمة، لا نريد أن نعيد تاريخ الأتراك ولا الفرنسيين الذين تحكموا في بلادنا، نريد أن نطوي هذه الصفحة، نريد أن نعيد تاريخنا المجيد، تاريخ عليّ والحسين.
ما هو الهدف من سعينا؟ هل الهدم للهدم، أم الثورة للثورة، أم السلاح للسلاح؟
كلا، نحن لا نريد هذا ولا نسعى إليه؛ ليس في قاموسنا الهدم ولا نريد إلّا الخير للبنان؛ لا نريد إلّا المساهمة في معركة العرب ضدّ إسرائيل؛ لا نريد إلّا خدمة الإنسانية المعذبة أينما كانت...
صبرنا كثيرًا، اتصلنا كثيرًا، نصحنا كثيرًا، بحثنا كثيرًا، درسنا كثيرًا، فلم يُجدِنا ذلك نفعًا، فلم يعدْ الأمل في النصيحة والدراسة والطلب.
لم يبقَ لنا أمل في طريقة هادئة للمطالبات، حرمان طائفتنا ليس وليد اليوم أو أمس. لماذا هذا الإذلال يا حماة لبنان، يا أدعياء حماة لبنان، إذلال لبنان لا يفيد إلا إذلال الوطن، سلامة الوطن من سلامة بنيه وصيانة الوطن بصيانة مواطنيه. فكيف يمكن لهذا الوطن أن يبقى إذا لم ينلْ المواطن حقوقه الكاملة؟ ليس الحرمان حديث أمس وحديث اليوم. انظروا إلى اللبوة، الليطاني عندما يمرّ في بدنايل أو في القرى الشيعية، فتروا حدوده غير مصنّعة بينما تراها عكس ذلك في قرى أخرى حيث تقوم عليه المشاريع الإنمائية والإنشائية، لماذا؟
انظروا إلى الغبيري، فتروا الحي حيًا شيعيًا لا نور فيه ولا عمران. وإذا مررنا في منطقة أخرى نرى العكس.
لا يعقل أن نحرم مواطنًا ونعطي حقوقه لمواطن آخر، وحديث الحرمان هذا ليس بجديد علينا.
كنا نقول الحرمان في الوظائف، وما الوظائف إلّا متع ومراكز وكراسٍ! نقول إن الحرمان يلحقنا، في الوظائف وما المراكز والكراسي إلا لنفر قليل من أبناء هذه الطائفة الكثيرة، ونحن نرغب في الوظائف. الوظيفة سبيل لوصول الحقوق الوظيفة وسيلة لتوزيع الموازنات، الوظيفة مفتاح لرفع مستوى أبناء الطائفة. ليست الوظيفة كل شيء.
خلال أربع سنوات صرفت الدولة على مشاريع عمرانية 984 مليون ليرة. أن يصرف 984 مليون ليرة في أربع سنوات ولا يُصرف في بعلبك مليون واحد، ماذا أصاب بعلبك-الهرمل منها؟
هذا هو الحرمان.
الحرمان أن يُترك الجنوب بلا حماية ولا دفاع، ويبقى للدمار، أبناؤه يسقطون برصاص العدوّ. خمسون ألفًا من أبناء الجنوب، من اللبنانيين، لا يحملون هويات نتيجة للظروف القاسية.
الحرمان أن يُولد الشيعي مصنفًا، وليس له مدارس خاصة، هذا هو الحرمان... ووظائف خاصة، لا يحقّ له أن ينظر إلى السادة.
الحرمان أن نأخذ مكاسب من البقاع والجنوب ونعطيها لمناطق أخرى. هذا عمل غير مقبول.
الحرمان ألّا نجد في الخارجية مركزًا مرموقًا لهذه الطائفة. انظروا مثلًا إلى أوضاع الشيعة في وظائف السلك الخارجي. لا يوجد مركز واحد مرموق يشغله واحد من طائفتنا في وزارة الخارجية. فتشوا في أوروبا، في أميركا، في اليابان، في الدول المتقدمة، ليس هنالك سفير شيعي واحد. فتشوا في مجاهل أفريقيا، ونحن نعتزُّ بوجودنا مع الناس المعذبين، فتجدوا بعض الموظفين من الشيعة في السلك الخارجي.
أيُّ حرمان هذا! المراكز المرموقة في مديريات الدولة لا يحقّ لنا أن نتطلع إليها.
انظروا إلى مشروع سدّ العاصي، بعد 14 عامًا من تكريس الموازنة له، أين أصبح؟ ومثله مشروع اللبوة.
