نظرية القيمة: المحاضرة الأولى

الرئيسية صوتيات التفاصيل
calendar icon 09 كانون الثاني 1971 الكاتب:موسى الصدر

* محاضرة في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بتاريخ 9-1-1971.
بالحديث وصلنا إلى الحاجة الملحّة لتحديد القيمة. لماذا نتحدث في تحديد القيمة ونظرية القيمة والآراء المختلفة حول هذا الموضوع؟ لأنه خلال عرضنا لعناصر الإنتاج الأولية، رأينا أن هناك أكثر من عنصر يشترك في الإنتاج، من العمل بشكله البسيط والمركب، وبشكله المباشر والفنّي، ثم عنصر الآلة، وأخيرًا عنصر رأس المال، أو ما نسمّيه اليوم ربّ العمل. ونحن بعيدًا عن الآراء والنظريات، نريد أن نعرف الحقيقة بالفعل. في هذه البضاعة، في علبة كبريت، أو في هذه السيارة التي اشترك في تكوينها أكثر من عنصر، ما حصة وسهم كل واحد من هذه العناصر؟
في الجلسة الماضية تكلمنا بالمبادئ العامة. إن الإسلام في تصنيفه لعناصر الإنتاج الثلاثة يفضّل العمل على العنصرين الآخرين. اليوم نريد أن نعرف، فضّلنا عنصر العمل على عنصر رأس المال وعنصر الآلة، ولكن ما هو سهم العمل؟ هل البضاعة تنقسم إلى ثلاثة أقسام متساوية: 33 بالمئة للعمل، و33 بالمئة للآلة، و33 لرأس المال، أم لا؟ هناك تفضيلات.
بعدما لاحظنا أن هناك تفضيلًا للعمل على العنصرين الآخرين من الناحية القانونية، من الناحية المبدئية، لكن اليوم نريد أن نعرف ما هي حصة العامل من الإنتاج.
إذا عرفنا هذا، فإن كثيرًا من المشاكل تُحَلّ باعتبار أننا قلنا إن العامل يشترك في الإنتاج بأجر مقطوع أولًا، عند ذلك، بإمكاننا أن نعرف أن هذا الأجر أجرٌ عادلٌ، أو هذا الأجر ناتج من الضغط، يعني من كثرة العمل وكثرة العمال وعدم توفير الشغل، هذا من جانب، أو ضغط معكوس، يعني هناك cartel  أو trust مثلما يسمّونه. هناك تواطؤ بين أرباب العمل لأجل تنزيل قيمة العامل، نتمكن أن نعرف بالضبط هل الأجرة انخفضت إلى أربع ليرات يوميًا أو خمس ليرات، هذا ناتج عن قيمة العمل، يعني هل العامل الذي يرضى اليوم بأخذ خمس ليرات، هل بالفعل قيمة عمله خمس ليرات أو هناك ضغوط من أحد الجانبين: إمّا كثرة العمال وقلّة الفرص أنزلت القيمة؟ هذا الذي يسمّونه كثرة العرض وقلة الطلب؛ أو هناك تواطؤ بين أرباب العمل في تنزيل القيمة؟ نتمكن أن نعرف أن الأجرة المعاصرة هل هي تنسجم مع واقع الطلب أم لا.
