نظرية القيمة: المحاضرة الثانية

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر

في حلقاتنا السابقة كنا نتحدث عن حقوق العامل وقيمة العمل، استعرضنا في هذه المناسبة جوانب متنوعة عن حقوق العمل والعامل، ولاحظنا من الناحية المعنوية والمادية اهتمام الإسلام بحقّ العامل وصيانته لقيمته، ثمّ في هذه المناسبة انتقلنا إلى مشكلة القيمة الفائضة، وانتقلنا إلى نظرية القيمة وأمثال ذلك من حدود وأبعاد هذه المشكلة.
الليلة، وبعد عطلة يومين، يؤسفني أن أقول أنا مضطر أن أتغيّب حوالي شهر ونصف على الأقل ابتداءً من الأسبوع القادم، يعني أسافر يوم السبت القادم، وأحاول في آخر الحلقة أن أجد حلًّا لاستمرار هذه الحلقات، نحضّر مواضيع، أُكلِّف بها بعض الحاضرين إذا أراد أن يقوم بالدراسة، كما وأحاول أن أُمدِّد هذه الحلقات بالتعاون مع بعض الزملاء.
فإذًا، هذه حلقة يتيمة في الوقت الحاضر أحاول أن أتحدث في بعض مقارنات قضية العمل والعمال حتى أكمل الحلقة، وفي هذه المقارنات بعض النتائج الفكرية.
في الحقيقة، إن دراسة نظرية القيمة الفائضة وما وصل إليه ماركس من النتائج في مختلف الحقول تستحق الوقوف عندها بعض الشيء، لأننا كما تعرفون، نعرف أن نظرية ماركس الأولى كانت تعتمد على دراسة اقتصادية: اعتقد بأن القيمة تعادل العمل والعمل يُساوي القيمة، واستنتج من هذا أن أيّ ربحٍ هو سرقة، وبالتالي، أيّ رأسمال هو غير مشروع.
هذه النظرية الاقتصادية اقترنت بأوضاع اجتماعية خاصة في أوروبا، الأوضاع الاجتماعية التي كانت مقارنة لأيام ماركس تتلخص في بدء تكوين وتكتل الطبقة العمالية في أوروبا، وكما نعرف الطبقة الرأسمالية حسب مصطلح ماركس -لأنه أنا لا أؤمن بهذا المصطلح- حتى الفئة التي كانت تملك وسائل الإنتاج الصناعية والزراعية كانت فئة مادية في مصطلحنا، تحاول أن تستفيد وأن تربح قدر المستطاع وبأيّ وسيلة كانت حتى تزداد مالًا وثروة؛ وبالتالي كانت هذه الفئة تمتصّ إمكانات العامل في المصنع أو في manufacture، الصناعات الصغيرة التي بدأت تنمو في أيام ماركس، أو الفلّاح في المزرعة أو الموظف في المكتب، الفئة التي كانت تملك وسائل الإنتاج أو أرباب العمل كانوا يمتصّون جميع طاقات العامل ويكتفون بدفع شيء زهيد مقابل هذا. هذا الظلم المادي كان ينعكس على الطبقة العاملة أو بتعبير أدقّ على العاملين فيُحدِث ردود فعل فردية عندهم، ثم تتحول إلى ردود فعل جماعية.
فإذًا، ماركس عاش هذا الجوّ، أن العمال المظلومين بدأوا يتكتلون فيشكلوا طبقة، تُعارِض وتُصارِع هذه الطبقة، طبقة أرباب العمل حسب مصطلحه. هذه الظاهرة الاجتماعية ساعدت ماركس في تفكيره بالمادية التاريخية، يعني يحاول ماركس أن يقول إن التاريخ ما هو إلّا انتقال المجتمع من طبقة إلى طبقة، ومن نظام اجتماعي إلى نظام اجتماعي، تغيُّر النظام إلى نظام آخر يسمّيه تغيُّر كيفي، على أن كل تغيُّر كيفي يقترن بكميات من التغيرات الكمية، يعني هذا النظام تدريجيًا يتحول إلى نظام آخر فينتقل من وضع إلى وضع، أو من كيفٍ، يعني من صفة إلى صفة.
ما هي هذه المراحل الأساسية للتحول التاريخي؟
المرحلة الأولى، الاشتراكية الأولية، الكنون الأولية، البشر بوحداته الصغيرة كان يعيش نظامًا عائليًا، مجموعة من البشر كعائلة واحدة، كقبيلة واحدة صغيرة، الملكية للجميع، وكلٌ حسب إمكاناته يُقدِّم خدمة لهذه المجموعة، مثل عائلة واحدة، مثل أعضاء الجسد الواحد. ثم انتقل المجتمع من هذا النظام إلى نظام الاقطاع، وبعد ذلك إلى نظام الرأسمالية، وبعد ذلك إلى نظام الشيوعية، وفي طريق الانتقال من النظام الرأسمالي إلى النظام الشيوعي مراحل الأنظمة الاشتراكية.