بالأمس قرأت في "النهار" أن شمسطار أبرقت تقول إنها من دون مياه، لماذا؟ لأننا شيعة.
نحن ندافع بحكم شيعيتنا عن كلّ مظلوم من أيّة طائفة كان.
ندافع عن المواطن الذي يموت تحت عبء الغلاء، فالفلاح يعمل 12 شهرًا ويُعطى القليل من حقّه من خلال التبغ، ندافع عن الطالب الذي ينظر إلى مستقبله حائرًا.
هذا هو إيماننا. القرآن الكريم يقول: إذا ما اهتممت بشؤون المعذبين لست بمؤمن. قال الله تعالى: ﴿أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين﴾ [الماعون، 1-3].
أيّها الحكام،
الشعب... هل أمَّنكم على أمانة؟ أين توزيع الموازنة، أين صيانة الكرامة، أين الأمن، أين التخطيط، أين العدالة؟ أين حفظ حياة الناس؟ أين الماء والكهرباء؟ أين العزّة؟ أين الطرق؟ أين المشاريع، أين وحدة الكلمة، أين المدارس المهنية، أين المستوصف، أين الأمانة التي حمَّلكم إيّاها الشعب؟
نريد حقّنا كاملًا غير منقوص، لا بالوظائف وحسب بل بعشرين مطلبًا سجّلناها في وثيقة، ولن نرضى عنها بديلًا، وبإمكانهم أن يقبلوا ذلك، وإلا فليعتبروا أنفسهم هم الذين يهدمون لبنان لا نحن. لقد تعبنا من البكاء، من وضعهم أيديهم فوق ظهورنا ليقولوا لنا "عفاكم". لسنا جهلة إلى هذا الحدّ لكي نرضى بهذا الوضع وتسلطهم علينا. إننا نبني لبنانًا شريفًا كريمًا، أما الذي يريد إعادة لبنان إلى زمن الإقطاع والمماليك فنحن له بالمرصاد. نرفض جنوب أفريقيا ثانية: هناك تمييز عنصري، وهنا تصنيف طائفي فنحن نرفض ذلك. لبنان بلد الإنسان، لبنان بلد العيش الكريم، بلد الفرص المتكافئة. أولئك الذين لا يريدون ذلك، يريدون هدم البلد، وإذا لم يتمكنوا من ذلك فلينسحبوا من الميدان ويتركوا الشرفاء أن يقوموا بذلك. لا طاقة لنا على الصبر، نفد صبرنا.
أكثر الناس كلامًا كنتُ أنا، أنتم تشهدون بأني كنتُ في منتهى الهدوء ومنتهى اللياقة، ولم أهرب من البلد ساعة المصيبة، بل كنت دائمًا أول من يحضر يوم المصيبة. دعوتُ إلى الهدوء وما زالت حادثة دخولي تحت النيران في فتن أيار ونيسان وأيلول في ذاكرة الكثيرين. دعوتُ إلى الهدوء ما فيه الكفاية، ولن أسكت بعد اليوم إذا سكتُّم فأنا لن أسكت بعد اليوم.
تعرفون والكلّ يعرف كم كانت لنا محاولات للتهدئة، ولا مرة تركتُ الوطن في ساعات المحن وكل مصيبة تحلُّ بمنطقة أراني واقفًا أتصدى لها وأعالجها. أمس أصابت اليمونة عاصفة ثلجية وكنت أول الداخلين إليها، كنت أغرق إلى ظهري في الثلوج... [و]عندما كانت المدافع تقصف خراج يارين-العرقوب كنت أحضر. فماذا أفاد كل ذلك؟
يقولون غدًا تأكلون ثمرًا، أيُّ غدٍّ هذا الذي لا يأتي!! تصوروا أنه كرمى لشخص واحد تأجّلت التشكيلات وإكرامًا للآلاف لا تصدر هذه التشكيلات.
يا حكّام،
ما سبب تأخير الليطاني؟ صرفتم 400 مليون ليرة ولم نرّ شيئًا، قررتم أخيرًا سحب مياه الليطاني إلى بيروت حتى لا يبقى للجنوب أمل، لماذا لا تسحبون مياه نهر بيروت ونهر إبراهيم، ولماذا ساكتين يا شيعة، سمّونا يا حكام ما شئتم يسارًا أو يمينًا، نحن علَّمنا عليّ والحسين أن نكون هكذا.