مثال آخر، المعلم يأخذ مئتين وخمس ليرات أو في بعض المؤسسات الخاصة مئة ليرة أو مئة وعشرين ليرة، ونحن نرى أن المعلم بملء إرادته أحيانًا يقبل، يذهب، يلحّ، يطلب، ويؤكد، وحتى يعطي تفويضًا مسبقًا، أو وصلًا مسبقًا بالنسبة للأجر. هل أجر المعلم الذي هو نوع من العامل الفني، هل هذه هي قيمة أجره أم لا؟ هذا الأجر ناتج عن تواطؤ أصحاب المدارس أو عن كثرة العرض، في كثرة عدد المعلمين وقلة الفرص؟
النوع الثاني من مشاركة العمل في الإنتاج، الحصة. كما قلنا، قد يشترك العمل بالأجر المقطوع وقد يشترك بالحصة. لو افترضنا أن عاملًا مضاربًا، يعني شخص أخذ رأس مال من شخص، بدأ بالتجارة، أعطوه من العمل الثلث من الأرباح، الثلث أو العشر أو عشرين بالمئة أو أربعين بالمئة، هل هذا حقّ أو ليس حقّا؟ هل حصة العامل في الإنتاج أربعين بالمئة أو أقلّ؟ ما هي نتيجة هذا الموضوع؟
نتيجة هذا الموضوع تحديد موقف الحاكم الذي من المفروض أن يكون عادلًا ويحمي حقّ الضعيف. صحيح عندنا خمس مئة ألف عامل ولا نحتاج إلّا لمئة ألف ولكن هذا لا يعني أن يُكَوِّنَ أصحاب العمل مضاربة ً ومنافسة ً بين العمال، وينزلوا قيمة العمل إلى درجة الصفر مثلًا.
حماية الحكم العدل لوضع العامل أو بالعكس. كذلك لو افترضنا أنه يومًا ما الحكم صار بيد العمال وأرادوا أن يتنكّروا لحقّ الآلة أو لحقّ ربّ العمل أيضًا، نفس الشيء. الحقّ والعدل كما تعرفون نحن نؤمن بهذا المبدأ، وليس بمبدأ الصراع الطبقي أو المصالح الطبقية، الحقّ أينما كان، وفي أي طبقة كان.
فإذًا، نحن اليوم أمام هذا السؤال: ما هي حصة العمل والآلة ورأس المال بالنسبة للإنتاج؟
لكي نجيب عن هذا السؤال يجب أن نجيب عن سؤال آخر قبله، باعتبار تعقيد المسائل الاقتصادية: ما هي القيمة؟ أنت تريد أن تعرف هذا الكوب كيف يجب أن يتوزع بين العامل والآلة وصاحب المال؛ ولكن يجب أن تعرف ما هي قيمة الكوب، كيف تتكون قيمته، حتى نعرف كم حصة العامل، وكم حصة الآلة، وكم هي حصة رأس المال.
هناك نظريات اقتصادية مختلفة، آراء متنوعة. هناك من يقول بأن الأشياء والبضائع لا قيمة ثابتة لها إطلاقًا. القيمة تتحدد بالعرض والطلب. كلما ندُرَ الشيء كثُرَتْ قيمته، وكلما كان الشيء [متوفرًا] أكثر قيمته أقلّ. وبالنسبة للطلب، كلما يكون الطلب على شيء أكثر، قيمة الشيء أكثر، وكلما كان الطلب أقلّ قيمته أقلّ، ثم يشكلون كسرًا (كما يسمونه بالمصطلح الرياضي) يكون العرض والطلب عنصرين مشتركين في تحديد القيمة، كيف؟ مثلًا، اليوم ليس هناك شيء في الدنيا عليه الطلب أكثر من الماء أو من الهواء... هل هناك شيء أكثر من الماء أو من الهواء؟ ولكن لا قيمة له، لماذا؟ لأن العرض موفور، هذا من عند ربنا، وربنا ليس ببخيل (يا الله... الماء مثلما تريد والهواء أيضًا)، العرض اللامتناهي يُنزِّل القيمة إلى الصفر، وإن كان الطلب لامتناهيًا. ونفس الشيء حينما لا يكون الطلب ولو كان العرض نادرًا جدًا ما له قيمة، عندما لا يكون هناك حاجة، لا أحد يطلبه لا للأمور الأساسية ولا للأمور اللوكس lux في الحياة، ولو لم يكن موجودًا لا أحد يفكّر فيه.