هو في خلال هذا الإطار الذي رسمه للتاريخ كان منسجمًا مع نفسه في فكرة القيمة الفائضة، وفيما كان يشاهد من ظلم أرباب العمل للطبقة العمالية أو للفئات العمالية، سواء كانوا في الحقل أو كانوا في المصنع أو كانوا في المكتب، وكان أيضًا نتيجة الصراع بين الطبقة أو الفئة العمالية وأرباب العمل [قد] كوّن فكرة فلسفية وفكرة منطقية، فوضع في المنطق أيضًا دراسة، التي نسميها اليوم بالـ dialectique، المنطق ذو أصول أربعة، من جملة الأصول الأربعة: Thèse وAntithèse وSynthèse.
كل ظاهرة في العالم، في داخلها هناك ما يتناقض معها وما يصارع وينمو في داخل الظاهرة، حتى إذا نما يتغلب على الظاهرة ويقضي عليها ونتيجة لهذا الصراع Synthèse تحصل النتيجة. واقترنت هذه النظرية بالنظرية المادية الفلسفية أيضًا، إذا لاحظنا الظروف الموضوعية لماركس الذي ينظر إلى استغلال رجال الدين واستغلال الدين في سبيل تكريس امتيازات أصحاب الامتياز من حكام ورأسماليين وإقطاعيين ونبلاء وأمثال ذلك، ثم إن نفس رجال الدين في أوروبا كانوا يتمتعون بامتيازات كبيرة جدًا من حكم أو إمارة أو أوقاف أو وسائل الزينة الكثيرة، ثم كان الرجل يرِث أيام اسكولاستيك... -أيام التي نحروا [فيها] العلم بحجة أن أفكار أرسطو وأفلاطون وغير ذلك أفكار مقدسة لا يجوز الخروج عليها، ولا يمكن أي فكرة جديدة تُعرَض- كان قد عاش هذه الفترة وبعد هذه الفترة، فساعدته هذه الظواهر الاجتماعية على تبنّي فكرة المادية العلمية وعلى فكرة الإلحاد، حتى يتخلص من الجذور والفروع والحواجز التي توضع في وجه تطور المجتمع أو في وجه العدالة التي هو ينشدها.
إذا لاحظنا هذه الظروف كما ذكرت الصراع بين العمال والفلاحين والموظفين وبين أرباب العمل من جانب، استمرار تأثير أيام اسكولاستيك وتأثير الجوانب الدينية من جانب، فكرة نظرية القيمة ونظرية القيمة الفائضة من جانب، اقتران هذه الأمور كوّنت مع آرائه العلمية هذه المدرسة التي نسمّيها بالمدرسة الماركسية، ذات الفلسفة المادية العلمية، وذات منطق dialectique، وذات الاقتصاد الشيوعي، وذات اجتماع socialisme، مجموعة هذه النتائج كانت خلاصة الأفكار والظروف الموضوعية التي كان يعيشها هذا الرجل في عصره.
ذكرت هذه النقاط حتى ننتقل إلى بعض المناقشة في مقارنة نظرية ماركس، أولًا، فكرة Thèse وAntithèse هذه الفكرة لها جذور عميقة في الفلسفة الشرقية، الفلسفة الشرقية تسمي فكرة Thèse و  Antithèseبالهيولى والصورة أو المادة والصورة، والمقصود من المادة مقابل الصورة شبيهة جدًا بـ Thèse و Antithèseمع بعض التفاوت في أبعاد التفكير.
الفلسفة الشرقية كانت تقول ولا تزال، أن أيّ موجود في العالم له حالة فعلية، كل وجوده وليس جزءًا من وجوده، الحالة الفعلية التي تشكل واقع هذا الشيء، هذا يسمى بالصورة، مثلًا: حبّة قمح. حبّة قمح فعلًا حبّة قمح دون أي تردد مؤلفة من مواد، من كميات من نيتروجين، من كميات من كربون، من كميات من مواد أخرى: لونها كذا، حجمها كذا، وزنها كذا، طعمها كذا، كل هذه المشخصات التي تشخص وتميز الحالة الحاضرة لحبّة قمح؛ هذه الصورة، يعني الحالة الفعلية شبيهة بفكرة Thèse، ويقول أيضًا الفيلسوف الشرقي أن هذه الحبّة التي في شكلها الحاضر حبّة، جماد هذه الحبّة تصلح أن تكون نباتًا في المستقبل، أليس كذلك؟ هذه الحبّة لو وضعناها تحت الأرض وفي مناخ ملائم تتفجر وتتحول إلى نبات، بينما حبّة ثانية قطعة من الصخر ولو كان بحسب الشكل مثل هذه القطعة سوف لا تصبح نباتًا أبدًا، ولو كان شكلها الحالي مثل شكل هذه الحبّة.