عرض حرمان طائفتنا لا يحتاج إلى برهان. فبالأمس قصفت طائرات السلطة منطقة الرمل في برج البراجنة وقُتِلَ شاب من منطقتكم كان يدرس إلى طاولته، وحتى الآن لم تعطِ الحكومة رخصة لإعادة بناء البيت. اذهبوا إلى الكرنتينا، الأوزاعي، برج البراجنة، برج حمود، أي سود في أفريقيا يعيشون مثل هذا الحرمان؟ على أيّ شيء نصبر!
لاحظوا الكذب الإعلامي، الإعلام الرسمي يقول لا شيء في الجنوب. ذهبنا لنلقي كلمة في مهرجان. ألقينا كلمتنا في ظل طلقات المدافع. وماذا نرى هناك غير الهدم والدمار؟ يبحث الإعلام عن العدالة، أين العدالة في جيوب الإعلام الرسمي، قالوا في الإذاعة أن هناك ثلوجًا في البقاع هذا اليوم الأحد، وجئتم على رغم ذلك، ونحن لا نحتاج إلى توضيح من الإذاعة حول الطقس.
نريد أن نطوي صفحة الماضي؟ نريد ذلك لأن عيونكم تلمع شجاعة ووفاء.
الكلمة التي أنا أقولها: نريد تغيير هذا الفصل المخزي ونصل إلى الحق كرامًا صادقين، وتأكدوا أن جميع الإخوة اللبنانيين شرفاء في هذا البلد يؤيدون حقوقكم ومطاليبكم، وأنني كلّ يوم أجتمع مع سياسي أو رجل دين أو جماعة من الأحزاب وكلهم يؤكدون أن مطالبكم حقّة.
يقول الحكام إن رجال الدين يجب أن يصلّوا فقط، لا يجب أن يتدخلوا في أمور أخرى. ينصحوننا بأن نصوم ونصلي لأجلهم لكي لا يتزعزع كيان حكمهم وهم يبتعدون عن الدين ويستغلونه من أجل المحافظة على كراسيهم.
أيها الإخوة،
إن الدولة تحارب الشيوعية ليس من أجل محاربة الإلحاد لأن المسؤولين أشدّ كفرًا وإلحادًا، وإنما خوفًا على زعزعة الكراسي من تحتهم. إنهم يريدون صلاتي عبادة في الجوامع، وحجًا وهديًا للناس. أنا لا أرضى بهذه الصلاة وأن أتحول إلى شيطان، وأعوذ من نفسي فأنا مناضل معكم ومن أجلكم.
إن الإعلام الرسمي يضلل ويضلل ويريد أن يلقي الحجب على أعينكم.
يجب ألّا يشعر الشيعي بعد اليوم بأنه مصنف من الدرجة الثانية. أربع سنوات أمضيناها في النصيحة والحوار والزيارات، ما استفدنا. استعملنا الآن أسلوبًا سياسيًا: نوابنا ووزراؤنا في الحكم وقّعوا الوثيقة التي رفعنا وتعهدوا في حال عدم تلبية المطالب بالاستقالة من الحكم.
واسمحوا لي بالقول إن عاشوراء ليست بعيدة كثيرًا عنًا، يجب أن نعيد عاشوراء، يجب أن نقلب هذه الصفحة، ولا نسمح للحكام أن يركبوا الشيعة في بيروت ويعملوا عليهم نوابًا في البقاع.
18 مليون ليرة لتصليح الطرق، ليس للجنوب حصة فيها، وللبقاع مئة ألف ليرة فقط. أيتها الأجيال الصاعدة إذا لم تتحقق مطالبنا فسنعمد إلى انتزاعها، والحقّ يُؤخذ ولا يعطى في هذا البلد.
إن لغة الرصاص هي التي تفهمها الدولة والمسؤولون وإنكم معي في المسيرة وعلى الخط دائمًا وإذا تخليت عنكم فاطلبوا مني التنحي، وإن كانت قلوبكم ومشاعركم معي فانتظروا التوجيهات والأوامر مني شخصيًا...
هذا عهدي معكم، قررنا في المجلس الشيعي الأعلى المؤسسة الذي تنطق باسمكم أن أكون أنا صاحب الدعوة إلى كل شيء، وتأكدوا أن كل اللبنانيين الشرفاء معكم. وأخيرًا تحيات من إخوانكم في الجنوب إليكم وتحية إلى إعلامنا الرسمي لأنه، على ما يبدو، بدأ الغيم يزحف والمطر ينهمر.

source