هناك عنصران مشتركان مساهمان في تحديد القيمة: العرض والطلب. هذا هو المعروف طبعًا، هذا الرأي هو أسوأ الآراء في تحديد القيمة. وهو رأي رأسمالي في المصطلح المعاصر المنفلت، يعني لا يعطون أي عناية للحـقّ، ماذا أنتج هذا الشيء؟ ما هو السبب لوجود هذا الشيء؟ ما هي العناصر التي اشتركت في تكوين هذا الشيء؟ وهذا يؤدي إلى أن العمل لا يمكن أن يرتبط بالنتيجة باعتبار لو افترضنا أن شخصًا تعب كثيرًا واشتغل كثيرًا ثم سقطت الموضة، الموضة الآن سيارات سنة 1971، تريد أن تشتري سيارة، هذه السيارة قيمتها مثلًا خمسة عشر ألف ليرة، بعد أيام قليلة ومن دون أي شيء من الأشياء، وأي تغيير من التغييرات وأي استهلاك لموتور هذه السيارة، دفعة واحدة ألف، ألفان، ثلاثة آلاف، أربعة آلاف تسقط من قيمتها... هذا النوع من الانفلات لا يمكن ضبطه، يعني الآراء الاقتصادية التي تعتمد نظرية العرض والطلب المجرّد آراء ظالمة، تصور المجتمع البشري كمجتمع السباع وهو مجتمع السباع. الاحتيال والدعاية والموضة والإسقاط عن الموضة والجمع والتكسير يحدد القيمة. اليوم فلان يريد أن يشتغل بتجارة السكّر، يعمل مؤامرة، يشتري كل السكّر الموجود في السوق، القيمة ترتفع إلى السماء ويتحول إلى غني كبير. أو شركة تتحالف مع شركائها المعاصرين، قيمة البضاعة كذا يرفعونها وينزلونها. هنا تلعب الأطماع بشكل غريب.
في حديث عن الإمام الصادق سلام الله عليه أنه أعطى ألف دينار لشخص -وكيله- حتى يشتري له بضاعة للتجارة، فذهب واشترى، وبعد مدة رجع إلى عنده ودفع إلى الإمام ألفي دينار. الإمام قال: كيف ألف دينار خلال رحلة واحدة تحولت إلى ألفي دينار؟ قال: الحقيقة اشترينا بضاعة في الشام، وبالطريق مع التجّار (الأشخاص الذين اشتروا البضاعة كلهم) اتفقنا أن لا نبيع أرخص من السعر الفلاني، ورجعنا وبعنا بسعر عالٍ... طبعًا، هذا نوع من الاحتكار أو ما يسـمّونه trust البدائي، يعني أربعة تجار أو خمسة تجار الذين كانوا بالشام اجتمعوا هذا الموسم رفعوا الأسعار والناس مضطرون أن يشتروا، أمّا أصحاب الحاجة وأصحاب الرغبة إلى اللوكس lux، اشتروا البضاعة بقيمة غالية، فأخذنا ألفي دينار. الإمام رجّع الألف دينار وقال: لا حاجة لي بذلك، فرفض أن يأخذ ربحًا يعتمد على أساس التواطؤ.
فإذًا، نظرية العرض والطلب نظرية سهلة وقريبة للذهن، ولكنها نظرية ظالمة لا يمكن أن يُعتمد عليها، ولا يمكن أن تبني دولة أساسها وسياستها الاقتصادية على هذا الأساس. رأي ثانٍ... آراء كثيرة في هذا المقام، لستُ في صدد تدريسها، هناك كتب باللغة العربية وغير العربية تشرح نظرية العرض والطلب ونظرية القيمة، يهمّني بصورة خاصة نظرية ماركس في هذا الموضوع.