فإذًا، لحبّة قمح مشخصان، ميزتان، وجودان حقيقيان: وجود فعلي إنها جماد، إنها مواد معينة، شكل ولون وطعم وأبعاد خاصة؛ وبنفس الوقت هذه الحبّة تصلح أن تكون نباتًا، أن تكون سنبلة، أن تكون علفًا، بينما غير هذه الحبّة لا تصلح، الحبّات الأخرى ما عدا حبّة القمح لها نتائج ثانية تختلف عن هذه النتائج.
هذا الوجود الثاني، يعني هذه الحبّة تصلح أن تكون شيئًا آخر، هذا يسمونه هيولى أو المادة، ويعتبرونه أضعف درجات الوجود في مصطلح الفلاسفة، باعتبار أنه ليس هناك من وجود فعلي، هناك وجود بالقوة، هناك وجود في المستقبل وليس الآن لها وجود.
فإذًا، هذان الوجودان، الوجود الفعلي والوجود القوّي، الوجود الذي سوف يتحول إليه الوجود الفعلي، وجودان يشبهان إلى حد ما Thèse وAntithèse، ونحن تمامًا نقدر أن ندرك أن هذا الوجود الفعلي يتحول تدريجًا إلى ما هو بالقوة، لأنه هذه الحبّة تدريجيًا تفقد حالتها الحاضرة وتتحول إلى حالة أخرى، سمِّه الصراع أو سمِّه تحوّل الصورة إلى المادة، أو بتعبير أدق تحوّل المادة إلى الصورة.
هذا المبدأ مبدأ منطقي وفلسفي في الفلسفة الشرقية، هذا المبدأ موجود في الفلسفة. ماذا يكون حينما يتحول هذا الموجود إلى موجود آخر؟ الموجود الآخر الذي صار موجودًا فعليًا أو بالمصطلح الفلسفي صار صورةً، هو كان مادة فصار صورة. ليس هناك شيء ثالث بل هناك تحوُّل القوة إلى الفعل، لا نقف عند هذا الفرق، لكن إعطاء فكرة [فقط] حتى نتمكن من وضع تفصيل وفرق طفيف بالنسبة لنوعية التطورات الاجتماعية.
النقطة الثانية، الإنسان متأثر ببيئته، لا شكّ أن الإنسان الذي يولد في الساحل ويعيش في الساحل في درجة ارتفاع معينة، ودرجة من الحرارة معينة، ودرجة من النور معينة، ودرجة من البرودة والرطوبة معينة، يختلف هذا الإنسان جسمًا وشكلًا وحتى فكرًا مع الإنسان الجبلي؛ هذا المثل المعروف: فلان ابن جبل، ابن الجبل أقسى، أصلب بطبيعة المناخ الذي يعيش فيه، ليست قاعدة كليّة، لكن من الموجبات أن الإنسان الذي يعيش في المناطق الحارة والمناطق الباردة، الإنسان الذي يجد الشمس أكثر... تفاوت الإنسان واضح بحسب المناخ.
ما هو الفرق بين الإنسان الأبيض والإنسان الأسود والإنسان الأحمر والإنسان الأصفر؟ [هل] هناك تكوين مختلف؟ لا يوجد تكوين مختلف، الإنسان موجود واحد. المناخ يفرض على الإنسان الأفريقي التطور الجسدي، تغيُّر وضع الأنف بالنسبة لكميات الأوكسجين من الجوّ، وحاجته إلى اتساع ثقب الأنف حتى يأخذ كمية أكثر من الأوكسجين، أو اللون الأسود أو الشعر المجعد أو أمثال ذلك من الأمور، شيء طبيعي أن أيّ مناخ وأيّ طبيعة لها تأثير على الإنسان، جسميًا وحتى نفسيًا. والبيئة التي يعيشها الإنسان من بيت، عائلة، من شغل، من عِشرة، من نوع العمل الذي يمارسه وأمثال ذلك، أيضًا لجميع ذلك تأثير كبير على وضع الإنسان وعلى أفكار الإنسان ونفسية الإنسان.
نحن نعترف بهذا، صحيح أننا لا نقبل من الماديين أن الإنسان ظاهرة مادية فحسب، ولكن بإمكاننا أن نقول إن البيئة المادية لها تأثير فعّال في وجود الإنسان، هذا لا يُنكره أحد.
إذا كانت العناصر المادية التي تُحيط بالإنسان هي التي تشكل الإنسان أو تؤثر في تكوين الإنسان، لماذا يُقسِّم ماركس والماركسيون المجتمع إلى طبقات حسب عامل واحد؟! هذا العامل هو مالكية وسائل الإنتاج، وعدم مالكية وسائل الإنتاج.
الآن لاحظوا معي تطور المجتمع في المادية التاريخية. المجتمع أربعة أقسام بموجب تحكم الطبقات الأربع في المجتمع، لماذا المجتمع أربع طبقات؟ لماذا نحن نعتبر المجتمع أربعة أقسام، ونأتي ونقول المالكون لوسائل الإنتاج طبقة، والفاقدون لوسائل الإنتاج طبقة، حسنًا! وبين الفاقدين لوسائل الإنتاج كم وكم من فروق، لماذا اعتماد هذه النقطة بالذات؟ لا شكّ أنها نقطة مهمة، لكن لماذا اعتماد هذه النقطة بالذات في تصنيف حياة الإنسان والأفراد؟
أنا أعتقد أن ماركس فتح عينيه ووجد بوادر الصراع بين فاقدي وسائل الإنتاج وواجدي وسائل الإنتاج، فاعتمد على هذه الظاهرة العصرية المعاصرة له واعتمد عليها واعتبرها نوع من المثال لجميع أصناف التاريخ وتحولات التاريخ وأنظمة التاريخ. بينما أنا أتصور أن تجاربنا المعاصرة الآن تتخطى هذه التجربة، تجاربنا المعاصرة تؤكد أن الصراع ليس بين العامل وربّ العمل فحسب، اليوم نحن نعيش صراعًا عالميًا بين الجيل الصاعد وبين المجتمع، فَسِّرها لي حسب تفسير ماركس حتى نرى بأيّ تطور من التطورات الأربعة، وبأيّ طبقية من الطبقات الأربع ممكن أن تفسر هذه الظاهرة الحاضرة التي نعيشها؟ ثورة الشباب -ولا فرق بين الشاب أن يكون ابن طبقة أرستقراطية وألّا يكون- كما أن ثورتهم ليست فقط ضد مالكي وسائل الإنتاج فحسب، [بل] ضد جميع الأنظمة بما فيها... ضد كل النظام بما فيه القسم العمالي والقسم الرأسمالي وكل الأقسام.
صراع آخر نشاهده في أيامنا، ثورة الطلاب سواء كانت ضد الجامعات أو ضد المدارس أو ضد القضايا الدراسية والتربوية، أسميها ضد النظام، فليكن! أنا معك أن ثورة الطلاب ضد النظام، فَسِّرها لي حسب تفسير المادية التاريخية لماركس، أيّ نوع من أنواع الصراع الأربعة؟ هل هو صراع بين الإقطاع وبين الكنون الأولية؟ أو بين الرأسمالية وبين الإقطاع؟ أو بين الطبقة العمالية وبين الرأسمالية، أيّ واحد منهم؟ لا يوجد شيء من هذا النوع.
ننتقل إلى ما نشاهده في جميع العالم من الصراع بين القطاعات المختلفة من مجتمعٍ واحد -أرجو الانتباه لهذه النقطة- الصراع بين القطاعات المختلفة في مجتمع واحد؛ الآن نحن أمامنا صراع بين المعلمين وبين أصحاب المدارس، بين الطلاب وبين المعلمين، بين القضاة وبين المحامين، أليس كذلك؟ ألا نعيش هذه الصراعات؟ يعني بإمكاننا أن نقول أيّ قطاع من قطاعات المجتمع دون فرق. الآن... منذ مدة أضرَبَ العمال حول مشكلة الضمان، ثم أضرَبَ أصحاب المصانع؛ منذ مدة أيضًا المحامون أضربوا أقرّوا قانونًا، أصحاب المحلّات أضربوا في المقابل.
المجتمع أصبح ينقسم في [...] إلى قطاعات، كل قطاع يريد أن يأخذ كل الخير لنفسه، يقابله في هذا الطمع قطاع آخر يخسر من هذه المحاولة فيتكتل القطاع الآخر ويصارع القطاع الأول. من باب المزح، مساء ليلة الغدير في صيدا كنت أقول: لو عشنا طويلًا سوف نشاهد صراعًا من نوع آخر، صراع الأبناء ضد الآباء، وصراع الإخوة الكبار ضد الإخوة الصغار، وصراع العمّات ضد الخالات، وصراع الزوجات ضد الأزواج، وصراع الأزواج ضد الزوجات... لا أمزح سوف يكون، لماذا؟ لأن طبيعة التصادم المادي، المادية التي هي قاعدة التفكير وتكوين المجتمع الحديث، وطبيعة التجمع، يعني نموّ المجتمعات الذي هو طبيعة نموّ وسائل الاتصالات: سيارات وبرقيات وتلفزيونات وجرائد وأخبار، يعني كل واحد مطَّلع على وضع الجميع.