ماركس يعتقد أن قيمة الأشياء بمقدار العمل المتجسد في البضاعة. طبعًا هو يذكر تفاصيل ربّما ثلث أو أكثر من ثلث مجلد من كتاب "das capital" حول القيمة، لأن أساس آرائه قضية القيمة. يذكر أن هناك قيمة حقيقية وقيمة سوقية. القيمة السوقية تتأثر وتتحدد بالعرض والطلب، والقيمة الحقيقية قريبة للقيمة السوقية، أو القيمة السوقية تدور حول القيمة الحقيقية، والقيمة الحقيقية للشيء عبارة عن العمل المتجسد في هذا الشيء. نعود فنقول: إن الأشياء في العالم، كل الأشياء موجودة ومباحة ومتساوية النسبة بالنسبة لجميع البشر. الحديد تحت الأرض، الماء، الهواء، الأراضي، كل شيء في الحالة الطبيعية هي لجميع الناس. ما الذي يجعل شيئًا خاصًا بشخص دون شخص؟ طبعًا بحسب المنطق: كل من اشتغل في شيء. الأرض مباحة، إذا أحييتُ أرضًا فهي لي، وإن كان هذا لا ينطبق على المقاييس المعاصرة. أنا أذهب وأسجّل في الدوائر العقارية أراضٍ واسعة شاسعة ليس لي علاقة فيها ولم أرها طول عمري وأعتبرها ملكي، بمجرد ما أضع هناك علامات وإشارات. طبعًا هذا ليس منطقًا سليمًا وإنما عادةً من القديم ورثناها أو من أيام الإقطاع. الأشياء كلها لكل الناس، والذي يعمل في الشيء هو يملكه، أو هو يختصّ به. العمل هو العنصر الوحيد الإنساني الذي يشترك في تكوين الأشياء وتصنيع الأشياء. هذا الماء عندما كان في النبع أو في الجبل، ما كان له قيمة، ولكن هذا الماء اشتغل فيه العمل، يعني العمل سحبه من الجبل لأمامي أنا، هذا العمل له قيمة، قيمة هذا العمل، قيمة هذا الماء، وإلّا إذا سحبنا من هذا الماء العمل الذي تجسد فيه، يبقى الماء الذي كان موجودًا في الجبل أو في البحر أو في الصحراء لا قيمة له. قيمة الأشياء بمقدار العمل الذي تجسد فيها. وكما قلنا العمل ليس فقط العمل المجرد، العمل المجرد والعمل المركب أو البسيط والمركب، يعني الأعمال التي تجسدت في هذه الماكينة، والأعمال التي تجسدت في خبرة الخبراء أيام الدراسة، والأعمال التي تجسدت في إدارة المدراء هذا كله أعمال، والأعمال التي يمارسها العامل. هذه الأعمال تتكوّن وتتبلور وتتجسّد فتشكّل هذه البضاعة.
فإذًا، إذا لاحظنا نجد أن كل موجود هو مواد طبيعية محضة يزداد عليه العمل فيصبح شيئًا له قيمة، هذه القيمة من أين أتت؟ هذا الكوب تكون قيمته ليرة، هذه القيمة من أين؟ هذا الزجاج كان رملًا على شاطئ البحر، عندما كان رملًا على شاطئ البحر كان له قيمة؟ ما كان له أي قيمة، ما الذي جعل الرمل زجاجًا؟ العمل، بشكل العامل، بشكل الموتور، بشكل الخبرة، بشكل الإدارة، فإذًا، إنزع العمل عن هذا الكوب، لا شيء... ليس لا شيء، لا قيمة. فالقيمة تدور مدار العمل الذي يتجسد في هذه البضاعة.