أيّ صراع كان جاريًا في سابق الزمن بصورة فردية يتحول في هذا العصر إلى صراع جماعي: نقابات العمال، نقابات الموظفين، نقابات أصحاب المصارف، نقابات موظفي المصارف، نقابة الملتزمين، نقابة... كلها، وكل نقابة حريصة على مصلحة القطاع الخاص بها، ومسؤولة عن المصلحة الخاصة بأبناء هذه النقابة. من الذي قال إن كل الصراع... الآن ماركس يريد أن يرجع ويقول هذا الصراع كيفي وكمّي، (الفرق بين التبدّل الكمي والتبدّل الكيفي) مع العلم أن الصراع بين الطبقة العاملة وأصحاب الأموال أقلّ بكثير من ثورة الشباب ضدّ الأنظمة القائمة، لأن ثورة الشباب ثورة عارمة شاملة، كل الجيل الصاعد يعني أشمل بكثير من الثورة العمالية باعتبار أن الثورة العمالية تشمل قطاعًا ولو كانت الأكثرية.
فإذًا، أريد أن أقف عند هذه النقطة وأرجو ألّا نضيع في تفصيل الحديث، وقفة ماركس عند صراع العامل وربّ العمل، وتصنيفه وتقسيمه للمجتمع من خلال هذه الزاوية؛ هذه ظاهرة عاشها ماركس بالذات، واليوم عصرنا تخطى نطاق ماركس وتفكير ماركس، وعصرنا يؤكد اليوم بأن المشكلة ليست مشكلة القيمة وفضل القيمة والماكنة وتجمّع العمال، مشكلة المادية، مشكلة الجشع والطمع ولو بين الأفراد، ولو بين الزوج والزوجة. أيّ إنسان، حينما يعيش فرد أو مجموعة أفراد بأفكار مادية، وهذه المجموعة تنوي المزيد من الكسب المادي في حقل الوظائف، في حقل التحسن المادي، في أيّ حقل من الحقول، حينما تريد هذه المجموعة أن تتخطى العدالة يعني القيَم، التي لا يؤمن بها المجتمع الحديث المادي ويعتبرها شيء موهوم، إذا تخطينا القيَم، أيّ فئة، أيّ فرد، أو أيّ مجموعة تحاول أن تأخذ الخيرات الأكثر والأكثر لنفسها، ستصطدم بفئة ثانية، الفئة الثانية تتكتل، الفئة الأولى تتكتل، يبدأ الصراع.
فإذًا، الصراع ليس أمرًا ذاتيًا للمجتمعات وإنما هو نتيجة الأطماع والشَرَه والجشع والرغبة في المزيد من المكاسب. نحن نعيش حالة تشبه الثورة في الطوائف: لماذا اليوم البروتستانت والكاثوليك في لندن ديري في إيرلندا، ما هو الصراع، فسِّره لي؟ الصراع على المكاسب والوظائف والمراكز وأمثال ذلك.
الثورة الناعمة التي مرّت وتمرّ على الطائفة الشيعية في لبنان، نتيجة للحرمان وليست قضية طبقة عمالية، باعتبار أن الطوائف الأخرى... أصحاب المكاسب والامتيازات احتكروا وتمسكوا وخرجوا عن العدل، اضطر هؤلاء أنه يجب أن يتكتلوا ويشكلوا مجلسًا شيعيًا ويعملوا هذه المسائل لأجل العدالة.
الصراع، صراع ليس ذاتيًا للموجودات أبدًا، الصراع نتيجة للمزيد من الطمع، والمزيد من الطمع يصطدم حتمًا بالصراع من الجانب الآخر، وإذا الجانب الأول تكتّل الجانب الثاني في تكتّل، إذا الجانب الأول تسلّح الجانب الثاني يتسلّح وهكذا، هذا شيء طبيعي.
فإذًا، نحن لا نقدر أن نقول إن المجتمع طبقات، هذا وهْمٌ مطلق ولا أساس له أبدًا، لا يوجد طبقات. الطبقات في دماغ ماركس والماركسيين ومن يتبعهم، وُجِدت الطبقات، حاولوا أن يصنفوا المجتمع وساعدهم على ذلك الظلم المُعاش، يعني ظلم أرباب العمل الذين كانوا يظلمون بالفعل؛ هذا الظلم ساعد ماركس على تكريس نظريته وقبول الآخرين بنظريته، وإلّا إذا كانت العناصر المادية [هي التي] تكوِّن الإنسان فكل فرد في العالم له شروط تختلف عن شروط فردٍ آخر.