هذه صورة موجزة عن الفكرة، قيمة كل بضاعة بمقدار العمل المتجسد في هذه البضاعة. هذا رأي ونظرية معروفة وعليه جدل وأخذ وعطاء طويل، حاولت أن أستخلصها بصورة بسيطة لأجل أخذ فكرة عن نوع رأيه. هذه النظرية تشكّل العمود الفقري في نظرية الاشتراكية العلمية أو ما نسميه بالشيوعية. على أساس أن هذه النظرية، يعني تساوي قيمة البضاعة للعمل، هذا يعني أن البضاعة التي تنتج من حصة من؟ من الذي يجب أن يأخذ قيمة البضاعة؟ العامل؟ فإذًا، رأس المال ماذا يصنع؟ هناك رأس المال لا يعمل شيئًا، فإذا أخذ حصة من الأرباح ولو كانت قليلة فهو يسرق من حقّ العامل. ولذلك أيّ إنسان يغتني أو أيّ شركة تنمو، تنمو على حساب حقوق العمال، تسرق، هذا الشيء الذي يسمونه نظرية فائض القيمة le plus-value، معروفة. على هذا الأساس في رأي ماركس لا يمكن أن يوجد غنى مشروع إطلاقًا، لأن أيّ غنى، من أين يأتي الغنى؟ الغنى يأتي من التجارة، من شراء البضاعة وبيع البضاعة، من الصناعة، من الزراعة هذه البضائع التجارية أو الصناعية أو الزراعية، ثلاثة أنواع وأنواع ثانية. أي بضاعة، قيمة البضاعة تعادل العمل المتجسد فيها، فمن الحقّ أن تأتي القيمة كلها للعمل، للعمل البسيط، العامل، للعمل المتجسد في الآلة يعني أجرة الآلة، للعمل الفنّي بشكل الخبير أو بشكل الإدارة، وأنت يا صاحب رأس المال ماذا تريد؟ لماذا تأخذ؟ تأخذ من هذا الكوب قرشًا يساوي سرقة، كوبين، قرشين يساويان سرقتين، وهكذا تنمو الثروة على أساس السرقة le plus-value.
هذا الرأي يعني عدم مشروعية الغنى إطلاقًا، لا يمكن وجود الغنى، غير شرعي. إذا يومًا ما قالوا الرأسمالية الوطنية أو الرأسمال الوطني فهذا مرحلة، كذب. الرأسمال الوطني والرأسمال الأجنبي كله سرقة. ولكن أحيانًا يكون السراق محليين، وأحيانًا يكون السراق أجانب، هذا رأي، وهذا يعني إطلاقًا جواز التأميم. جواز التأميم دائمًا، لماذا؟ لأنه طالما الأغنياء شكلوا وأسسوا رأس مالهم من السرقة فيحقّ للدولة التي هي تمثل الناس، الشعب، الأمّة متى شاءت أن تنزع الملكية، فتؤمّم، يعني ماذا؟ يعني تجعل البضاعة للأمة، أمّة تساوي تأميم. وهذا [يعني أنها] لا تعمل أيّ ظلم باعتبار أن السرقة اجتمعت وسلبت.
هذا هو نتيجة الحديث، وهذه هي الكلمة التي نُسبت إلى الإمام وهي ليست للإمام حينما يقول: ما اغتنى غني إلّا بفقر فقير. يعني حينما يصبح الغني غنيًا، هذا الغنى انتزاع من حقّ فقير. هذه الكلمة صميم الشيوعية وليست إسلامية إطلاقًا، وليست واردة في نهج البلاغة، حتى لو كانت في نهج البلاغة، هذه الكلمة أنا أقول مزورة، لأن الذي يعرف منطق الإسلام في الاقتصاد يعرف أن هذه الكلمة ليست كلمة إسلامية. هناك كلمة ثانية: ما رأيت نعمة موفورة إلّا وبجانبها حقّ مضيّع، هذه للإمام. ما افتقر فقير إلّا بذنوب الأغنياء، هذه للإمام، كله صحيح، ولكن: ما اغتنى غني إلّا بفقر بفقير... هذه ليست كلمة...، هذه الكلمة تمثل نظرية ماركس تمامًا مئة بالمئة.
هنا نصل إلى خطورة التقدير، إن نظرية القيمة تحولت إلى نظرية فائض القيمة، إلى تحديد حصة العامل من البضاعة، إلى تحريم ربّ العمل أو صاحب رأس المال من المساهمة في الإنتاج وإلى لاشرعية الغنى وشرعية التأميم. نحن نرجع للأساس، لا نبحث في النتائج وإنما نرجع للأساس، أساس الموضوع، نظرية القيمة.
لا بدّ أنكم انتبهتم الآن إلى خطورة وأهمية نظرية القيمة. إلى أيّ درجة، كيف تحدد القيمة؟ أنتم قولوا لنا، ألا تقبلون نظرية ماركس، تساوي البضاعة مع العمل، ألا تقبلون؟ أعطونا نظرية أخرى.