المجتمع أفراد، وليس طبقات أبدًا، هذا هو الرأي. إذا كان هناك عنصر مالكية وسائل الإنتاج أو لا مالكية وسائل الإنتاج، يُقسَم المجتمع إلى قسمين، فقُل إن العمر القليل والكثير يُقسِّم المجتمع إلى قسمين: الساحلية والجبلية –الطائفية-، الطوال والقصار أيضًا نوعان، البيض والسود والسمر أيضًا نوعان، المشكلة العنصرية كيف تُفسَّر عند ماركس؟
مشكلة التمييز العنصري والعنصرية كيف تُفسَّر؟ أيضًا، بتفسير اقتصادي! لا شك أن الصراع الاقتصادي والمطامع الاقتصادية لها تأثير، لكن الاقتصاد مكسب من المكاسب، لو افترضنا أنهم أعطوا للسود في أميركا مالًا، لكن البيض [هم الذين] احتكروا. كما في أميركا [كذلك البيض] في جنوب أفريقيا، احتكروا المراكز، بطبيعة الحال السود يجب أن يثوروا، لماذا احتكرتم رئاسة الجمهورية والوزارة والنواب والكذا والكذا والكذا وأعطيتمونا عشرة نواب مثلًا، لو افترضنا أن حالتهم المادية كانت جيدة، وأساسًا لماذا يحتكرون هذه المراكز؟
فإذًا، قضية الصراع داخل المجتمع هي قضية الطمع والظلم، وردّ الفعل من الطرف الآخر؛ وهذا الصراع الذي هو تجسيد من مادية التفكير كان بشكل فردي، فتحول اليوم إلى شكل جماعي، وليس بعيدًا أن يصير في المستقبل ثورة القصار ضد الطوال إطلاقًا، ليس بعيدًا أبدًا، إذًا، بالفعل الطوال حاولوا أن يحتكروا مراكز معينة.
وهكذا بالفعل إذا فتشنا في أوضاعنا الاجتماعية نجد كثيرًا من هذه المواضيع، وأبرزها ثورة الشباب، ثورة الطوائف، ثورة العناصر وهكذا لنعيشها لاحقًا.
فإذًا، نحن لا نؤمن بالصراع من الناحية الفلسفية، نؤمن بالقوة والفعل ومعنى القوة والفعل إطلاقًا ليس في معناه الصراع، ولا نؤمن بالطبقات، ماذا يحصل نتيجة هذه الفكرة؟ إن المجتمع مؤلف من أفراد، الوحدة في المجتمع هي الفرد وليس الطبقة، هذه هي الوحدة، كل فرد يختلف عن الآخر، لماذا يختلف؟ لكي يعطي ويأخذ كما قلت، والآية الكريمة التي تُكرّس وتُفسِّر هذا المبدأ هي الآية التالية: ﴿وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم﴾ [الزخرف، 31]، أيام الجاهلية كانوا يعتبرون أن الرَّجُلين أحدهما في مكة وواحد في الطائف كانا من كبار الأغنياء، قالوا لماذا القرآن ينزل على محمد الفقير، اليتيم، الأمين، ولا ينزل على أحدٍ من الرجُلين؟: ﴿وقالوا لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم﴾ [الزخرف، 31]، هنا حاولوا أن يُعطوا للغنى الامتياز المطلق، حسنًا! يا سيدي، هذا الرجل الوليد مثلًا غني كبير، الناس يقولون أيضًا الغني الكبير يجب أن ينزِل عليه القرآن، يعني الإيمان بالميزة المطلقة للمال، المُرابي طبعًا حينها: ﴿وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم * أهُم يقسمون رحمة ربك﴾ [الزخرف، 31-32]؟  القرآن يرفض ويقول: الغني، أتعتقد أن الغني أمرٌ عظيم: ﴿أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم﴾ [الزخرف، 32]،  كيف قسَّم الله؟ الظروف الاجتماعية المعروفة، أرجو الانتباه لهذه النقطة: ﴿نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا ورحمة ربك خير مما يجمعون﴾ [الزخرف، 32].