لنناقش أولًا نظرية ماركس. بالفعل هل قيمة البضاعة تعادل مقدار العمل المتجسد في البضاعة أم لا؟ هذا السؤال الأول. أنا الليلة أطرح بعض الأسئلة على ماركس وعلى الذين يدرسون ماركس، حتى نجد أنه نتمكن أن نتخلص من هذه الأسئلة، إذا ما تمكنا أن نتخلص من هذه الأسئلة علينا أن نغيّر رأينا بالنسبة لنظرية القيمة.
مقدمة صغيرة، أولًا ما هي القيمة؟ كيف تتشكل القيمة؟ ليس ماديًا. نتكلم في الأساس، كيف نوجد القيمة، وما هي القيمة السوقية، القيمة الحقيقية؟ نحن نجد أن الماء له قيمة كبيرة وأنه لا يباع بالسوق، باعتبار الوفرة والكثرة. الاقتصاديون كلهم بمن فيهم ماركس، يرجعون مفهوم القيمة إلى تلبية البضاعة لحاجات الإنسان. كم هذا الشيء يؤثر في تلبية حاجات البشر، هذا المبدأ الأصلي.
هل أنا بحاجة إلى هذا الشيء؟ هل أنت بحاجة إلى هذا الشيء؟ نعم، فإذًا أنت تحتاج إلى هذا الشيء، تطلبه، فإذا كان بجيبتك أو يكون قرب يدك تتناوله، وإذا لم يكن في متناول يدك تشتريه، هنا تتكون القيمة، أليس كذلك؟ القيمة، ما القيمة يعني؟ متى تعرّفنا على مفهوم القيمة؟ الإنسان الأصلي الأول كان إنسانًا بسيطاً يفتش عن حاجات حوله، فلمّا وجد أن هناك حاجات لا يمكن أن يلبيها بنفسه، وما يلبّي حاجاته موجود عند الآخرين، مدّ يده إلى الآخرين حتى يأخذ هذه الحاجة، فوجِدَتْ مشكلة القيمة أول شيء بشكل المبادلة التي يسمونها آخذ بضاعة وأعطي بضاعة. وبعد ذلك حاولوا أن يصنّفوا، يقيّموا الشيء. وُجد المال، وجُدت العملة، تكوّن مفهوم القيمة وتبلورت القيمة.
في الأساس القيمة هي حاجة الإنسان إلى الشيء، إمّا حاجات ضرورية مثل الأكل والشرب والنوم والبرد والحرّ وأمثال ذلك، وإمّا حاجات لوكس lux. اليوم الأكل والشرب مؤمَّن لأناس، ثم يفكرون في حاجات أخرى، يريدون كهرباء، يريدون سيارة، يريدون لبسًا أنيقًا، عندما تأمنت لهم هذه الأشياء أصبحوا يريدون تلفزيون، وهكذا حاجات... الحاجة لا تعني ضرورة ملحّة، يعني ما يرغب الإنسان إلى تأمينه، فيفتش عنه، هذه الحاجة هي أساس وذات مبدأ تكوين القيمة، هذه المقدمة الصغيرة، إذا كان هـذا هو مبدأ القيمة وأساس القيمة باعتراف الجميع، فهنا نوجّه أسئلتنا المتعددة.
أولًا، إذا كانت القيمة تعادل كمية العمل المتبلور في البضاعة، إذا كان هذا هو الأساس، فنحن نجد تناقضًا في القيمة عندما تختلف المواد الطبيعية. أذكر لكم مثالًا، القطن المصري والقطن السوري، أنتم تعرفون أن القطن في العالم على أنواع، أنواع القطن في العالم هناك نوع اسمه القطن المصري، القطن المصري أنفَس أنواع القطن في العالم، لماذا؟ لأن الألياف، الخيوط الموجودة في داخل القطن أطول ثم أكثر نعومة، ومن القطن المصري يصنعون البضاعات القطنية الفاخرة، لماذا؟ طبيعة، طبيعة أرض مصر، طبيعة الأوحال التي كانت تتراكم نتيجة لطغيان النيل، طبيعة المناخ، لا أدري! أعرف أن هذا القطن قيمته في العالم أكثر، لأن هذا القطن يلبّي حاجات أكثر. القطن غير المصري، كذلك على أنواع وأصناف. هناك أصناف ليس لها هذه القيمة، نتيجة لأن أليافها أقصر وأكثر خشونة.
هنا نأتي أمام هذا السؤال: عاملان متساويان في الخبرة والطاقة، اشتغلا في فترة محدودة دون تفاوت، أحدهما على القطن السوري والثاني على القطن المصري، فأنتجا... لو كانت البضاعة تعادل كمية العمل المتجسد في البضاعة، لكانت قيمة القطن المصري تعادل تمامًا قيمة القطن السوري، لماذا القيمة أكثر وتلبيتها للحاجة أكثر؟ هذا مثال صغير يلفت نظرنا إلى باب واسع. هذا الباب يعني أن ليس العمل وحده يحدد قيمة البضاعة وحاجة الإنسان إلى البضاعة، إنما نوعية الطبيعة التي تقترن بهذا العمل أيضًا لها تأثير كبير. هات أذكر أمثلة إلى ما شاء الله: الطبيعة، المناخ، درجة الحرارة، درجة الرطوبة، كل هذه المسائل تؤثر في نوعية البضاعة. إذهب واجلب بذر القطن المصري وازرعه في سورية، لا يعطيك النتيجة ذاتها، فإذًا، هنا يدخلنا بعض الشـك في صحة نظرية القيمة، إن البضاعة تحدد قيمتها على أساس العمل المتجسد فيه (ليس مضبوطًا تمامًا) هذا مثال.
مثال ثانٍ: اليوم شخص يعمل سجادًا عجميًا أو أيّ قطن أو قميص أو ملابس بيده. السجاد قيمته كذا نفس السجاد، حتى ولو افترضنا أن هناك إمكانية صنع السجاد بنفس الخيوط ونفس الألوان، بالماكينة قيمته طبعًا أرخص، أليس كذلك؟ لماذا القيمة أرخص؟ مع العلم أن ما تجسد من العمل في السجاد الذي هو من صنع الماكينة أكثر، إذا انتبهنا لفكرة العمل البسيط والعمل المركّب، العمل الذي تجسد في الآلة وفي الخبرة وفي الإدارة وفي العمل يختلف ذلك، يدخلنا بعض الشك في سلامة هذه المعادلة. القيمة تساوي مقدار العمل المتجسد في البضاعة.
مثال آخر، هناك تحف قديمة أو حديثة، هناك نوادر من باب المثل، الكتب التي أُلِّفت وكُتِبَت، النسخة الأصلية، الصورة الأصلية، قيمتها، مستواها، حاجتها طبعًا ليس الأكل والشرب، الهواية أيضًا من الحاجات البشرية، الممارسة لا تتناسب إطلاقًا مع قيمة الكتاب الذي يطبع بنفس الخط وبنفس الورق وبنفس الإتقان، إذا ما كان هناك أجمل. النسخة الأصلية تعادل ملايين من الأموال، وأمثال ذلك من الأمثلة التي سوف أستعرضها مفصلًا في الأسبوع القادم لكي نجد جوابًا عن هذه الأسئلة.
بصورة موجزة، نحن الآن لا يمكننا أن نتأكد من صحة هذه النظرية: العمل هو الذي يحدد قيمة البضاعة، نشك في سلامة هذه النظرية. نعم، العمل هو العنصر البشري الوحيد في إنتاج البضاعة، هذا لا أحد يشك فيه، لكن هل القيمة تتحدد على ضوء العمل أم لا؟
نحن أمامنا في الأسبوع القادم البحث حول تقييم ونقد نظرية ماركس بالنسبة للقيمة، وإعطاء نظرية بديلة عن هذه النظرية حتى نصل لنتيجة مقدار حقّ العامل ورأس المال والآلة في المشاركة بالنسبة للبضاعة.
غفر الله لنا ولكم والسلام عليكم.

source
عدد مرات التشغيل : 5