قالوا القرآن يكرّس الاختلاف الطبقي، أولًا ليس طبقيًا: ﴿بعضهم فوق بعض﴾، ليس درجات، ليس طبقات، ولا فئات، وأساسًا البعض يعني الجزء، ما معنى هذه الآية؟ صَدْر الآية، ذيل الآية، الآيات المقارنة، المفهوم واضح أن الأفراد في المجتمع يختلف بعضهم عن بعض، هناك فئة عندها استعداد للطب، وفئة عندها استعداد للزراعة، هناك فئة عندها استعداد للمحاسبة، عندهم فئة عندها استعداد للدراسات الدينية، فئة عندها استعداد للكتاب، هذا الشيء الذي نشاهده. كما أننا نشاهد الفئات المختلفة في المجتمع: هناك طوال وهناك قصار، وهناك بيض وهناك سمر، وهناك شعور مجعّدة وهناك شعور ناعمة... كما أن الأشكال تختلف، الكفاءات تختلف، تفاوت الكفاءة ماذا يصنع؟ يجعل المتفوق في كفاءة فوق غير المتفوق في نفس كفاءته، لا في سائر الشؤون، ما في إطلاق في التفضيل. الآن ربما بينكم طبيب، أنا أقود الطبيب القائم هنا، أو المحامي الموجود هنا، أو المحاسب الموجود هنا، أنا أقوده دينيًا، وبنفس الوقت، إذا الآن أنا شعرت بألم في قلبي أُضطر أن أستسلم أمامه، هو سوف يقودني في عمله الطبي.
﴿ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا﴾ [الزخرف، 32]، لا يوجد تفوّق مطلق أبدًا في العالم، الفئات الدينية -أصحاب الكفاءات الدينية- فوق الآخرين في حقل الدين فتقود الآخرين في حقل الدين؛ هناك فئات أخرى متفوقة في علم المحاسبة وفي إمكانات المحاسبة، هؤلاء يُخْضِعون أكبر الناس وأصغر الناس لكفاءاتهم المحاسبية، والعالم مضطر أن يستسلم لهم؛ هناك فئات اختصاصها المحاماة، في الطب، في كل شيء. فكل إنسان وكل بعضٍ، حسب تعبير القرآن، فوق الآخرين في كفاءاته المعينة، ويقود الآخرين في حقل هذه الكفاءات؛ وبنفس الوقت ينقادون للآخرين الذين يفوقون هذا البعض بالكفاءات الأخرى. لا يوجد في المجتمع واحد أحسن من الثاني أبدًا، كل الناس كأشكال مختلفة، كل شكلٍ جميلٍ في وقته وكل كفاءة ضرورية في وقتها دون امتياز. هنا المفهوم القرآني شعور الإنسان بالرغبة في البروز وبالرغبة في التفوّق، هذا الشعور موجود، هذا الشعور والطموح البشري أنه يرغب أن يكون أحسن من الآخرين، هذا شيء أكيد من الطبيعة البشرية.
الإسلام يحاول أن يوجه هذا الشعور إلى المسابقة: و﴿استبقوا الخيرات﴾ [البقرة، 148]، و﴿سابقوا إلى مغفرة من ربكم﴾ [الحديد، 21]، وأمثال ذلك: ﴿وسارعوا إلى مغفرة من ربكم﴾ [آل عمران، 133]. ماذا نستفيد من هذا التوجيه؟ حينما نوجّه طموح الإنسان إلى المغفرة، يعني إلى الخير، إلى التضحية، إلى العلم، إلى المزيد من العدالة، إلى الفكر نتجنب التصادم، وإلّا إذا نريد أن نوجّه الطموح البشري نحو المادة، أنت عندك طموح نريد المزيد من المال والمزيد من البيت والمزيد من السيارات، هذه هي النتيجة، نتيجته حتمية: الصراع وتزايد الصراع والتسلح والحرب والمآسي والاستعمار والاستثمار والذي نعيشه؛ الذي نعيشه، ما تفسيره؟ الصراع بين العمالقة في العالم: مشكلة فييتنام، مشكلة لاوس، مشكلة كمبوديا، مشكلة الشرق الأوسط، مشكلة ألمانيا، مشكلة تشيكوسلوفاكيا، مشكلة كل الدنيا، ما هي مشكلتهم؟ الصراع المادي بين الكبار وبين الصغار.
فإذًا، الحروب والصراع والاستثمار والاستعمار وما وراء ذلك كله ينتج نتيجة للطموح البشري اللامحدود والواقع الحياتي المحدود، بطبيعة الحال يصطدم ويكوّن مشكلة. بينما إذا وجهَّنا الطموح نحو المادة والمعنى، مجال الطموح مجال واسع لا يصطدم؛ بعبارة أخرى يحاول الإسلام أن يوجه الرغبة في البروز إلى المسابقة والمنافسة لا إلى الصراع والنزاع.
هناك نقطة أخيرة أُكملها، أنه نحن بناءً على ذلك لا نؤمن بتقسيم المجتمع إلى طبقات، بل نقول أن المجتمع جسم واحد، كل بعض من هذا المجتمع له صفة، لا يوجد صراع بل هناك تنافس وتعاون، Thèse وAntithèse ليسا متصارعين، نظرية القيمة غير كاملة وغير كافية كما بحثناها، وبالتالي التاريخ لا يُفسَّر تفسيرًا ماديًا كما فسّره ماركس، بل العوامل المحرِّكة للتاريخ كثيرة وكثيرة. وإذا درسنا التاريخ بشكل دقيق نرى أن التاريخ، الـ matérialisme التاريخية لا يوجد في أي حقيقة ما عدا دماغ ماركس، واقع التاريخ لم يكن هكذا إطلاقًا.
أولًا، المجتمعات كانت تختلف، تطور المجتمعات كان يخضع إلى درجة كبيرة لدعوة الأنبياء، وليس للتطور الاقتصادي أبدًا، وإن كان التطور الاقتصادي ذا دور كبير في حياة الإنسان والمجتمعات، ولكن دعوة الأنبياء، دعوة المصلحين، وأمثال ذلك كانت من الأسباب المحرّكة للتاريخ.
على هذا الأساس نتمكن أن نضع إلى جانب الآراء التي سبق وذكرناها، نظرية القيمة من الناحية الاقتصادية وما بحثنا حولها إلى جانب ذلك المنطق الدياليكتيكي، كما قلنا قضية مادة وصورة وليست قضية صراع بين Thèse وAntithèse وSynthèse، ولا دليل على ذلك إطلاقًا، لا نريد أن ندخل في المواد الأخرى عن اجتماع المتناقِضَين وارتفاع المتناقِضَين إلّا في بحث آخر إذا أردتم، والمجتمع ليس منقسمًا إلى طبقات، والتاريخ ليس هو صراع الطبقات إطلاقًا.
هذه هي رؤيتنا عن المجتمع المقارن، كل فرد له كفاءة وكل مجموعة أفراد لها كفاءات والمجتمع مختلِف، مختلِف الأشكال حتى تتأكد قضية التعاون بين الأفراد بعضهم مع بعض، وبالتالي هناك وحدة؛ مجموعة يحتاج بعضها إلى بعض بشكل متين، وهذه الحاجة هي التي تؤكد الوحدة وتنبع من التفاوت وليس هناك من تفاوت بين الطبقات.
والصراع الذي يبدأ وينمو ويتحول للاستعمار والاستثمار، ثم الحرب الباردة، ثم الحرب الساخنة وأمثال ذلك، كله نتائج للقاعدة التي انطلقت منها الحضارة الجديدة وهي المادية؛ مأساة، أليست مأساة الرأسمالية ومأساة الاشتراكية؟! حتى في المجتمعات الاشتراكية المأساة تستمرّ، في الساعة التي معدّل الدخل ازداد من الحاجة، أو في الساعة التي وجد المجتمع -حتى المجتمع الاشتراكي- سوقًا مناسبًا لاستهلاك بضاعته تأتي قضية الاستثمار فورًا، الآن تصدير البلاد الاشتراكية لا يختلف عن تصدير البلاد الرأسمالية، فرضنا أكثر إنسانية، المشكلة مشكلة الرغبة المادية، الرغبة المادية والمادية في التفكير الذي تحوّل القومية إلى العنصرية والوطنية إلى السلبية، هذا هو.
الإنسان الوطني، الوطنية أليست أشرف الأشياء! لماذا نحن نكره؟ لماذا نحن نتهجم على زعماء أميركا أو بريطانيا أو فرنسا أو إسرائيل مثلًا؟ أليسوا خُدَّام وطنهم هم؟ هم يخدمون وطنهم، لماذا نحن (زعلانين)؟ الوطنية، إذا كان حُبّ الوطن مطلقًا ومقدسًا وشريفًا، لماذا (نزعل) من الناس الذين يحبّون وطنهم؟ نعم الوطنية ممتازة لكن ليس الوطنية السلبية، يعني أليست خدمة الوطن على رأس الآخرين، يعني الوطنية الإيجابية لكن، خذ المادية... الوطنية التي هي عنصر شريف وصفة شريفة تتحول إلى صفة سلبية، وإلى تمييز عنصري وإلى صهيوني وإلى نازي وإلى فاشي وإلى كل هذه المصائب التي يعانيها المجتمع البشري الحديث.
فإذًا، أساس البلاء في التفكير المادي ليس في الصراع الطبقي ولا في الـ mécanisme كما يسمونه الماكينية بل المادية، والمادية هي التي تحوّل المنافسة إلى الصراع، والصراع ليس منحصرًا في العامل وأصحاب العمل بل يمتدّ لجميع الجذور.
هذا عرض سريع لأبحاث متعددة، حاولت أن أُقرنها بفكرة نظرية القيمة، بإمكانكم أن تعتبروه بهارات على الحلقات الماضية وختامًا لها.
والسلام عليكم.

source
عدد مرات التشغيل : 2